حتى نحاول تسهيل فهم ما يجري في العراق حاليا من أمور تستعصي علي الفهم، لا بد من سرد هذه الواقعة، التي يمكن ان تلخص طبيعة المخططات البريطانية والامريكية، الحالية والمستقبلية للعراق وشعبه: قبل ثلاثة ايام، وبالتحديد يوم الثلاثاء الماضي استقبل السيد توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السيدة نسرين برواري وزيرة الاشغال العامة في العراق الجديد.
السيد بلير ابدي حفاوة بالغة بالضيفة العراقية، وزادت هذه الحفاوة عندما علم انها كردية. الخبر ليس هنا، وانما عندما حاول رئيس الوزراء البريطاني ان يتباسط مع ضيفته ويستعرض معلوماته بالشأن العراقي امامها، وذلك بسؤالها عما اذا كانت اللغة الكردية هي احدي اللهجات العربية المحلية في كردستان العراق؟
الوزيرة العراقية اسقط في يدها، وشعرت باحراج كبير، واضطرت الي ان تقدم شرحا مبسطا عن القومية الكردية الي مضيفها، والاختلافات الكبيرة بين اللغتين العربية والكردية، وتاريخ الصراع الكردي السياسي والعسكري مع الحكومات العراقية المركزية في بغداد.
ما نريد ان نقوله ان رئيس وزراء بريطانيا، الدولة التي كانت الاكثر مشاركة للولايات المتحدة في الحرب علي العراق، بل الدولة التي رسمت حدود العراق الحديث، لا يعرف المعلومات الاولية عن هذا البلد، وخريطته الديمغرافية والطائفية، ولا يدرك الفوارق بين العرب والاكراد!
فاذا كان روبرت مكنمارا وزير الدفاع الامريكي اثناء حرب فيتنام قد اعترف بأنه لم يقرأ كتابا واحدا عن هذا البلد وتاريخه وثقافته قبل ان يرسل قواته لغزوه، فماذا نقول عن رئيس وزراء بريطانيا الذي يوصف بأنه في قمة الذكاء والدراية، وقاد حزبه الي تحقيق اكبر انتصار سياسي في تاريخه عندما حقق فوزا ولمرتين متتاليتين في الانتخابات العامة وباغلبية كبري. واذا كان هذا هو حال رئيس وزراء بريطانيا المعروف بذكائه، فكيف هو حال الرئيس الامريكي، الاكثر ذكاء وفطنة، اي جورج بوش؟!
ان هذه الواقعة البسيطة في تفاصيلها، العميقة في مدلولاتها، تؤكد زيف كل الادعاءات التي اطلقتها الحكومتان الامريكية والبريطانية حول الحرص علي الشعب العراقي، وتحريره من الدكتاتورية، واقامة نظام ديمقراطي نموذجي في المنطقة.
العدوان علي العراق لم يكن من اجل الديمقراطية، وتوفير الحريات والرخاء للشعب العراقي، كما انه لم يكن من اجل تدمير اسلحة الدمار الشامل، فالديمقراطية ما زالت بعيدة، واوضاع العراقيين المعيشية باتت اسوأ مما كانت عليه، فبعد عام من الاحتلال الامريكي ما زالت الكهرباء حلما، والامن معدوما، وعمليات القتل والخطف والاغتصاب في تصاعد.
امريكا ارسلت قواتها الي العراق من اجل ان تبقي هناك، وتسيطر علي البلد، تمهيدا لتفكيكه علي اسس طائفية وعرقية، تماما مثلما فعلت في يوغسلافيا والكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي وكوريا.
الدستور العراقي المؤقت الذي امر بول بريمر اعضاء مجلس الحكم بتوقيعه، وسحب كل تحفظاتهم عليه، هو الخطوة الاولي في هذا المخطط، فقد نص صراحة علي الفيدرالية، وهذه الفيدرالية هي التشريع القانوني والدستوري لبلقنة العراق.
الحديث عن الحرب الاهلية في العراق هو الخطوة التمهيدية لاندلاعها، بعد تهيئة الاجواء الملائمة، فليس صدفة ان يعلن المتحدثون الامريكيون عن مسؤولية القاعدة وابو مصعب الزرقاوي عن مجزرة كربلاء بعد دقائق من حدوثها، وقبل ان تبدأ التحقيقات رسميا لمعرفة الجهات الارهابية المتورطة فيها. وليس صدفة ايضا ان يتم توزيع رسالة ابو مصعب الزرقاوي المزعومة عن عزمه ارتكاب مجازر في حق الاشقاء الشيعة لاشعال فتيل الفتنة الطائفية.
فكيف عثرت الولايات المتحدة علي هذه الرسالة، ولم تعثر علي صاحبها، بل كيف استطاعت القبض علي صدام حسين، وقتل ولديه، ولم تستطع الوصول الي الزرقاوي، وهو الغريب عن البلد، ويتحرك بساق خشبية؟
الاجهزة الامريكية التي فبركت مزاعم اسلحة الدمار الشامل، وتحدثت عن المعامل الكيماوية العراقية المتحركة، واسهبت في عرض صور بالاقمار الصناعية لها، لا يمكن ان تعجز عن فبركة رسالة للزرقاوي يتحدث فيها عن مخططاته لاذكاء نار الفتنة الطائفية، وهي رسالة لا يمكن ان تنطلي علي طفل في الابتدائية.
الحرب الاهلية ستكون الذريعة الاساسية لتقسيم العراق علي اسس طائفية وعرقية، وهذا ما يفسر قلق جيران العراق من الدستور الجديد المؤقت، وخاصة الاتراك علي وجه التحديد. اما العرب فليسوا في الحسبان، ولا يعيرهم احد اي اهتمام. وباتوا بلا قيمة او وزن، ولا يجرؤ زعيم عربي واحد ان يبدي رأيه في الشأن العراقي، ناهيك عن معارضة الدستور او التعبير حتي عن القلق من نتائجه علي مستقبل العراق.
نحن الان علي ابواب مسرحية جديدة تبدأ فصولها في اواخر حزيران (يونيو) المقبل، حيث ستسلم الادارة الامريكية السلطة الي مجلس الحكم العراقي وسط احتفالات وكرنفالات اعلامية، وبعد ذلك تنسحب قواتها الي قواعد دائمة حصينة خارج المدن العراقية، وتترك العراقيين يتقاتلون في ما بينهم حتي تقول ان التعايش بات مستحيلا، وان التقسيم هو العلاج الاخير.
السؤال المطروح هو حول شرعية هذا الوجود العسكري الامريكي، والاساس القانوني الذي يستند اليه، وموقف الاطراف العراقية تجاهه.
بمعني آخر، من هي الجهة التي ستوقع علي المعاهدات التي ستسمح ببناء هذه القواعد، هل هي مجلس الحكم الحالي، ام المرجعيات الدينية، ام السلطة المنتخبة، وماذا سيكون عليه الحال اذا لم تجر هذه الانتخابات؟
نعترف ان الوضع العراقي وتطوراته يستعصي علي الفهم، فهمنا نحن علي الاقل، وهل نلام في ذلك، فاذا كان رئيس وزراء بريطانيا لا يعرف، وبعد عام من الحرب الفرق بين العرب والاكراد، فان مستقبل العراق لن يكون ورديا علي الاطلاق.