ينبغي الإعتراف بأن المشروع القومي الكردي يمتلك مخيلة طافحة بالطاقة التي تحول الأوهام الى واقع يستخدمه الأكراد ليلغوا من سبقهم ويتفوقوا عليهم من الناحية الأهمية التاريخية. ولا أدري ان كان هذا الوهم الذي اخترعته هذه المخيلة الكردية بشأن الوجود الأزلي لكردستان الكبرى منذ ماقبل الطوفان قد أخذ طريقه الى المخيلة العراقية العربية. واذا حدث ذلك – وهذه شر المصيبة – فان ذلك فلابد ان يعود الى خطأ تاريخي متجذر متمثل في ضمور المشاعر القومية والوطنية في العقل العربي العراقي.
أن المخيلة الكردية هذه قصيرة الأنفاس وتستند الى أدلة واهية صنعها قوميون متحمسون يلهثون وراء اشارات وتشابهات عارضة وغامضة في بطون التاريخ كتلك التي وجدناها قبلهم في كلمة (شيخ زبير) الي تحولت الى (شكسبير) كي يبرروا وجود للأكراد يعود لما قبل الطوفان بدءاً من إنسان نياندرتال في كهف شانيدر الذي كان كردياً، ومروراً بالمستوطنات الزراعية الكردية في جارمو قبل تسعة آلاف سنة قبل الميلاد، والحضارة السومرية الأكدية الكردية، وملحة جلجامش الكردية، والحضارة الآشورية البابلية الكردية، وجنائن بابل الكردية، والسبي البابلي الكردي لليهود، وحتى طاق كسرى الكردي الساساني.
ولذلك فاننا عندما نتفحص المشروع القومي الكردي في ملامحه التاريخية عن قرب لانجد أن القائمين على صياغته يبدون من أصحاب العقول العلمية كعلماء الآثار أو الأنثروبولوجيا أو اللغات لسبب واحد فقط لأن التاريخ لايسعفهم في توفير تلك المادة التاريخية التي تستطيع أن تطمس الأصل الآشوري لمدينة آشورية عريقة كمدينة أربا أيلو(أربيلا، أربيل) وتعطيها أسماً شكسبيرياً.
والسؤال الذي يطرحه العديد من المتابعين لتطور الايديولوجية القومية الكردية هو إن كان تاريخ الأكراد الحضاري بمثل هذه الغزارة والعمق السرمدي على مر العصور فأين ذهبت آثارهم الباقية ومعابدهم الوثنية، ، وآلهتهم، وتماثيلهم و كتاباتهم، وأنظمة الري والبناء، أين قصورهم وقلاعهم ومدنهم العامرة؟
أن التاريخ يمكن تزويره لصالح الأقوياء لكنه يبقى على أية حال نقطة الضعف في المشروع القومي الكردي، والأكراد لايحتاجون الى التاريخ بعد الآن بعد أن تحولوا الى حكام.
ولكن لماذا لم ينجح الأكراد في إيران وتركيا مثلما نجح الأكراد في العراق؟
واقولها مرة اخرى ولا أكون مغالياً بأن أحد الأسباب يعود الى الضعف الشديد في الوعي القومي عند العرب عكس الإيرانيين والأتراك، وهذه الحالة ينتج عنها شعور بالتغافل عن الذات وإهمال المخاطر الناتجة عن المشروع القومي الكردي. والعرب وحدهم في العراق يزدرون ويخجلون من أصلهم القومي (لكنهم لايتخلون عن قبائلهم ومناطقهم) ويضحون به من أجل وعي عراقي لا يعترف به أحد غيرهم، ولذلك فقد كانت مهمة الأكراد العراقيين سهلة مقارنة بأكراد تركيا وايران، حيث كانوا يقاتلون الحكومة المركزية فقط، وهي حكومة معزولة عن الشعب العراقي الذي يتعاطف مع الأكراد ومع مطالبهم، وفي حالات كثيرة تهرب أعداد كبيرة من الجنود العرب وغيرهم لتلتحق بالعدو الذي ارسلتهم الحكومة لمقاتلته وهي ظاهرة فريدة. وفي عام ۱٩٧۰ كانت فرحة العرب باتفاق ۱۱ آذار ليس بأقل من فرحة الأكراد به، وكان الدستور الجمهوري الأول ينص صراحة عل مقاسمة العراق بين الأكراد والعرب، وهذا لم ولن يفعله الإيرانيون ولا الأتراك.
أن مهمة الأكراد في أيران وتركيا اصعب بكثير عنها في العراق لأن المشكلة لاتتعلق بالموقف الحكومي والرسمي وحده بل أنها تتعلق بوعي قومي تركي وإيراني تاريخي متجذر لايختلف فيه الحكام والمحكومين وهو يحيل رغبة الأكراد في الحصول على ربع ماحصلوا عليه في العراق الى مهمة شبه مستحيلة. وإن بدأ الأتراك الآن بتليين موقفهم أزاء الأكراد فان ذلك لايعود الى بطولات عبد الله أوجلان بل الى الضغط الأوربي الذي يفرض على تركيا تخفيف سياستها ضد الأتراك كشرط لدخولها الى الإتحاد الأوربي.
وهناك سبب آخر لخجل العرب العراقيين من عروبتهم هوعقدة الذنب التي زرعها صدام حسين في ضمائرهم جراء جرائمه ضد الأكراد وهم براء منها، فقد كانت جرائمه ضد الشيعة أكبر بكثير. ورأينا المئات والآلاف من المقاتلين العرب والشيعة خصوصاً من أعضاء وأنصار الحزب الشيوعي العراقي ينضمون الى البيشمركة الأكراد ويقاتلون أخوانهم الجنود العرب بكل نكران ذات، ورأينا كيف كان رجال المعارضة يتسابقون على كسب ود القيادات الكردية في شمال العراق ويقدمون لهم التنازلات المجانية وغير المشروطة وكأنهم كانوا يريدوا أن يبيضوا وجوهاً لطخها السخام ابتداءً بمؤتمر صلاح الدين الذي كان تعبيراً صارخاً عن عقدة الذنب هذه.