ولد الفساد من رحم السلطة والمال والاقتصاد، واتسع نطاقه فيها وصار نظاماً محمياً ومصفحاً بالأدوات والمؤسسات والجند، ومن فرط رسوخه، بات قادراً على إعادة انتاج نفسه وعلى تعميم قيمه عبر أقنية مختلفة ضخته في قطاعات وأوساط جرى توزيع بعض اقساط ريع ذلك الفساد عليها. ولقد اصاب الثقافة والمثقفين ما اصابهما من ذلك الفساد، منذ سبعينات القرن العشرين الماضي، فتحولا موضوعاً وأداة له يتزايد اليوم الرهان عليهما في مضمار البحث عن شرعنة أيديولوجية له.
لماذا تحول المثقفون العرب -قسم منهم على الأقل- إلى قوة احتياط في جيش الفساد تستدعى عند الاقتضاء، كما تستدعى قوات الاحتياط في الحروب؟ كيف يخون المثقفون رسالة المعرفة والابداع وقيم الحرية والنقد ليقدموا السخرة العقلية لمشروع (هو الفساد) يهدد بإسقاط الدولة والاقتصاد والوطن؟
لقد انتهت الحقبة التي كان يمكن فيها توفير المثقفين من المحاسبة عن اعمالهم، أو النظر بعين التقدير المثالي الى ادوارهم الكبيرة في المجتمع والتاريخ. باتوا طرفاً في المشهد المأساوي وفريقاً شريكاً في صناعة كثير من وقائعه! من الامانة القول ان التعميم هنا فعل غير شرعي ولا عادل، لأن قسماً حياً من المثقفين ما برح يحفظ شرفه ودوره. لكن مجرد سقوط نخبة، ولو صغيرة منهم، في مهاوي العفن يسبغ الشرعية على التساؤلات التي طرحنا. دعونا نطالع مسار التراجع في أداء المثقفين العرب الذي افضى بهم -أو ببعض غير قليل منهم- الى حيث هم عليه اليوم:
مر على الوطن العربي حين من الدهر كانت فيه الثقافة سلطة ترادف أو تناظر سلطة السياسة ان من حيث قوتها الرمزية أو من حيث فاعليتها المادية.
كان المثقف معتزاً بسلطان المعرفة لا يعوضه عنه سلطان آخر، متمسكاً باستقلاليته تمسكاً كثيراً ما استرخص النفس دفاعاً عنه. ومع انه كان يسلم احيانا بأن السلطة السياسية القائمة لا تعوزها الشرعية الوطنية بالنظر الى ما أنجزته في مضمار التنمية والدفاع عن الاستقلال الوطني والقومي لكنه لم يكن يرتضي لنفسه أي شكل من الاصطفاف السياسي معها. وربما يكون دفع كلفة غالية من حريته لقاء اصراره على حفظ دوره وصون استقلاليته. وكثيراً ما ذهب المثقفون الى السجون ارسالاً وسيموا الخسف والهوان دون ان يمسكوا عن قول ما حسبوه حقاً ليس يقبل المساومة عليه او التوبة عنه، دون ان نتحدث عن شهداء فيهم سقطوا على طريق هذه الملحمة.
انصرم ذلك الزمن الذهبي للثقافة والمثقف منذ عقود ثلاثة خلت. نجحت السياسة في ان تفرض احكامها على وظيفة المثقف المعرفية والابداعية، ونجحت الدولة في ان تمد سلطانها الى الحقل الثقافي، فتلتقط قسماً غير قليل من المثقفين تحولوا الى ألسنة للسلطة واطرحوا وظيفتهم المعرفية. من المفهوم تماماً ان تجنح الدولة الى كسب جانب المثقفين لأن منزعها ادماجي وإلحاقي لكل الجماعات الاجتماعية، ومن المفهوم ان تسعى السلطة الى استدراجهم للاصطفاف معها وفك ارتباطاتهم الواقعة او المحتملة مع المعارضة، لكن صلة المثقف بالسلطة لم تتحقق دائماً بوساطة الاكراه القسري، بل كثيراً ما سعى اليها المثقفون انفسهم عن رضا ورغبة مدفوعين بإغراء السلطة. وكلنا يذكر الدعوة التي اطلقها احد المثقفين العرب، قبل عشرين عاماً، عن ضرورة جسر الفجوة بين المثقفين وصانعي القرارات، وكيف صارت مبدأ أسس لتلك الصلة لدى جحافل منهم تتكاثر اليوم بمعادلات مالتوسية. لقد ارتضوا في النهاية ان يتحولوا من مالكي رأسمال ثقافي الى قوة عمل أجيرة لدى اجهزة السلطة.
لكن اللحظة الاسوأ في هذا المسار الانحداري للمثقفين هي هذه التي نشهد وقائعها اليوم في ظل العولمة والحروب الامبريالية التي تخاض باسم الديقراطية والاصلاح السياسي. الذين تحدثوا في ما مضى عن جسر الفجوة بين المثقف والسلطة لم يكن هذا منتهى طموحهم، إذ سرعان ما تبين ان ذلك لم يكن بالنسبة اليهم إلا معبراً نحو جسر فجوة جديدة بين المثقف وأجهزة الدول الاجنبية، خصوصاً منها المتطلعة الى اسقاط اوطاننا وإركاع شعوبنا وانتهاب ثرواتنا. ولقد نشأت شبكات من الباحثين “الخبراء” العرب من ذوي الماضي اليساري والقومي المرتبطين بمراكز اجنبية تكرست وظيفتها (أي الشبكات) في تقديم السخرة الفكرية لتلك المراكز، وفي التبشير بقيم النظام الدولي الجديد وتجنيد النفس في معركة الهجوم على الثقافة العربية وعلى رابطة العروبة بدعوى تخلفهما، والدفاع عن الاندماج غير المشروع في علاقات التبعية.
نعم، لقد تشكلت ميليشيات ثقافية عربية معولمة تفرغت لإنجاز عمليات خلف خطوط “عدوها” الجديد: أي المجتمع، والوطن، والامة، والهوية والثقافة. . إلخ، مطمئنة الى ان امنها محمي من الدول الغربية التي تكل اليها تلك المهمة القذرة. وكم كان مدعاة للسخرية ان مئات من الكتبة النكرات في مجتمعاتهم العربية، من الذين لم يسمع بهم احد، باتوا يلقون الحفاوة في المراكز الاجنبية بوصفهم “رموزاً” ل “الحرية” و”الشجاعة الادبية”، ويستقبلهم الساسة والوزراء، وتفتح امامهم ابواب الاعلام، ويجري تصنيع صورة لهم ليست تتصل بمؤهلات لديهم ما خلا كونهم قطع غيار في آلة ايديولوجية معادية!
تلك هي الدرجة الأعلى للفساد في جسم المجتمع الثقافي العربي. وبئس ما تطلبه لنفسها هذه الميليشيات.