يتوهم الاعضاء الكرد، ونظراؤهم الشيعة الموالون لواشنطن وطهران في مجلس الحكم الانتقالي ببغداد، اذا اعتقدوا انهم نجحوا في الغاء عروبة العراق، وتغييب هويته التأريخية والحضارية والثقافية والاجتماعية القومية العربية، عندما خلا قانونهم الاعرج الذي اطلقوا عليه اسم (قانون إدارة الدولة الانتقالية) من المادة التي لم يجرؤ حاكم او حكومة في السابق علي حذفها او شطبها، وهي المادة التي تقول: ان العراق جزء لا يتجزأ من الامة العربية، واستعاضوا عنها بمادة اخري كسيحة تشير الي ان العراق بلد متعدد القوميات وان الشعب العربي فيه جزء من الامة العربية، رغم ان العراق كما هو معروف، بلد عربي الوجه والطابع والانتماء والتأريخ، يشكل العرب اكثر من ثمانين بالمئة من ارضه وسكانه، تعيش في وسطهم ورعايتهم اقليات عدة من ضمنها الاقلية الكردية التي لولا عرب العراق الذين حموها وحافظوا عليها ومنحوها مكانة متميزة لا وجود لها في تركيا وايران واذربيجان، التي تضم ملايين الاكراد، لكانت الان لا وجود لها علي الخارطة، هذه حقيقة يدركها كل منصف وعاقل.
فقد كشف مقطوعو الجذور والطائفيون والانفصاليون والشعوبيون والماسونيون والبهائيون عن وجوههم الكالحة، واسفروا عن نواياهم الخبيثة في معاداة عروبة العراق، التي هي حقيقة ساطعة لا تحتاج الي اعتراف مجلس مشبوه المهمة والمضمون، ومشكل من حاكم امريكي بدرجة سفير لا غير، وهذا القانون الذي اصدروه في هذا الوقت بالذات، ولد معوقاً ومشوهاً، من اول مادة فيه الي اخر فقرة، لان اغلب الذين وضعوه هم اما (تجار شنطة) يتقنون اللهف والنشل والتزوير، أو مشايخ دين مزيفون رغم عماماتهم السوداء، ولحاهم القبيحة، أو قادة عصابات وميليشيات تمرد وحروب وعصيان، وجميع هؤلاء لا علاقة لهم من قريب او بعيد بالقوانين والانظمة والاخلاق والقيم والاعراف، ولا يعرفون تأريخ العراق وطبيعة شعبه لانهم غرباء عنه، وطارئون عليه، اليسوا هم من زينوا لاسيادهم الامريكان، بان العراقيين سيخرجون لاستقبالهم بالورود والرياحين والهتاف لبوش يا. . يعيش؟ وكانت النتيجة ان العراقيين استقبلوا المحتلين بالفعل، ولكن بالغضب والنقمة والثورة واشياء اخر، والبقية تأتي تباعاً.
ان ما يجري في بغداد الان هو في الواقع (عرس واويه) كما يقول المثل الشعبي العراقي الشهير، وبالتالي فان كل ما يصدر عن هذا العرس الذي شارفت ايامه علي الانتهاء، لا يعتد به، وليست له قيمة، بعد ان حكم عليه العراقيون بمرجعياتهم الدينية والسياسية ونخبهم الثقافية والفكرية والاجتماعية وعشائرهم وقبائلهم ومنظماتهم النقابية والمهنية، بانه قانون مفرق لا جامع، ويشكل عدواناً علي المكون الاساسي للشعب العراقي، عرب العراق الذين يتعرضون الي محاولات اقصاء متعمد وتهميش، وشق نسيجهم الواحد وتصنيفهم الي شيعة وسنة، لتفتيت قوتهم ووحدتهم، التي جعلت الوافدين من واشنطن ولندن وطهران والنازلين من الجبال، يبحلقون عيونهم حيرة وصدمة، من ذلك التماسك المتين، والتضامن الرصين، من الموصل وكركوك في الشمال الي البصرة وأم قصر في الجنوب ومن ديالي والكوت والعمارة شرقا الي الانبار وكربلاء والنجف والسماوة غربا، في الوقت الذي كان يحلم المستعرقون بحدوث شروخ بين الشيعة والسنة، واقتتال داخلي وفتنة طائفية، فإذا بهم يواجهون وحدة عربية صلبة لم تخطر علي بالهم، حتي ان بعضهم اخذته الدهشة من هذه الحالة التي بدت وكأنها غريبة عليه. ومن يقرأ تأريخ العراق المعاصر، لابد ويلحظ ان الذين ارادوا فصم العراق عن عروبته، وعزله عن هويته القومية، واجهوا جميعاً مصيراً اسود، ابتداء من ذلك الجنرال الكردي المغامر بكر صدفي، مروراً بالامير عبدالاله ونوري السعيد وعبدالكريم قاسم، وانتهاء بصدام حسين العربي المزيف، الذي الحق اضراراً بعرب العراق اكثر من سابقيه، عندما حول العراق الي شركة تجارية استحوذ هو علي اسهمها العربية ومنح الاسهم المتبقية الي قادة ميليشيات وعصاة، شكلوا حكومات وجيوشاً وبرلمانات، ورفعوا اعلاماً صفراء واستولوا علي الرسوم والجمارك والايرادات، ولم يكتف الملعون بذلك، بل منحهم سلطات وعطايا وهبات استمرت الي ما قبل سقوطة بشهر واحد، كل ذلك علي حساب عرب العراق، وليس من جيبه او ميراث اجداده، وهو نفسه الذي هندس اتفاقاً في آذار/مارس ١٩٧٠، ساوي فيه بين الاقلية والاكثرية، في واحدة من افعاله الدونية، ولا تصدقوا ما تردده الاحزاب الكردية عن معاداة صدام للاكراد، فهو لحين سقوطه ظل يحتفظ بنائبين كرديين له (طه جزراوي وطه محيي الدين معروف) وهما عضوان ايضاً في اعلي هيئة رسمية وحزبية (مجلس قيادة الثورة) وكانت آخر حكومة له تضم ستة وزراء (عبدالوهاب الاتروشي، وارشد زيباري، ومنذر النقشبندي، واوميد مدحت مبارك، وجعفر برزنجي، وبهاء احمد) والاخيران يرأسان المجلس التنفيذي والتشريعي في شمال العراق، اضافة الي تسعة وزراء اكراد محليين، وهو الرئيس العراقي الوحيد الذي اصدر قراراً تمييزيا عنصريا في منتصف الثمانينات لصالح الاقلية الكردية، عندما منح الكردي العراقي، حقين قانونيين في العمل والمتاجرة والاستثمار، حق لانه كردي وحق آخر لانه عراقي، تصوروا بعد كل هذا من يقول ان صدام حسين عربي!
هذا الدكتاتور الارعن نفسه اصدر قانوناً في مطلع الثمانينات اعفي بموجبه الاكراد حصراً من الخدمة العسكرية (الإلزامية والاحتياط) عبر تشكيل افواج اسماها افواح الدفاع الوطني في المدن والقصبات الكردية، حتي لا يشارك الاكراد في الحرب مع ايران التي دامت ثماني سنوات داميات حصدت خيرة الجنود والضباط العرب، وكانت محصلة هذا القانون ان شكل الاكراد (١٣٠٠) فوج، كل فوج يضم آلاف المنتسبين صورياً اليه، وخصص لكل آمر فوج راتباً شهرياً قدره مليون دينار عندما كان الدينار ديناراً، واعطي لكل فرد في تلك الافواج الكارتونية راتبا شهرياً قدره ٣٠٠ دينار، وهذا المبلغ كان يعادل راتب عميد ركن في الجيش العراقي، تخرج من كليتين (العسكرية والاركان) وله خدمة فعلية لا تقل عن ٢٤ سنة متصلة.
هذا ما قدمه صدام حسين الي الاكراد الذي تسعي قياداتهم واحزابهم الي تجريم عرب العراق، بدعوي انه عربي، بينما العرب هم الذين تضرروا من وجوده واستمراره في السلطة، وهو نفسه الذي تواطؤ مع البارزاني والطالباني في مؤامرة سحب الادارات الحكومية من المنطقة الكردية في شمال العراق في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٩١، ليشكل الاثنان امارات ومشيخات وميليشيات تهيمن علي موارد المنطقة وتتحكم بمصائر السكان الكرد الذين سجلت هجراتهم الي الخارج منذ ذلك العام معدلات قياسية، وصلت حسب احصاءات الامم المتحدة الي مليون ونصف هرباً من جور الاثنين وتنافساتهما وحروبهما.
واذا كانت القيادات الكردية تعاني من ازمة هوية تشكل لها عقدة نقص، فهذا ليس ذنب العرب، فالاكراد منذ ان وجدوا لم تكن لهم امة الا في مخيلتهم وعلي ورق ادبياتهم وبياناتهم، وحتي مفردة (كردستان) التي يتغنون بها ويرقصون طرباً علي ايقاعها، ليست كردية وانما فارسية اطلقها الايرانيون علي مقاطعات تسكنها وتعيش فيها قوميات وأقليات غير فارسية مثل بلوشستان وعربستان وخوزستان وكردستان.
ويبقي أمر آخر لا بد من تسجيله هنا، وهو كذب ادعاءات عدد من اعضاء مجلس الحكم من ان قوي قومية تقدمت بمذكرة تطالب بإدراج بند (العراق جزء من الامة العربية) في القانون الانتقالي، لان التيار القومي في العراق يترفع عن تقديم مثل هذه المذكرات الي مجلس يضم صنائع وذيولاً واذنابا للامريكان، وكل الذي حصل ان عبدالاله النصراوي الذي فقد ظله منذ خمس وثلاثين سنة واعلن افتراقه عن الحركة القومية وصار ماركسياً يزايد علي الاحزاب الشيوعية، هو الذي قدم تلك المذكرة اليتيمة، والنصراوي كما سبق واشرنا الي ذلك قبل شهور يعمل وينسق مع الطالباني علي طريقة (هربجي كرد وعرب) وسبق للاخير ان أهدي النصراوي سيارتين سرقتهما قوات بيش ميركه الجلاليين من عرب كركوك، والطالباني ذاته يمول مجموعة عبدالاله بمخصصات شهرية قدرها عشرة الاف دولار يدفعها عادل مراد مسؤول حزب الطالباني في بغداد، اما آخر تقليعات جلال او دعاباته (لا فرق) علي جماعة النصراوي، وصفه اياها بانها الفرع العربي للاتحاد الوطني الكردستاني! فمبروك لهما مقدما.
وعموماً فان قانون اتباع بريمر يبقي باطلا من جميع النواحي، لان القوانين عادة يضعها الوطنيون الحقيقيون، وليس الاجانب والعملاء والاذلاء، وستظل عروبة العراق معززة مكرمة من اهلها، وهذا هو المهم، وفيما عدا ذلك مجرد تمثيليات تلفيقية تقدم في مسرح خال من الجمهور والنظارة.