مزامنات - أكمل الدين احسان اوغلو - الشخصية التركية الحضارية المعاصرة - المواريث العريقة والثقافة - الاسلامية في استانبول
د. سيّار الجميل - الزمان
" لابد من التعمق في تراث المسلمين كي نستكشف اسراره ". . . اكمل الدين
احدثكم اليوم عن واحد من ابرز مثقفي العالم الاسلامي المعاصر، وهو اشهر من نار علي علم، انه رجل المواريث العثمانية الاسلامية بتركيا الاستاذ الدكتور اكمل الدين احسان اوغلو الذي اشتهر من خلال منظمته الثقافية الشهيرة، انه صديق للجميع، محب للتراث الاسلامي محبة عجيبة وله مساعيه الخيرة التي يذكرها له جميع من عرفه عن قرب ناهيكم عن اهتماماته التي انتجها مركز الابحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية الذي يقف علي راسه في استانبول. . ولعل من ابرز معالمه ما اظهره للملأ علي مدي اكثر من ربع قرن من الاعمال والانشطة والمنشورات التي اعتنت عناية فائقة بالخطوط العربية الاسلامية والنقوش والمأثورات والفولكلوريات وكل ما خلفه العثمانيون من مخلفات رائعة امتدت اعمارها لاكثر من ستة قرون في تاريخنا الاسلامي الزاهر. . فضلا عن عنايته بالمخطوطات والمأثورات الكتابية التي لا تقدر بثمن ابدا وسعي الي جمعها وفهرستها وتحقيق المهم منها ونشره في العالم.
ولا يمكن لأي باحث في المأثورات الاسلامية التركية ان يشتغل من دون ان يتعرف علي جهود هذا الرجل الذي كان وراء رفع اسم منظمته الرسمية وهي وقفية تركية معاصرة، نجح في ربطها بأكثر من جهة في العالم الاسلامي، وبني لها علاقات متنوعة ووشيجة مع العديد من المنظمات في العالم الاسلامي، وابرزها منظمة المؤتمر الاسلامي ومنظمة الاسيسكو وغيرها من المؤسسات والمراكز والجامعات. . ويعود الفضل اليه في تنظيم العديد من المؤتمرات والمحاضرات والملتقيات التي تخص تراثنا وحضارتنا العربية الاسلامية في التاريخ.
انه رجل متحضر له قيمته المعاصرة في عالمنا الاسلامي اليوم ولابد ان نقف عند بعض ذكرياته وقفة متواضعة لنذكر الاجيال بدوره في اثراء الثقافة الاسلامية وتسجيل مكانته من اجل تاريخ الحضارة الاسلامية. . لنتساءل: كم تحتاج امتنا العربية والاسلامية الي رجال امثال كمال الدين احسان اوغلو بكل ما اتصف به من ميزات ومواصفات رائعة، وخصوصا عند الاجيال القادمة التي لابد لها ان تتمتع بخصال من هذا النوع، فضلا عن الدور الخطير الذي لابد ان تضطلع به في القرن الواحد والعشرين.
معرفتي للرجل عن قرب: ذكريات ثقافة خصبة
لم اكن اعرف ابدا ان الرجل كان وراء ترشيحي للكتابة والتحرير والتقييم في الانسكلوبيديا الاسلامية التي تصدرها دائرة الوقف التركية، اذ علمت ذلك بعد مرور سنوات برغم لقاءاتي به الا انه لم يحملني جميلا ابدا! وربما كان ذلك قبل ان تتوثق العلاقة بيننا، فكيف كانت بدايتها وطبيعتها؟ كنت قد زرت استانبول عدة مرات واهمها زياراتي الثلاث لها عند نهاية السبعينيات وانا احضر اطروحتي للدكتوراه، وكان العمل يجري لتأسيس مركز الابحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية الذي اشتهر في ما بعد بمختصر (ارسيكا)، وبالرغم من لقائي بالرجل لقاءات عابرة علي هامش مراجعاتي مكتبة طبو قبو سراي والارشيف الوطني التركي، ولم يبخل الرجل وكان شابا في انضج حيويته ان يقدم المساعدة العلمية لمن يسأله عنها، وخصوصا لاولئك الباحثين الذين يشتغلون في التاريخ العثماني.
التقيت بالاستاذ الدكتور كمال الدين احسان اوغلو عدة مرات وفي كل مرة كنت اراه اكثر شبابا وحيوية من سابقتها، وكان الرجل ولما يزل يهتم بي جدا ولم يقطع عني معايداته ورسائله واهم منشوراته حتي اليوم بحكم تخصصي في التاريخ العثماني كواحد من جيل المؤرخين العرب الجدد وخصوصا اهتمامه الكبير بكتابي الاول " العثمانيون وتكوين العرب الحديث " الذي نشرته عام ١٩٨٩، وكثيرا ما اشاد به في اكثر من محفل، وكان دائم السؤال عما اصدره من جديد الاعمال والتي كانت تصله بصفة شخصية فضلا عنما كان يقتنيه من خلال المركز الذي يقف علي رأسه. كثيرة هي لقاءاتنا، في استانبول وتونس وبيروت وعمان. . وفي كل مرة يحملني باصدارات مركزه الجديدة هدية منه. .
لقد وجدته رجلا لا يهدأ في حركته وحيويته وفاعليته. . ينتقل من مكان الي اخر من اجل ان ينفع بها مؤسسته ويقدم للاخرين ما يقوم به فيها من منتجات واعمال كما وجدته رجل علاقات ناجح من الطراز الاول اذ ان براغمايتيه تجعله يقدم الاهم علي المهم ويوازن في طبيعة ما يقوم به من اعمال يستقطبها من اجل اثراء الدور الذي اوكل له من اجل انجازه. . كما وجدته من انجح الرجال علي الساحة العربية الاسلامية في بناء علاقات شخصية وثقافية لا يمكن لغيره ان يجاريه في صنعها ابدا. .
ان ابرز علاقاته العربية قد قصرها علي تونس ولبنان والسعودية والشارقة والاردن. . برغم حسن علاقاته مع جهات عربية اخري. . وهو يحاول جاهدا ان يعطي صورة زاهية ودعائية رائعة للجمهورية التركية في علاقاتها مع العرب في القرن العشرين ولم يبق اسير الرؤية الماضوية المشحونة بالصراع واسبابه كما كانت عند مفتتح القرن العشرين ـ كما قال لي يوما ـ ولعل اهم حوار جري بيني وبينه هو ذاك الذي جري علي هامش ندوة العلاقات العربية ـ التركية التي اقامها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت عام ١٩٩٢، اذ اثني كثيرا علي ورقتي التي كنت قد قدمتها للندوة ولكنني استفدت جدا من اجوبته علي تساؤلات كنت احملها له بشكل خاص بصدد تركيا والعالم العربي وخصوصا بشأن ازمة المياه المتشاطئة للدول الاقليمية الثلاث في كل من نهري دجلة والفرات باعتبار ان تركيا وسوريا والعراق تمتلكان اطرافهما المتشاطئة وقد اعطاني بعض الاجوبة التي لم تقنعني بسهولة ابدا، وهذا امر طبيعي في ان يدافع الرجل عن سياسات بلده ومع كل ذلك فان الاقليم بمجمله بحاجة الي الائتلاف بدل التفكك. . ويهمني جدا بهذه المناسبة ان اقول بأن العرب والاتراك لابد ان يستفيدوا من تجاربهم السياسية الخاطئة التي زاولها الطرفان في القرن العشرين والتي اضرتهم جدا ولم يستفد منها في الحقيقة الا اسرائيل.
فن الخط العربي
اذكر مرة جادله أحدهم في واحدة من المناسبات حول تسمية الخط العربي بالخط الاسلامي، اذ برر اكمل الدين هذه التسمية لكون ان ميراث هذا الخط لم يكن عند العرب وحدهم، بل ان تركيا انجبت العشرات من الفنانين الخطاطين العمالقة وكان آخرهم السيد حامد الآمدي الذي يعد مدرسة فذة في فن الخط وقد تخرج علي يديه جملة من اروع الخطاطين، كما وانه منح اجازته الشهيرة لأشهر الخطاطين العرب المعاصرين. . ولم يقتنع مجادله بكل هذا التبرير الذي ساقه لنا الاخ اكمل الدين. . فانبريت قائلا: ان الخط له عناصره الفنية وأساليبه ومواريثه، واعتقد ان كلها عربية، وان كل الخطاطين البارعين في العالم الاسلامي مهروا واجادوا في فن الخط باللغة العربية، كما وان جميع المصادر القديمة من دون استثناء تسمي هذا الفن الاصيل بـ " الخط العربي "، فلا يمكننا ان نؤدلج حتي تراثنا وكأنه اصبح سلعة سياسية. . ثم استطردت قائلا: اتذكرون الصيحات التي نادت عند مطلع الثمانينيات من اجل تغيير تسمية " الخليج العربي " وجعله يسمي بـ " الخليج الاسلامي "، ولم تنجح تلك الدعوة ابدا، لأن الخليج عربي وسيبقي عربي. سكت الاثنان، وقد شد احد الجالسين علي يدي. . وفي الليل عندما أويت الي غرفتي في فندق ريجنسي، طرق الباب علي اكمل الدين اوغلو ليسلمني هدية هي حزمة رائعة من اروع اللوحات الجميلة التي طبعها مركزه. . لوحات من الخط العربي التي رسمها ابرع الخطاطين الاتراك المشهورين. . وقد جلبتها معي الي العراق واعتنيت بها كثيرا ويقترب عددها من الثلاثين لوحة، اهديت منها الي اعز اصدقائي ونشرت ما تبقّي منها علي جدران مكتبي وبيتي. ولقد سمعت مؤخرا ان مركز ارسيكا قد اقر منذ سنوات جائزة الخط العربي التي تمنح لأبرز المبدعين في هذا الفن الجميل.
وقفة تحليلية عند تفكيره:
ان الرجل ليس بمفكر بل هو اداري قدير ورجل علاقات من الطراز الاول. . يفرض احترامه علي الاخرين، ولقد خدم تركيا والعالم الاسلامي ثقافيا من خلال العلاقات التي بناها مع مؤسسات ومنظمات ومراكز بحوث، منها: منظمة الاسيسكو في الرباط والتي يقودها صديقه الاستاذ القدير الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، وهناك منتدي الفكر العربي في عمّان بالاردن والذي قام بتأسيسه ويشرف عليه سمو الامير الحسن بن طلال ولي عهد الاردن سابقا، فضلا عن الدائرة الثقافية بالشارقة وعلاقته المتبادلة مع سمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، كما وله علاقته بمؤسسة فترسي التي يديرها المؤرخ الصديق الدكتور عبد الجليل التميمي في تونس. . الخ.
يري الاستاذ اكمل الدين اوغلو ان المستقبل المشترك للمسلمين قاطبة لا يمكنه ان ينمو من دون معرفة رسوخ العلاقات الحضارية والثقافية المشتركة بين شعوب العالم الاسلامي علي امتداد تاريخ طويل. . بعيدا عن اسباب التشنج والتعصب والانغلاق. . ان اكمل الدين اوغلو يحمل فهما حضاريا اسلاميا يقوم علي مبدأ التسامح والوسطية. . ويدعو لدراسة تجارب الحياة المشتركة للمسلمين قاطبة واستكشاف الادوار الرائعة والعملية التي تمتع بها الاباء والاجداد. . كما ويطالب بتطوير المؤسسات الوقفية في العالم الاسلامي ويهتم بالعمران والعمارة الاسلامية. ولقد خصص لتطوير هذه المباديء عدة خطط ومؤتمرات وبرامج ومنشورات في ثلاث لغات، هي: التركية والعربية والانكليزية.
كلمة اخيرة
وأخيرا، لابد من ان نزجي كلمة وفاء وعرفان للاستاذ الدكتور اكمل الدين احسان اوغلو ونشد علي يديه من اجل الاستمرار في تطوير العلاقات الثقافية في العالم الاسلامي ومن اجل اثراء المعرفة الدقيقة بتراثنا الخصب علي امتداد التاريخ، خصوصا بعد توليه مسؤولية منظمة المؤتمر الاسلامي. . حالفه النجاح والتوفيق.
(فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل: نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية).