كانت محلتنا تسعين زهرة من أجمل أزهار مدينتنا الحبيبة كركوك، كان الإنسان وهو يجتاز شوارع محلة تسعين القديمة وأزقتها الترابية الضيقة يشعر وكأنه يجتاز عوالم جميلة من تاريخنا القومي المجيد. فقد كانت قبل أن يدمرها الحقد الأسود لأزلام الدكتاتور صدام المجرم عدو الحضارة، بمثابة كتاب من أجمل كتب التاريخ حضارة وأفصحها بيانا، ففي كل صفحة من صفحات كتاب تسعين تقرأ قصة مرحلة من المراحل الأساسية التي عرفها تاريخ البطولة والشجاعة خلال مسيرة أبنائها الكفاحية والجهادية من أجل العقيدة الصادقة والانتماء النقي العريق.
وأنت حين يحالفك الحظ وتزور منطقة تسعين تحس على الفور بنسمة زكية غير تلك التي تعودت على استنشاقها في أية بقعة أخرى والتي أصابها ما أصابها من التلوث الحضاري. وأنا حين أعود بين الفينة والأخرى إلى الأرض التي وُلدت من رحمها ثم تغربت منها قسرا أشعر على الفور أني في حضن أمي وتتزاحم في رأسي تلك الذكريات التي عمرها أكثر من أربعين عاما وأحس أني من هذه الأرض ولا زالت جذوري في أعماقها وأرى فيها أهلي ولساني يلهج من دون إرادة أني من هؤلاء الناس هؤلاء الذين أراهم في عيني ولحمي ودمي. وحين أهمّ على وجهي بين ظلالها أشعر وكأني مثل سائح ضَـلّ طريقه، مثل سائح راحت عيناه تطاردان حركة التاريخ وتحديات الزمن من خلال ما يراه. ها أنتِ تسعينُ إذن مرة ثانية تعودين إلى عرشك الحضاري، تسعينُ ها أنتِ يا رائعة كركوك ويا وليدتها المدلَّلة ها أنتِ من جديد تحرقين مسافات الضياع والاغتراب وتُعيدين للتاريخ حلقاته الضائعة.
كم كنت سعيداً ومتألماً في نفس الوقت حين شمرنا نحن أهل تسعين القديمة عن سواعد الجدّ وبدأنا بمدِّ جسور الوصل بين الماضي الذي يحمل في طياته أفراحاً وأحزاناً وبين الحاضر الملغوم الذي لا يزال أفُقُه غير واضح ويلفّه شيء من الضبابية، كنت سعيداً لأن أهلي الذين تشرّدوا وأنا من ضمنهم في ليلة ظلماء شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً في ترقب سعيد كالذي ينـتظر مولوداً جديداً ومتألماً في الوقت نفسه لأن تلك البيوت التي كانت صرحاً شامخاً وكانت مرتعاً ومأوى لآلاف وآلاف السنين قد تحولت إلى خِيَمٍ متواضعةٍ ليس لها ما يغنينا عن أبسط مقومات الحياة، ولكن لا عليكِ نحن لا نساوم على حياة مرفهة بذخة بل نبغي حياةً حرةً كريمةً في تسعين القديمة التي سُلبتْ هويّتها التركمانية ونحن الآن بصدد استرجاعها وسوف لن يعترينا الكلل والملل ولن يصيـبنا الوهن إلى أن نحقق آمال الآلاف من أبنائنا عُشّاقِ السلام. لقد عبثت بنا يدُ الأشرار ومزّقتنا شر ممزّق وأصبحنا أشلاء متناثرة هنا وهناك ولكن بقينا جمرة تحت الرماد وبقينا في رحم الخلود وهكذا حين نولد غداً من جديد مع ولادة تسعين الميمونة نكون قد تجاوزنا مرحلة المخاض وبفضل الجهود الخيرية والحثيثة التي بذلتها حركة الوفاء لتركمان العراق وكذلك الجبهة التركمانية العراقية ولم تبخلا في هذا الصدد عن أي جهدٍ مادي أو معنوي فلهما كل شكر وتقدير ويحق لنا بعد ذلك الولادة العسيرة أن نقيم مهرجاناً تأبينياً لشهدائنا، وإليه ندعو أولئك الذين أفنوا زهرة شبابهم في الزنزانات المظلمة كي ينشدوا للآذان الصاغية أحزانهم المريرة وحكاياتهم المؤلمة والتي تخجل عندها شهرزاد أن تفتح ببنت شفة. وهكذا حينما تنـتصر إرادة الإنسان فإن رسالة السماء تنـتصر هي الأخرى وتنـتصر معها المبادئ الإنسانية. إن تسعين التي تعرضت للإجراءات الاستثنائية الجائرة التي تعرض لها بعض المناطق في العراق وقفت بكل شموخٍ وإباءٍ أمام تحدياتِ أعتى قوى حاكمة. مَنْ يُنكر أننا أبناؤها وقفنا كالطود الشامخ متحدين أزلام البغي وانتصرنا رغم التضحيات الجِسام؟ نحن أصحاب الحق فتلك الضربات القاصمة والمعاملات التي فقدت كلَّ بُعدٍ أخلاقي لم تنل من عزمنا ولم تُـثننا عن المضي في طريق الهداية طريق الآباء والأجداد. واليوم عليكَ زيارة تلك البقعة المباركة التي نصبت فيها خيم الأصالة والعَراقة والتي تظل للقيم والبسالة وسوف تكون إن شاء الله اللبنة الأولى في بناء صرح تسعين القديمة مرة أخرى وبفضل أبنائها الغيارى.
*(صحيفة توركمن إيلى - جريدة سياسية عامة تصدرها الجبهة التركمانية العراقية باللغتين العربية والتركية ويصدر عددان منها كل أسبوع في يومي الأحد والأربعاء.
العدد (٦٥٢) / الأربعاء ٣١-٣-٢۰۰٣