هناك حدثان قريبان شاعت أخبارهما في وسائل الإعلام أخيراً ولهما علاقة في تأجيج الذاكرة الكردية وإيقاظها على نحو متسارع الدلالة، وبعيداً عن الخوض في خطوط الهدف الكردي بعموميته، علينا أولاً استشفاف الدوافع التي أججت وشجعت وحضت الأكراد على القيام بإثارة (القضية الكردية في كلا الحدثين على الرغم من اختلاف مناسبتيهما، حيث ان الأول كان تضمين الدستور العراقي المؤقت حقاً يضمن لأكراد العراق الاعتراض وتعطيل أي قرار يتخذه الشعب العراقي من موقع الأكثرية، وبعد ان رأينا “مسرحية” التوقيع وكيف تأجلت جراء تحفظات بعض أعضاء مجلس الحكم المعيّن من قبل سلطة الاحتلال الأمريكية، الذين عادوا للتوقيع عليه وكأن شيئاً لم يكن، تأتي أحداث القامشلي في سوريا من خلال استغلال مباراة كرة قدم من قبل الأكراد الذين قاموا في المدينة المذكورة بالتظاهر هاتفين بشعارات سياسية ذات مطالب قومية كردية ليكون الحدث الأخير تواصلاً مع سياق إيقاظ الذاكرة الكردية التي لم تأت بشكل عفوي بلا شك هذه المرة.
من المفيد القول ان الذاكرة الكردية تخمد تارة وتتأجج تارة أخرى وقد يكون العامل الأخير دافعه متغيرات إقليمية ودولية في السياق غير الطبيعي وبضغط أو تشجيع من نتائج تلك المتغيرات مثلما حدث في مهاباد الإيرانية في الربع الأول من القرن الماضي عندما قام الأكراد بتأسيس “جمهورية مهاباد” بدعم وحض من الاتحاد السوفييتي السابق، لكن السلطات الإيرانية بعدما التقطت أنفاسها تمكنت من القضاء على الكيان الكردي الانفصالي وقامت بإعدام رئيس الكيان المذكور محمد القاضي في ساحة “جوار جرا” من مدينة مهاباد الإيرانية، ويبدو ان الزمن يكرر دورته بالنسبة لأكراد العراق الذين راحوا يستغلون هذه “الفرصة الذهبية” فرصة احتلال العراق من قبل أمريكا، من أجل ترسيخ كيانهم في شمال العراق الذي كان مستقلاً بحكم الواقع منذ عام ۱٩٩۱ حيث راحوا يملون شروطهم التي تحافظ على كيانهم المستقل من خلال اكتساب حقوق متميزة واستثنائية من خلال التمتع بحق النقض لمليون كردي على حساب أكثر من عشرين مليون عراقي آخرين، وهو ما منحهم إياه مجلس حكم من توابع الاحتلال مما حدا بالعراقيين الى التظاهر ووصف هذا “الدستور” بوعد بلفور المشؤوم بالنسبة لاقتطاع شمال العراق من الوطن الأم العراق بمثل هذا الدستور الذي يعزز انفصال الكيان الكردي عن العراق، ومن سخرية القدر ان الدستور الذي أقره صنيعة الاحتلال يسمح للأكراد بالتدخل في تفاصيل الشأن العراقي وفي نفس الوقت لايسمح لغير الأكراد من الشعب العراقي على صعيد النظام والقاعدة بالتدخل أو تناول الشأن الكردي!
وحتى لا نطلق الأحكام جزافاً إليكم ما منحه هذا “الدستور” من امتيازات واعتبارات لأكراد العراق وفق التالي:
أولاً: يحق للكيان الكردي في شمال العراق الاعتراض على السياسة التي ترتأيها الحكومة المركزية بناء على رغبة أكثرية الشعب العراقي، وبهذا “الحق” تكون أكثرية الشعب العراقي العربية مكبلة أمام الأقلية الكردية في اتخاذ القرارات الإستراتيجية التي تخدم القضايا الداخلية والعربية، وعلى سبيل المثال فالأكراد في هذا المضمار يرددون قائلين: فلسطين عربية ونحن أكراد ليس لنا علاقة بها وحسب اللهجة العراقية “فلسطين عربية أنا كردي ما عليّ”.
ثانياً: من خلال هذا “الحق” يستطيع الأكراد مستقبلاً العمل بسياسة المقايضة والمساومة وخصوصاً في مطلب الفيدرالية أو الحصول على جزء كبير من موارد نفط كركوك وحتى السيطرة على جزء كبير من كركوك التي تقطنها أغلبية تركمانية وأقلية عربية أو مدن عراقية أخرى، وبهذا الواقع فإن الأكراد أصبح بمقدورهم منع واعتراض أي قرار في أي اتجاه تحبذه أكثرية الشعب العراقي العربي وحتى لو وافقوا على قرار ما، فسوف يكون مقابل ثمن يحصلون عليه كأن يكون قرار يخدم المصالح والأهداف الكردية في العراق تخصيصاً والمنطقة عموماً، وبهذه الفقرة (ج) من المادة ٦۱ من الدستور المؤقت أو قانون إدارة الدولة يكون أكراد العراق عززوا منحاهم الانفصالي على الرغم من أن “مجلس الحكم” هو من نتاج الاحتلال الأمريكي، وهو بالتالي لا يمثل الشعب العراقي شكلاً ومضموناً كونه لا يملك التفويض اللازم في بحث وإقرار قوانين تخل بوحدة العراق شعباً وأرضاً.
لا أحد ينكر الوجود الكردي في دول المنطقة وخاصة في تركيا وإيران والعراق وسوريا وقد كان أكراد العراق على مختلف النظم السياسية العراقية في العراق، كانوا أفضل حالاً من الأكراد الباقين على الرغم من وحشية وجرائم النظام السابق التي ارتكبها ضدهم مع الإشارة الى ان أطياف الشعب العراقي الأخرى لم يكن نصيبها قليلاً من تلك الجرائم، ومع ذلك فقد إزداد الهوّس الانفصالي لديهم يوماً بعد آخر حتى غدا في ناظرهم رؤية العلم العراقي مرفوعاً من أشد المنكرات، حيث عمد الأكراد في كركوك ومن خلال إحدى الفعاليات الطلابية الى تمزيق العلم العراقي الذي كان مرفوعاً الى جانب “علم كردستان” الأمر الذي جعل العرب والتركمان يضطرون الى الاشتباك مع الأكراد في مصادمات دموية، والحقيقة ان الأكراد باتوا يبتعدون عن أي لافتة أو تجمع له علاقة بالعراق أو ينضوي تحت مسمى العراق حتى وصل بهم الأمر الى الانسحاب من “اتحاد الكتاب والصحافيين العراقيين في المهجر” وهو في طور التأسيس رداً على نقد كتبه أحد الزملاء لسياسة الأكراد في العراق على خلفية إقرار الدستور المؤقت أو قانون ادارة الدولة.
وهناك أمر آخر يتعلق بالأجندة التدريجية لأكراد العراق يتعلق في الإشهار عن مطالبهم التي تنحو صعوداً في منحى الانفصال، إذ كانوا في البدء يدعون الى “الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردسنان العراق” ومنذ العقد الفائت تغيرت هذه الدعوة الى المطالبة بالفيدرالية، على الرغم من ان الاتحاد الفيدرالي يتشكل من دول كانت قائمة وهو لاينطبق على الحالة في العراق لكنهم يتذرعون بالإشارة الى دول فيدرالية ليس هنالك أي تشابه في حالتها مع الحالة العراقية في كل الأحوال هذا جانب.
والجانب الآخر هو ان قيام دولة كردية في شمال العراق سوف ينعكس سلباً على الخرائط السياسية والجغرافية لثلاث دول مجاورة للعراق سبق وأن أعلنت كل منها في مناسبات قريبة وبعيدة، انها لن تسمح بقيام مثل هذه الدولة وهي لن تتوانى في استخدام كل الأساليب التي تحول دون ذلك، وهذا يعني ان النزوع الكردي نحو الانفصال ومهما أحكم التستر مرحلياً سوف يواجه في نهاية المطاف معارضة داخلية عراقية وأخرى إقليمية ولربما معارضة دولية حينما يشهر ويجاهر أكراد العراق عن ذلك في السقف المكشوف.
اذاً، جاءت حالة ايقاظ الذاكرة الكردية في هذا الوقت في اطار الاغراء المتمثل في الوضع العراقي والذي تشكل بفعل الاحتلال الامريكي الذي يتجه الى جعل الساحة العراقية تعاني من التشويش والاضطراب والتأزم، وهو ما حصل بالفعل، حتى تكون مهمته طويلة الأمد وبدواعي غياب الامن ومن خلال هذا الغياب، يمكن لسلطة الاحتلال الامريكي ان تلعب بأوراقها في داخل العراق وهو ذات اللعب الذي تلعبه امريكا اقليمياً من خلال الضغط والتهديد. وقد تكون الورقة الكردية هي واحدة من أوراقها خصوصاً مع سوريا على الرغم من ان امريكا في هذا المجال لها من الأوراق الاخرى التي سوف تلعبها مع ايران وتركيا ان لم تكن قد لعبتها.