إيه كركوك، يا تفاحة حمراء شقها نهر الخاصة من الوسط فصار نصف قلبها ينبض في هذا الصوب والنصف الاخر في ذاك الصوب، اعلم انك مازلت تئنين من آثار البساطيل الثقيلة التي كان يرتديها الجنود لعقود طويلة، اعلم انك لا تحتاجين الى قوة جوية ولا فرقة ثانية ولا فيلق ولا جيوش أجنبية، وإنما يكفيك القديسون والبسطاء والدراويش والأطفال، اعلم ان أنابيب النفط الملتفة بقوة حول خاصرتك لم تفدك في يوم من الأيام بل وان الطائرات الورقية والفنرات في سمائك أجمل من هذه الأنابيب، أجمل منها بيوت الطين في العرصة وأصوات المنشدين في الجوامع وترانيم الدراويش في التكايا وتراتيل الراهبات في الكنائس وقصائد العزاء في حسينيات تسعين، اعلم ان المقاهي الصاخبة بطقطقات الدومنة والطاولي وأغاني فخرالدين اركنج وحسن زيرك وسعد الحلي أجمل من المقرات الحزبية والنقابات، نعم اعلم بان كركوك بلا رتوش أجمل من رنين الموبايلات ومتاهات الانترنيت وتصارع القنوات الفضائية التي تأتي بها الصحون الضخمة.
قيل لي ان كركوك اغتصبت عدة مرات ولم يعد لأكلات الأطفال فيها طعم، ولم يعد هناك لقم ولا لوزينة ولا كريم إستيك ولا شعر البنات ولا بيض اللقلق.
قيل لي ان رائحة التمن والمرقة والكبة والكباب لم تعد تنبعث من المطاعم المنتشرة حول النقليات.
لقد جف نهر الخاصة حزنا على ليالي الصيف الملونة عندما كانت الأسطح تتحول الى كلل بيضاء من الأحلام والأسرار والسرور.
حزنا على حمامات المطيرجية التي غادرت رحابة الفضاء خوفا من ازيز الطائرات وزمجرة السمتيات وأصوات الرصاص، حزنا على الليالي الرمضانية المزدانة بالصلوات و البقلاوة والزلابية وصواني الكليجة والمحيبس والخوريات والزيارات المتبادلة، حزنا على صخب سوق القورية وحركة الناس فيها واصوات بائعي الخضار والفواكه والسمك واللحوم والخبز والطرشي، حزنا على القلعة الشامخة التي بدت منكسرة شاحبة هزيلة، آه كم أتمنى ان أعود الى كركوك لأجدها هي هي ما تغيرت منذ ثلاثين سنة، واجد فيها العمال يصطفون أمام مقهى احمد آغا منذ الفجر يبحثون عن عمل يومي، واجد السينمات تعرض أفلام أيام زمان مثل لبنان في الليل ومرحبا أيها الحب وأبو جاسملر وماشستي وهرقل وسنكام، ومحلات المرطبات في شارع الأوقاف مزدانة بقوارير السينالكو والمشن وكندادراي وشابي وتراوبي.
أجد فيها طهر الطفولة نهرا يغسل أدران القلوب، واجد الأعراس وحفلات الختان تتكرر واجد القلعة فرحة مستبشرة والربيع يجمع بين الصيف والشتاء وتكتنز أشجار التوت بالثمر الحلو.
إيه كركوك لا تقلقي، ولا تقنطي فالصبح آت، وقومي لملمي جراحك واستعدي للعرس الأكبر، واستمعي الى هذا الصوت المنعش:
لاتبك لاتبك انها أيام وتمضي لاتبك
ان ذلك الباب الذي أغلقه ربي / سيفتحه يوما لاتبك
يا أيها السائق خذني وأوصلني الى حبيبي بسرعة /ان عيون حبيبي ترقب الطريق وبيته في عمق مجرى النهار / يا أيها السائق لا تقف في الطرق /ولا ترفع رجليك عن دواسة البنزين / لاتقف كثيرا للمسافرين /لا تخف سأدفع لك الحساب مضاعفا / هيا أيها السائق خذني، يللا شوفير آبار ماني.
نعم ان الصبح آت ولن تكون هناك نقطة سيطرة قرب عمود التلفزيون ولا سؤال عن هوية ودفاتر خدمة ولن يؤلمك الانضباطية بوقع أقدامهم لن تكون هناك دوائر امن واستخبارات، بل ستكون هناك ناس وطيبة وأمان ومشاعر وعواطف وفرح طائر بين تلك البيوت التي عاد إليها أهلها من عرب وتركمان واكراد، وان الساحات العامة التي شهدت إعدام المئات من أبناء المدينة ستتحول الى حدائق غناء وملاعب للأطفال وأماكن للفرح الجماعي، وإذا ناح قمري في رحيم آوى يجيبه آخر في جرت ميدان، وإذا غرّد عصفور في المصلى تجيبه عصفورة في الماس. وسيغادر القلق جبين كركوك ويعود صباحها منعشا يشهد الاطفال يتوجهون نحو المدارس ولن يبق منهم احد يتجول بين المقاهي يبيع العلك والسجاير او يحمل صندوق صبغ الاحذية وانما يحمل حقيبة الكتب والدفاتر والمحايات والقلم ولفّة شهية صنعتها يد الوالدة الحنونة.
لاتحزني كركوك فأنت في ضمائر التركمان وفي قلوب الأكراد وفي عيون العرب وبين اكف الكلدان و الأشوريين، فالكل يحبك حد العشق وبابا كركر سيدفئ الجميع بناره الأزلية، وستحوينا عرفة جميعا في أيام العيد، وكلنا يتذكر أكرم طوزلو الذي قال على لسان المعذبين قبل أربعين سنة: أخذت حقيبتي بيدي اليسرى /ذاهب نحو الغربة / أبي مع السلامة / أمي مع السلامة /أخي أختي مع السلامة. لقد آن لهذا الصوت الحزين ان يصدح ويقول لقد عدت يا مدينتي وعاد معي المنفيون،
لقد عدت يا أهلي فهل تهلهلون وتملئون الجو بالزغاريد فاليوم عيد،
اليوم عيد.