الدستور العراقي المؤقت: مخرج من الأزمة ام عنوان لها؟
د. سعيد الشهابي
التوقيع مع التحفظ يلغي قيمة التوقيع، ويوحي بالاكراه والضغط. فاذا كانت لدي الانسان تحفظات علي امر ما فهو يحجم عنه، الا ان يكون مكرها علي القيام به. هذا احد مظاهر الازمة التي صاحبت التوقيع علي الدستور العراقي المؤقت. ففيما اعتبر البعض ان التوقيع خطوة مهمة علي طريق الاستقرار السياسي في هذا البلد المعذب، اشار البعض الآخر الي ان هذه الخطوة ربما أدت الي مشاكل جديدة علي اكثر من صعيد.
ومع ان تنظيم علاقات الافراد والجماعات وفق عقد مكتوب يحل الكثير من الاشكالات، ويقلص مساحات الخلاف عند الاختلاف، فان طبيعة هذا العقد وظروفه عامل اساسي في تحديد نفعه او ضرره. فالتعاقد بين اي طرفين يجب ان ينطلق من قناعة لدي كليهما بقبوله وانه يضمن حقه، اما عندما تكون الموافقة عليه نتيجة ظروف قاهرة، فان الطرف او الاطراف التي تشعر بالغبن ستتنهز اول فرصة للتنصل منه. الدستور العراقي المؤقت لم يأت نتيجة قناعة راسخة لدي جميع الاطراف التي وقعت عليه، بل نتيجة ضغوط عديدة، نفسية وسياسية، من اطراف عديدة اهمها الجانب الامريكي.
وبالتالي فبدلا من ان يمثل حلا من ازمة، خلق ازمات جديدة يخشي ان تتفاقم في الشهور المقبلة. فمسودة الدستور وضعته لجنة تم تشكيلها تحت اشراف الحاكم المدني الامريكي، بول بريمر، الذي صرح علنا بان اية وثيقة دستورية لا يوقعها لن تتحول الي قانون. وربما تقاطعت مصالح الامريكيين والكثير من العراقيين في السابق، خصوصا ازاء نظام صدام حسين، ولكن مصالح الطرفين من الآن فصاعدا قد تتقاطع احيانا، وقد تتضارب. والمسألة الدستورية واحدة من مواقع التضارب لاعتبارات عديدة. فالولايات المتحدة لم تقف محايدة ازاء العراق ومستقبله، ولم تعترف بحق شعبه في تقرير مصيره، بل أصرت بوضوح علي اعتراضها علي موقع الاسلام في النظام المستقبلي للبلد، ورفضت الدعوات المتواصلة لتنظيم انتخابات لمجلس يضع الدستور الدائم للبلاد. المشكلة ربما ليس مع الامريكيين انفسهم، ولكن مع من كان يعتقد ان مهمتهم في العراق سوف تقتصر علي اسقاط نظام صدام حسين وتحرير الشعب منه، وانهم لا اطماع لهم فيه. فهل يعقل ان تقوم امريكا بما قامت به من اجل عيون العراقيين؟ لقد فقدت حتي الآن اكثر من ۲٥۰۰ من جنودها منذ اندلاع الحرب قبل عام، فما الذي دفعها لذلك؟ وهل انها لم تكن تعلم حقا بعدم امتلاك العراق اسلحة دمار شامل؟ فها هو هانز بليكس، رئيس فريق المفتشين الدوليين سابقا، يكرر اقتناعه بان بغداد لم تكن تملك شيئا من هذه الاسلحة، وقبله قالها سكوت ريتر وغيره. ربما أخطأت الاستخبارات الامريكية والبريطانية في تقدير الوضع العراقي بدقة ولكن من غير المعقول ان تكون معلوماتها خاطئة الي حد عدم القدرة علي كشف ما اذا كان العراق يملك اسلحة او لا يملك.
الحقائق كما تبدو الآن تؤكد ان العراق لم يكن يملك اسلحة دمار شامل، فهذا ما اكده المفتشون في الشهور الاخيرة التي سبقت الحرب، وان الحرب لم تكن معنية فقط بنزع سلاح العراق، وانها شنت بقرار امريكي مسبق، وان هناك تقاطعا في رغبة امريكا في التخلص من نظام صدام حسين ورغبة اغلب العراقيين في التخلص من ذلك النظام. واذا وضعت هذه الحقائق في الاعتبار، امكن الوصول الي منطلق لفهم دوافع الولايات المتحدة لما تقوم به من محاولات لتركيز وضعها المستقبلي في العراق وشرعنته. فتصرفاتها لا تعكس رغبتها في حل الارتباط او الانسحاب غير المشروط.
كما انها تتجه لطرح مسوغات اخري للبقاء الفعلي في العراق حتي بعد تسليم السلطة للعراقيين. فكما انها غيرت اهداف الحرب بعد ان انكشفت حقيقة عدم امتلاك العراق اسلحة دمار شامل، بانها انطلقت بدوافع انسانية لتحرير العراق من استبداد صدام حسين، فان اهداف ما بعد الحرب خاضعة، هي الاخري، لاحتمالات التغيير بحجج جديدة، كالحفاظ علي الامن واستمرار الحرب ضد الا رهاب وتنفيذ مشروع الشرق الاوسط الكبير. هذا يحتاج الي تشريعات محلية تتيح للامريكيين البقاء. من هنا يمكن تفسير رفض الولايات المتحدة السماح للامم المتحدة بدور حقيقي وفاعل في العراق، او السماح بانتخابات حرة لوضع دستور دائم، والتصرف في العراق وكأنه ملك لها، بتوزيع العقود التجارية والصفقات العملاقة للشركات الامريكية، والتدخل في صياغة انماط الادارة خصوصا في المحافظات، والهيمنة شبه المطلقة علي جهاز الادارة المدني فضلا عن اجهزة الجيش والامن. وتواجه الولايات المتحدة موقفا متناقضا في العراق. فهي تسعي للاحتفاظ بهيمنة سياسية واقتصادية وعسكرية عليه، وفي الوقت نفسه سعت لتبرير الحرب برغبتها في اقامة نظام ديمقراطي حر.
النظام الديمقراطي يتطلب مرجعية دستورية ينطلق منها ويتأسس عليها. وقد كررت المرجعية الدينية، ان الدستور الذي يحكم العراق يجب ان يكتبه ابناؤه، وفق عملية انتخابية حرة، الامر الذي عارضته الولايات المتحدة واستعملت كل الوسائل لمنع اجراء انتخابات للمجلس الدستوري، بما في ذلك الضغط علي الولايات المتحدة لاعلان عدم امكان اجراء الانتخابات قبل الموعد المحدد لنقل السلطة للعراقيين في نهاية شهر يونيو المقبل. وبدلا من ذلك طرحت السلطة المؤقتة للاحتلال علي مجلس الحكم الدستور المؤقت للمناقشة والاقرار، واحدث بلبلة انتهت بالتوقيع عليه من قبل اعضاء المجلس مع تحفظ اقل من نصف اعضاء المجلس علي بنود الدستور المذكور. هذا الدستور فتح الباب علي مصراعيه للاختلاف بين الفرقاء العراقيين، وبرغم التوقيع عليه فقد كشف مواقع التوتر في المنطلقات والاهداف لدي اولئك الفرقاء نظرا لما ينطوي عليه هذا الدستور، وخطورته وانعكاساته المتوقعة علي مستقبل الوضع العراقي من جهة ومستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة اخري. ولذلك جاء تحفظ الاعضاء الشيعة في المجلس علي التوقيع، ليعكس حساسية موقفهم. ويعترض هؤلاء علي مسألتين اساسيتين: اولاهما انه يعطي الحاكمية لتشكيلات غير منتخبة (معينة من الامريكيين) علي هيئات ومجالس ينتخبها الشعب في ضوء الدستور الدائم، ويعطي المحافظات الصغيرة حق الفيتو علي قرارات المجلس الوطني المستقبلي المنتخب.
ولهذا فقد رفض آية الله العظمي السيد علي السيستاني الموافقة علي الدستور، وبرغم محاولات الاعضاء الشيعة اقناعه، فقد بدا واضحا انه ملتزم بموقفه الرافض لاعطاء الحاكمية للدستور المؤقت الذي وقعه اعضاء معينون من قوات الاحتلال علي ارادة الشعب العراقي التي سوف تتجسد من خلال الآليات الانتخابية الموعودة. وكرر السيد السيستاني دعوته لانتخابات اعضاء المجلس الدستوري في اسرع وقت ممكن، وكذلك انتخابات المجلس الوطني الذي سوف يشكل الحكومة المقبل لعل اخطر ما في الامر علي الساحة الشيعية الشرخ الذي حصل في الموقف بين المؤسسة الدينية متمثلة بآية الله السيستاني واعضاء مجلس الحكم. فقد كان هؤلاء يعرفون موقف السيستاني سلفا، وانه لن يغير موقفه ازاء القضايا التي يعتبرها مفصلية في بناء الكيان العراقي الجديد، سواء تجاه الاحتلال ام صياغة الارضية الدستورية التي يقوم عليها الكيان الجديد. وبالتالي لم يكن موقفا حكيما ارجاء التوقيع علي الصيغة النهائية للدستور المؤقت حتي زيارة السيستاني، ما داموا قد قرروا موقفهم بانهم سوف يوقعون الوثيقة. فقد اظهرت الزيارة تباين الموقف بين القيادة السياسية الشيعية والقيادة الدينية، وهو امر لم يحدث من قبل، الامر الذي ستكون له انعكاساته الخطيرة. فقد شعر بول بريمر وبقية المسؤولين الامريكيين ان بامكانهم الضغط علي السياسيين لحملهم علي مخالفة الموقف الديني، وبالتالي فلن يتواني بريمر عن محاولة فرض رأيه وسياساته حتي لو توقع ان يكون موقف المرجعية الدينية مغايرا لما يريد. لقد اسس ذلك الموقف سابقة كان بالامكان تلافيها، بالاضافة الي ان الوثيقة الدستورية اصبحت عنوانا للاملاءات الامريكية، بينما كان اصرار السيد السيستاني علي اجراء الانتخابات محاولة لوقف تلك الاملاءات.
وقد توسعت الاملاءات الا مريكية بشكل متواصل، واصبح الوجود الامريكي ظاهرة مقلقة جدا لاهل العراق. فالسلطة المؤقتة للاحتلال تتصرف من منطلق الحكم العسكري المطلق، وليس علي اساس من الاحترام المتبادل او علي اساس الوجود المؤقت الذي يحترم ارادة الشعب وحقه في تقرير مصيره. كما ان هذه التطورات كرست ظاهرة التباين العرقي والمذهبي في العراق، بدلا من احتوائها، واصبح الامريكيون يراهنون علي ابقاء تلك التباينات واضحة ومصدرا للتذكير المستمر باهمية الوجود الا مريكي كوسيلة لمنع التحارب بين الاطياف المكونة للعراق. ولم يخف المسؤولون الامريكيون رغبتهم في احتذاء النموذج السويسري، وكأنهم يوحون بان العراق تحول الي كانتونات مذهبية وعرقية.
الامريكيون حققوا انجازا مهما بفرض الدستور المؤقت الذي اعتبروه اساسا للدستور الدائم لاحقا، وبالتالي فقد ضمنوا اقرار وجودهم دستوريا، واصبحوا بمثابة الاوصياء علي الوضع العراقي لسنوات كثيرة قادمة. ولا شك ان للسياسيين العراقيين انفسهم دورا في ذلك، اذ لم يستطيعوا القفز علي صعوباتهم وخلافاتهم امام الامريكيين الذين فهموا السيكولوجية العراقية، واصبحوا يتعاملون معها علي اسس علمية تكرس وجودهم وتمنع حدوث اي تمرد حقيقي من بين ابناء العراق. وفيما احتفل الرئيس بوش بمرور عام كامل علي بدء العمل العسكري ضد نظام صدام حسين، ما تزال الديمقراطية سرابا امام اهل العراق، وما تزال الحسابات السياسية والمصلحية هي الاساس في التعاطي مع الشأن السياسي في هذا البلد. تنطبق هذه الحقيقة علي نمط التعامل الداخلي بين الفئات العراقية، واسلوب التعامل بينها وبين الادارة المدنية للاحتلال. وربما يفسر ذلك تصاعد النقمة الشعبية ضد الوجود الامريكي الذي ربما ادي الي تصاعد اعمال العنف بدلا من احتوائها. ويعرف الرئيس بوش الذي يستعد للانتخابات الرئاسية هذا العام، ان مشروع الشرق الاوسط الكبير والتنمية السياسية والديمقراطية التي يتضمنها تتطلب اقناع الناخب الامريكي بقداسة المهمة التي قامت بها الولايات المتحدة في العراق. ومشروع الشرق الاوسط الكبير اصبح مرادفا لمقولة الديمقراطية في العراق. هذا العنوان الجديد في ملحمة الحرب ضد الارهاب، يحتاج الي توافق من جانب الشعوب خصوصا بعد ان كررت الانظمة العربية رفضها لاي مشروع ديمقراطي امريكي. والدستور العراقي سوف يكون عرضة للفحص والتمحيص من قبل المعنيين بشؤون الديمقراطية والشراكة السياسية والتعددية السياسية، وسوف يكون عمقه الديمقراطي علي ارض الواقع مقياسا لمدي جدية المشروع الديمقراطي، خصوصا بعد ان اصيب الكثيرون بخيبة امل بسبب السقف الهابط للمشروع الديمقراطي الامريكي، وهو سقف يمكن استشرافه من خلال الامثلة التي تطرحها واشنطن كدليل علي التغيير الديمقراطي في الشرق الاوسط. العراق يقف اليوم علي مفترق طرق بين الولوج الي عهد جديد حافل بالممارسات الديمقراطية الحرة في حدود بلد عربي مسلم كبير، او الوقوف علي الباب الديمقراطي والاحجام عن اقتحامه لان الارادة الامريكية ليست مهيأة بعد لما يعتبره البعض مغامرة.