المسألة الشرقية الجديدة: تركيا وهوية المشروع الأوروبي
السيد ولد اباه
لم يكن الملك المغربي الراحل الحسن الثاني ـ الذي عرف بشدة الذكاء وبعد النظر ـ مازحا ولا حالما عندما طالب منذ منتصف الثمانينات انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، معتبرا أن قربها من الشواطئ الأوروبية واقتران تاريخها بتاريخ القارة القديمة وصلاتها البشرية والاقتصادية بها، كلها عوامل تؤهلها لعضوية النادي الأوروبي.
ومع أن الطلب لم يلق تجاوبا من دول الاتحاد، إلا أنه أضاف زخما جديدا لإشكال هوية المشروع الاندماجي الأوروبي، الذي تأرجح بين صيغة الشراكة الاقتصادية المحدودة (في مرحلته الأولى) والصيغة الفيدرالية المرنة (بعد اتفاقات ماستريخت) والوحدة السياسية الدفاعية (كما هو الطموح الحالي).
ويطرح اليوم ملف الانضمام التركي الذي بدا في الأصل أقل تعقيدا وأكثر وجاهة من الترشح المغربي، الإشكال ذاته بحدة مضاعفة. صحيح أن المفاوضات بين المجموعة الأوروبية وتركيا بدأت منذ سنة ١٩٦٣، ولم تكن عضويتها مدار اعتراض مبدئي، وإنما مؤجلة لأسباب ظرفية مؤقتة، من بينها الخلاف بين أنقرة وأثينا ومصاعب وهزات التجربة الديمقراطية التركية والمشكل الكردي الداخلي.
وعندما انفتحت الآفاق لتوسيع النادي الأوروبي ليشمل دول أوروبا الشرقية والجمهوريات البلطيقية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار النظام الشيوعي في بلدان شرق القارة، اعتبر انضمام تركيا للاتحاد أمرا وشيكا، خصوصا بعد الإصلاحات الجوهرية التي أدخلتها تركيا على نظامها السياسي والتشريعي، وبعد تحسن علاقتها باليونان، وقبولها الاعتراف بالحقوق الثقافية والقومية للشعب الكردي.
ومع ذلك، فإن هذا البلد الذي اختار منذ نهاية الخلافة العثمانية الانتماء الأوروبي الكامل، باستنساخ النماذج الثقافية والاجتماعية والتنموية الأوروبية الحديثة، والقطيعة مع هويته الشرقية، تضاءلت حظوظه في الانضمام الوشيك للاتحاد الموسع، في وقت تشهد الساحة الأوروبية حوارا فكريا وأيديولوجيا متشعبا حول المقومات الثقافية والعقدية للمنظومة الأوروبية.
ولقد كان المستشار الألماني السابق هلموت كول، قد دشن هذا الحوار بالقول إن «أوروبا ناد مسيحي» ومن ثم لا مكان فيه لتركيا المسلمة. وتلاه الرئيس الفرنسي جيسكار دستان الذي يرأس حاليا لجنة مستقبل أوروبا، فحذر قبل سنتين من انضمام الدولة التي ورثت الخلافة الإسلامية للاتحاد الأوروبي، معتبرا أنها لا تنتمي للقارة القديمة لا جغرافيا (٩٥ في المائة من سكانها يعيشون خارج مساحتها الأوروبية الضيقة) ولا حضاريا (بحكم انتمائها الإسلامي).
وبلغ هذا الجدل أوجه في الأسابيع الأخيرة، وكشفت استطلاعات الرأي في البلدان الأوروبية تصدعا متفاقما في الشارع الأوروبي إزاء المسألة، مما حدا بالرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى التعهد بطرح ملف انضمام تركيا للاتحاد للاستفتاء الشعبي العام في سابقة مثيرة يبدو أن العديد من البلدان الأخرى ستحذو حذوها.
ولا شك أن الحجج التي تقدم لرفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي هشة ضعيفة، إذ لان حدود اوروبا (التي استوحت اسمها من أميرة آسيوية قديمة) ليست محددة دقيقة، لا من المنظور الجغرافي ولا من المنظور التاريخي الحضاري.
فإذا كانت الهوية الحضارية لأوروبا تتشكل من الإرث المسيحي ـ الروماني، فإن دور القسطنطينية في هذا الإرث محوري معروف، فالمجامع الكنسية الثلاثة الأولى انعقدت فيها، والدولة الأرمنية التركية في القرن الرابع الميلادي، كانت أول دولة تعتمد المسيحية ديانة رسمية قبل الامبراطورية الرومانية نفسها، كما أن مناطق واسعة من تركيا تنتمي للفضاء اليوناني ـ الروماني كما تشهد الآثار الباقية اليوم.
وكما يبين المؤرخ المعروف لسيان لوفيفر فإن تاريخ أوروبا هو تاريخ الصياغات المختلفة والمتباينة لأوروبا. فإذا كانت القارة القديمة هي السطح، فإن المفهوم الاستراتيجي والحضاري لأوروبا يتجاوز هذا المركز الجغرافي، ولذا قال لوفيفر عبارته المشهورة: «إن مشكل أوروبا يتجاوز أوروبا، إنه مشكل العالم».
فأوروبا شارلمان والنهضة والأنوار والثورة الصناعية لا تتجاوز نهر الدانوب، وتنحصر في الدول الست التي شكلت نواة السوق المشتركة، وهي في الأصل كاثولوكية قبل أن تتوسع للبروتستانتية، ثم للأرتُدوكسية، وليس من المستهجن ولا من الغريب أن تتوسع للمسلمين.
ففضلا عن وجود خمسة عشر مليون مواطن أوروبي مسلم في دول الاتحاد حاليا، مما يجعل من الإسلام الديانة الثانية في القارة، فإن مسار التوسع الطبيعي للمجال الإندماجي الأوروبي سيفضي حتما لفتح المجال أمام عضوية دول أوروبية مسلمة لا سبيل للتشكيك في هويتها الجغرافية مثل ألبانيا والبوسنة ومقدونيا.
وإذا كان المشروع الاندماجي الأوروبي قام على مرتكزات علمانية لا مكان للدين فيها، بل أساسها اعتبارات المصلحة المشتركة وآلياتها المشاركة الديمقراطية والاقتصاد الحر، فإنه من الخلف إغلاق الباب أمام بلدان مترشحة تتوفر فيها المعايير المطلوبة بما فيها النظام العلماني نفسه بذريعة الديانة السائدة فيها.
والواقع ان الهوية المزدوجة لتركيا ميزة إيجابية من المفترض أن تدعم حقها في العضوية، باعتبار حاجة الاتحاد الأوروبي الحيوية للدور التركي في مثلث الأزمة الذي تؤثر أوضاعه مباشرة على الأمن الإقليمي الأوروبي: الشرق الأوسط ـ روسيا ـ القوقاز، وهو الدور الذي تدركه جيدا الولايات المتحدة وتسعى لتوظيفه لصالحها.
فبقدر ما أن تركيا مفتاح أساسي للفضاء الشرق أوسطي الذي تشكل أحد أضلاعه إلى جانب العالم العربي وإيران، فإن تأثيرها المتنامي في منطقة البلقان والجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الغربية والوسطي، الناطقة بالتركية (باستثناء جمهورية واحدة) تؤهلها لتأدية دور محوري في العلاقات الأوروبية ـ الروسية المعرضة لشتى أشكال التطور في ضوء الأوضاع الروسية الداخلية المشحونة والمتأزمة. فثبات واستقرار الجناح الجنوبي الشرقي لأوروبا مرهون بهذا الدور التركي الذي لا يمكن أن تضطلع به رومانيا وبلغاريا لوحدهما.
بيد أن الخطورة الكبرى في إقصاء تركيا من النادي الأوروبي تتمثل في إبلاغ رسالة واضحة للعالم الإسلامي، مفادها سد الأبواب والمنافذ أمامه بحجة اختلافه الديني والحضاري، وتركه لأزماته الداخلية المتفاقمة، مع توهم الانفلات من استحقاقاتها وتأثيراتها الحتمية.
لقد دعا المؤرخ الفرنسي ريتشارد لفيغييه في مقالة هامة بصحيفة «لموند» إلى إبداع دوائر أوروبية متعددة، تمتد في بعض صياغاتها للفضاء المتوسطي، فتشمل بلدان المغرب العربي والشرق الأوسط، وتتخذ وفق صيغة أخرى شكلا قاريا يمتد من برست إلى موسكو، مع إدراك أن رهان القرن المقبل سيكون من دون شك السباق الأوروبي ـ الأميركي على المجال الآسيوي الذي لا سبيل لولوجه من دون العالم الإسلامي.