وثيقة ملغومة: بكثير من الصخب وقليل من الشفافية أعلن رجال مجلس الحكم المعين من قبل سلطات الاحتلال يوم الاثنين الثامن من آذار عن نجاحهم في الاتفاق على صيغة توفيقية لما سمي <<قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية>>. والواقع ان ما تسرب حتى الآن من ردهات وكواليس المفاوضات الماراتونية لا يمكن تسجيله كانتصار لامع للدبلوماسية العراقية، إذ ان دبلوماسية عراقية ذات آليات واستراتيجية تفاوضية مستقلة وقائمة على ثوابت الوطنية العراقية وليس على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية لا وجود لها. وقد يقول قائل حسن النوايا إن العبرة في النتائج الجيدة التي توصل إليها مجلس الحكم وليس في الأسس التي شكل عليها هذا المجلس ذاته والتي يمكن الالتفاف عليها مستقبلا وخلال مواجهة مع الاحتلال. وللرد على هذه المقولة يمكننا التذكير بأن المجلس لم يتوصل من تلقاء نفسه وبجهوده المستقلة والخاصة إلى هذه الصياغات بل هو أوصِلَ إليها بقوة الدفع والضغوطات التي مارسها الحاكم بريمر ومستشاروه الذين كانوا يحركون البيادق على رقعة الشطرنج من خلف الستار.
وللتدليل على صحة هذا الرأي وعلى أن هذه الوثيقة ملغومة وخطيرة، يمكن التذكير بثلاثة أمور متعلقة بهذا الموضوع وهي: أولا الفيتو الذي أعلنه الحاكم الأميركي المدني بول بريمر قبل أن تنطلق المفاوضات على الوثيقة الدستورية في ما يتعلق بموضوع مصادر التشريع وعلاقة الدين بالدولة. وثانيا يمكن التذكير بقرار حسم موضوع شكل الدولة الاتحادي <<الفيدرالي>> مصحوبا بفقرة خاصة تمنح للمحافظات ذات الأغلبية الكردية الثلاث (السليمانية وأربيل ودهوك) حق الفيتو على العملية الدستورية في العراق وبما يرضي الأحزاب القومية الكردية. وثالثا وأخيرا نجاح الاحتلال وأصدقائه الليبراليين وبمشاركة مريبة من بعض الإسلاميين الشيعة في إلغاء هوية العراق العربية والاكتفاء بفقرة هزيلة تقول بأن (الشعب العربي في العراق هو جزء من الأمة العربية)، أما هوية العراق كبلد عربي وكمهد للساميين الأوائل حتى قبل العرب فقد ألغيت بدعوى وجود أقليات إثنية وكأن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يضم أقليات غير عربية إلى جانب أكثر من ثمانين بالمئة من العرب!
الاستنجاد بالمرجعية: لقد جاءت المحاولة الأخيرة لخمسة من أعضاء المجلس المنتسبين إلى الطائفة الشيعية تأخير التوقيع على الوثيقة الدستورية الاحتلالية لتكرس مجموعة من الأهداف أهمها: ترسيخ المرجعية الدينية النجفية بشخص السيد علي السيستاني كطرف فاعل ومهيمن في العملية السياسية أو في الحد الأدنى، وفي الجوهر كمعين وسند لمجموعة الخمسة ذاتها ضد خصومهم الحاليين والمستقبليين، وفي هذا المسلك إضرار بالغ بالمرجعية النجفية وإخراج لها من دورها الوطني العام في إطار مجابهة احتلال الأجنبي وتحويلها إلى قوة حزبية رمزية يستعين بها هذا الحزب أو ذاك ضد من يريد في صراعاته الداخلية. أما الهدف الثاني لجماعة الخمسة فكان إحراج الطرف الحزبي الكردي وانتزاع تنازلات اللحظة الأخيرة منه والمتمثلة كما راج قبل التوقيع بساعات بتعديل يشترط أن تكون أغلبية الثلثين الرافضة للدستور في ثلاث محافظات (غير متجاورة) لتفادي الاتفاق على الأساس العرقي، وقد أُفشِل هذا المسعى وتم التوقيع على الوثيقة كما هي ودون تعديلات إطلاقا بعد أن رفضت الأحزاب القومية الكردية وبدعم من بريمر أن تتراجع عن موقفها. أما الهدف الثالث لمجموعة الخمسة فقد كان الهيمنة على الساحة السياسية داخل الطائفة الشيعية واحتكار نطاقها الميداني والتعبوي والتحول إلى الناطق الرسمي والوحيد باسمها، ولا يبدو أن هذا الهدف قد تحقق منه شيء، ليس لأن لبعض أعضاء مجموعة الخمسة علاقات بالبنتاغون أقوى من علاقاتهم بغيره فحسب، بل لأن جسما سياسيا طائفيا محضا لا ماضي له في العراق ولا مستقبل.
لقد تم التوقيع على هذه الوثيقة المثقلة بالصفات، غير أن من أهم صفاتها هو أنها مؤقتة لأنها لن تكون إلا كذلك أي كما هو الاحتلال مؤقت، وبمجرد أن يطوي الاحتلال خيامه سيطوي الموقعون على الوثيقة الاحتلالية أوراقهم ويلحقون به.
معركة الغد: غير أن تاريخ التجارب الاحتلالية لا يسير بهذا الشكل المستقيم المتواتر. فالاحتلال سيحاول أن لا يخسر مكتسباته المتحققة فعلا أو تلك التي في المتناول، ولهذا فهو سيعمد إلى الانسحاب العسكري والسياسي المكشوفين والبقاء بصيغة يتم الاتفاق عليها في ما بعد مع نظام ستشرف سلطات الاحتلال ذاتها على ولادته وترعرعه. ومن أهم متطلبات تحقيق هذه الاستراتيجية حسم موضوع الاتفاقيات الأمنية التي ستمنح المحتل القواعد العسكرية والمتعلقات الأخرى في شكل اتفاقيات ثنائية مع النظام القادم إلى السلطة في العراق، وهذه ستكون واحدة من معارك الغد الكبرى في العراق والتي لا يمكن خوضها دون استراتيجية سياسية متماسكة ووطنية وليس ثمة ما هو أفضل وأكثر راهنية الآن من شعار المجلس التأسيسي الوطني المستقل عن الاحتلال والقائم على أساس التوافق لا على أساس المحاصصات الطائفية والعرقية وعلى أساس الاستقلال عن الاحتلال ومناهضته.
لقد طرح هذا الشعار / البرنامج من قبل التيار الوطني الديموقراطي العراقي (تجمع من اليسار الديموقراطي الوطني) بعد عدة أيام من سقوط العاصمة بغداد، وأكد أهميته أكثر من مصدر من هذا التيار لوسائل الإعلام العربية والعالمية. وكان من جملة البواعث الدافعة لتبني هذا الشعار هو أن خبرة الشعوب أكدت عبر التاريخ أن الدولة أية دولة كانت حين تنهار بسبب كارثة طبيعية أو هزيمة في حرب يعقبها احتلال على أن السيادة الوطنية تعود إلى شكلها البدائي البسيط، أي انها تعود إلى ممثلي التجمعات السكانية الذين يشكلون ما يشبه الجمعية التأسيسية التي أملتها الظروف الطارئة لتقود عملية بناء الدولة الجديدة وتجسيد السيادة الوطنية عبرها. وهذا ما حدث بالضبط، فبعد انهيار النظام وهرب قياداته واختفائهم وانهيار كل مرافق الدولة، استولى الغزاة على السيادة والسلطات الفعلية التشريعية والتنفيذية والقضائية، ثم شكلوا مجلسا محدود الصلاحيات جدا وأشبه بمجلس للمستشارين يساعد سلطات الغزاة على تسويق سياسات الاحتلال ذاتها، وهنا بالضبط رفع شعار المؤتمر التأسيسي الوطني المستقل والعام وبذلت جهود كبيرة من قبل عدد من التنظيمات والشخصيات العراقية التي تمثل الطيف السياسي العراقي الثلاثي التقليدي، أي التيار اليساري والتيار الإسلامي والتيار القومي العروبي، إضافة إلى ممثلي الأقليات الإثنية في البلاد.
ثابتان رئيسيان: ولقد كانت كل الأمور قابلة للنقاش في هذا المشروع، الشعار، المبادرة إلا ثابتين لا مساومة ولا نقاش فيهم:
الثابت الأول هو أن يكون المؤتمر التأسيسي مستقلا تماما عن الاحتلال ومؤسساته وسلطاته ورموزه.
الثابت الثاني هو أن المؤتمر سيشكل على أساس المواطنة ومبادئ المساواة والحرية وعبر صيغة التوافق الوطني وليس على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. ان انعقاد المؤتمر التأسيسي سيكون البرنامج السياسي الواقعي والممكن للعمل المقاوم، ولكنه سيكون أيضا معركة أخرى وكبرى بكل المقاييس ينبغي كسبها وإنقاذ العراق وشعبه وهويته وخيراته من أشرس وأخطر احتلال في تاريخ العالم المعاصر.
وماذا بعد: إن كون الوثيقة الدستورية الاحتلالية مؤقتة يعني أيضا أنها مرتبطة بالجدول السياسي والعسكري للمحتل، ثم ان كونها مؤقتة لا يعني انها ستتغير مستقبلا بأخرى ثابتة ومختلفة عنها نوعيا، بل هي ستكون الهيكل العظمي الذي سيشاد عليه النظام السياسي لأصدقاء الاحتلال منذ الآن، وأكثر من ذلك فهذه الوثيقة المؤقتة ستكون حكما وفيصلا في النزاعات المستقبلية بين الفرقاء.
لقد كان احتلال العراق أمرا باطلا قانونا، وكل ما سينجم أو ينتج عن هذا الاحتلال سيكون باطلا قانونا أيضا وفق القاعدة الفقهية المعروفة والقائلة (باطل كل ما قام على باطل)، ولقد انتزع بريمر المسلح بترسانة أميركا كلها تواقيع خمسة وعشرين سياسيا عراقيا على وثيقة دستورية لا تساوي ثمن الورق الذي طبعت عليه، فهل سيستطيع انتزاع صمت وخنوع خمسة وعشرين مليون من العراقيين على نظام عميل قادم؟