البارزاني والطالباني لا يصلحان لقيادة مصالحة وطنية بالعراق
هارون محمد
للمصالحات الوطنية في كل مكان، وخصوصاً في البلدان التي تشهد تغييرات او تحولات سياسية كبيرة وحادة، ضوابط وشروط تستند الي مقومات اساسية ابرزها الولاء الوطني والسعي الي تعزيز وحدة الشعب وسيادته علي ارضه، وتأمين حقوق مكوناته بلا انتقائية او محاباة او اكراه لهذا الطرف او ذاك، او لهذه الفئة او تلك، بعيداً عن الإملاءات الفوقية والمزاجات الشخصية.
وعادة تتصدي لعمليات المصالحات الوطنية، مرجعيات سياسية وزعامات وطنية، تحظي بتأييد وقبول اوسع القطاعات الشعبية وليس عليها مآخذ او مواقف سابقة او حالية، تدينها وتضعف صدقيتها، ويجب ان تكون نزيهة في سلوكها ونظيفة في تعاملها مع الآخرين، وصاحبة تأريخ ومسار ناصعين في الماضي والحاضر، ولم يسجل عليها ابتزاز او استقواء علي الغير، ولا استغلال ولا انحياز الي طرف او حزب معين، حتي لو كانت تقوده، وفي هذا الصدد تبرز تجربة الزعيم المناضل نيلسون مانديلا الذي ايده وسانده السكان البيض الذين حكموا جنوب افريقيا اكثر من قرنين، في قيادته للمصالحة الوطنية في بلاده، التي صارت مثالاً يشار اليها بالبنان تقديراً واحتراماً.
هذه المقدمة القصيرة ضرورية للفت النظر الي تلك الوليمة التي اقامها رئيس الحزب الديمقراطي الكردي مسعود البارزاني في الاسبوع الماضي، واستمرت يومين في اربيل، واطلق عليها اسم (مؤتمر المصالحة الوطنية) وخرج المدعوون منها بـتوصيات هزيلة، منها اثنتان صيغتا بطريقة ملتوية تصوران البارزاني وكأنه زعيم وطني يخاطب المرجعيات الدينية ورؤساء العشائر العراقية، وسبعا منها علي شكل مناشدات لمجلس الحكم الانتقالي، في محاولة لاضفاء الشرعية عليه، والجميع يعرف ان هذا المجلس هو صنيعة سلطة الاحتلال الامريكي، لا يهش ولا يبش ولا صلاحيات لاعضائه غير البصم علي قرارات المستر برايمر واطلاق الاكاذيب بأصوات مخنوقة ومرتجفة.
ولعل ابرز ما شهدته الوليمة البارزانية، ذلك التهافت الذي ظهر فيه، عدد من المدعوين (العرب) وشخصياً شاهدت ثلاثة منهم، ظهروا في جلسة الافتتاح ونقلت خطبهم التي يمكن تسميتها بـ(الخريط) في اللهجة الشعبية العراقية، فضائية حزب مسعود، وقد راحوا يزايدون علي القيادات الكردية في مشروعهم الفيدرالي الانفصالي، وتحول واحد منهم الي استاذ للبلاغة والنحو والتفسير، نافس سيبويه والفراهيدي ومصطفي جواد، في شرح مفردة (الفيدرالية) علي انها وحدة واتحاد وجمع كلمة، رغم انه جنرال متقاعد، قد يفهم في الامور العسكرية، وليس اللغوية.
اما ثالث المتكلمين وهو محافظ نصبه الامريكان لادارة محافظة عربية عريقة، منها انطلقت ثورة العشرين الخالدة ضد الاحتلال الانكليزي، فقد اعترف بانه قدم رشوة الي وجهاء مدينته هي عبارة عن سفرة سياحية الي مدريد، علي نفقة وحساب القوات الاسبانية حتي يغير رأيه المعارض للفيدرالية، وفي كلمات تفتقر الي الحبكة واللياقة قال ان صديقه عندما عاد الي المدينة من سفرته الممتعة، اصبح من اشد المتحمسين للفيدرالية واكثر المعجبين بالفقرة جيم من المادة ٦۱ من قانون ادارة الدولة الانتقالية.. فتصوروا!! علماً بان هذا المحافظ الذي سبق لجمهور المحافظة التي يديرها ان تظاهر ضده ورمي مقره بالاحذية العتيقة لكثرة سرقاته واختلاساته المفضوحة، كان من كوادر حزب البعث وعضواً في الدورة الاولي لبرلمان صدام، والمعلومات تشير الي ان احمد الجلبي صاحب قانون الاجتثاث السيئ الصيت، يلاحقه حالياً لعزله من موقعه، علي غرار ما فعله بمحافظ بابل (الحلة) الذي لم تشفع له سنوات اعتقاله من قبل النظام السابق، واضطهاد اسرته والتنكيل باهله واقاربه واعدام اثنين من ابناء عمومته عقب انتفاضة ربيع العام ۱٩٩۱.
وقد بان ان مسعود البارزاني وهو يدعو الي وليمته الاربيلية انه يعاني من خيبة امل في الاحزاب والقيادات الشيعية التي كان متحالفا ًمعها في مؤتمر اجورد رود بلندن وصلاح الدين في شمال العراق، نهاية عام ٢۰۰٢ ومطلع ٢۰۰٣، وانه محبط من التحفظات التي سجلتها علي بعض مواد القانون الانتقالي وخصوصاً تلك التي تعطي للاكراد امتيازات لا مبرر لها، فاتجه الي شخصيات ووجهاء ورجال دين ورؤساء عشائر عربية سنية، تذكرها الان فقط، وينوي اقحامها في تأييده ومساندة مشروعه الفيدرالي وربما فكر ايضاً بانتخابه رئيساً للمرجعية السنية في العراق، التي يمني نفسه في تشكيلها لمواجهة المرجعية الشيعية في النجف.
وقد كشفت وقائع جلسة افتتاح الحفلة (المؤتمر) ابعاد المؤامرة الكردية لزرع الفرقة بين عرب العراق، وتفتيت نسيجهم الواحد، وتصنيفهم طائفياً في عدة مؤشرات منها: ان المنظمين وهم من قيادات الحزبين الكرديين رفضوا وضع العلم العراقي علي المنصة، بحجة انه علم صدام حسين، بينما كان العلم الكردي الاصفر وبحجم كبير يتصدر القاعة، كما ان جلال الطالباني وضمن خطابه الهستيري اورد مفردات مختلقة، لا أساس لها الا في مخيلته الضيقة، عندما قال (ان المكونات الاساسية للشعب العراقي هم السنة العرب والشيعة والشعب الكردستاني)، وهذه حركة خبيثة لفصم اللحمة بين عرب العراق وتقسيمهم الي شعبين، واعتبار الاكراد شعبا ثالثا وليس أقلية، اضافة الي استبعاد التركمان والصابئة واليزيدين والمسيحيين من هذه المكونات، ولم يتردد في ان يقول ان الاكراد لا يعترفون بالعلم الوطني العراقي الحالي، مطالباً بالعــودة الي علم العهد الملكي، أو علم عبدالكريم قاسم، بينما كان احدهم يصــــرخ، بان تحت هذا العلم يقصد العلم العراقي ضربت حلبجة بالاسلحة الكيمياوية عام ۱٩٨٨ وهو يدرك تماما ان الهجوم العراقي علي المدينة كان لاستعادتها من القوات الايرانية التي احتلتها بدلالة الجلاليين وانزلت الاعلام العراقية ورفعت بدلا عنها اعلاما ايرانية، هذه وقائع تأريخية لايستطيع أحد انكارها، ومثبتة في كثير من الادبيات الكردية ذاتها.
ان مسعود البارزاني وكذلك جلال الطالباني لا يصلحان لقيادة مصالحة وطنية في العراق لاعتبارات موضوعية منها، ان الاثنين متحالفان مع الامريكان ومتعاونان مع سلطة الاحتلال، اضافة الي انهما يتمسكان بمشروعهما الفيدرالي الذي يستهدف فصل جزء من العراق والحاق مدن وبلدات وقري عربية وتركمانية ومسيحية ويزيدية في محافظات كركوك والموصل وديالي بالمنطقة التي يسيطران عليها في شمال العراق، كما انهما لا يمتلكان مواصفات الزعامة الوطنية ليقوما بادارة او قيادة مصالحة وطنية، فهما وهذا لا يمكن انكاره، او القفز عليه، رئيسان لحزبين كرديين متنافسين اقتتلا فيما بينهما طويلاً، وبالتالي لا يصلح اي منهما ليكون مرجعية في المنطقة الكردية، فكيف يصيران مرجعية للعراق، وكل العراقيين بضمنهم الكرد، يعرفون ان الجلاليين لو سنحت لهم الفرصة لتصفية البارزانيين لما تأخروا لحظة واحدة، والعكس صحيح ايضاً، والذاكرة العراقية لم تنس بعد كيف استنجد مسعود بصدام حسين في نهاية اب (اغسطس) ۱٩٩٦ مناشداً اياه تخليص مدينة اربيل من احتلال حزب الطالباني والحرس الثوري الايراني.
والمثير في توصيات حفلة اربيل انها تناشد مجلس الحكم تجاوز قانون اجتثاث البعثيين، علماً بان البارزاني والطالباني وثلاثة من انصارهما الاكراد أعضاء في المجلس، وكان بمقدورهم منـــــع صدور هذا القانون البغيض عن المجلس اذا ارادوا فعلاً، بالتعاون مـــع الخمسة في الخانة السنية زائداً كلاً من الدكتور اياد علاوي والدكتورة رجاء الخزاعي والتركمانية صول كول والاثوري الكردي يونادم كنة، وربما رئيس الحزب الشيوعي حميد مجيد موسي، وبذلك يكون المعارضون للقانون لو شاءوا (۱٥) عضواً، وعندها لن يكــون باستطاعة الجلبي حتي لو ايده اعضاء الخانة الشيعية في المجلس من تمرير قانونه القبيح الشكل والمضمون، لان السياسي الذي يحتــــرم نفسه، لا يستخدم مصطلحات مثل الاجتثاث والاستئصال والعزل والاقصاء.
ورغم ان كلمات ومداخلات عدد من الحاضرين مثل الشيخ المحامي فصال الكعود، والشيخ نزار حبيب الخيزران، ومسؤول الوقف السني عدنان احمد، اتسمت بالحرص الوطني والتأكيد علي وحدة العراق وسيادته، الا ان وجود نماذج كردية عنصرية مثل محافظ كركوك الذي يقود منذ شهور حملة شرسة لتهجير عرب كركوك وهجمات علي التركمان والمسيحيين في المدينة، يعطي دلالات علي ان الفعاليات التي تنظمها الجماعات الكردية تظل موجهة ضد عرب العراق والاقليات الاخري، لان هذا الامر اصبح منهجاً ثابتاً لدي الاحزاب والقيادات الكردية.
اما اغرب الطروحات التي قيلت في وليمة اربيل كان نفي محسن عبدالحميد عضو مجلس الحكم الانتقالي واحد مسؤولي الاخوان المسلمين، وجود احزاب طائفية في العراق، وكأنه يريد حجب اشعة الشمس بزجاج ابيض، وهو يدرك جيداً ان الطائفية لم تكن سائدة في العراق علي مستوي الشارع والمجتمع ولكن هذ الحالة المقيتة انتعشت مع الاحتلال الامريكي للعراق في العام الماضي، عندما ظهرت احزاب ودكاكين واسواق طائفية تنسب نفسها الي الشيعة والسنة زوراً وبهتاناً، بدأت بتسويق بضاعتها البائرة دائما وأبدا.
وعموماً فان المصالحة الوطنية في العراق لا يمكن ان تقوم وسلطة الاحتلال جاثمة علي صدور العراقيين، وقوات الاحتلال تنتهك كراماتهم وحرماتهم، ولا يمكن ان تحدث مصالحة بين اطراف تخدم الاحتلال وتتعاون معها سياسياً واستخباراتياً وبين اطراف تناهض الاحتلال وتقاومه.. وبالتالي فان المصالحة الوطنية في العراق لا يمكن ان تتحقق الا عبر الاكثرية العربية ورموزها الوطنية والقومية، أي نعم.