تشهد مدينة كركوك منذ بداية الاحتلال الامريكي للعراق وضعا متوترا بصورة تدعو الى القلق، فلقد مورست سلسلة من الاستفزازات المنظمة من قبل جهات كردية ضد سكانها من القوميتين العربية والتركمانية. وقد استمرت تلك الاستفزازات بصورة متواصلة وبخط بياني متصاعد بحيث شملت السيطرة على ممتلكات وبيوت العديد من سكانها من العرب والتركمان واجبارهم على الرحيل من المدينة بممارسة شتى اساليب الارهاب كما حدثت عمليات اغتيال وقتل واهانة لعدد غير قليل منهم وخاصة من العرب. كما جرت عمليات ترحيل جماعي شملت سكان بعض القرى التابعة للمدينة والسيطرة عليها من قبل عناصر كردية جيء بها من مدن وقرى ليست لها علاقة بكركوك مصحوبة باساليب غاية في الوحشية والاستفزاز تتماثل كثيرا مع سياسة الفصل العنصري، ورفعت في اماكن مختلفة من المدينة لافتات تشتم العرب والقومية العربية وتحرض عليهم مصحوبة بسيل من التصريحات والكتابات التي تستهدف اهانة العرب ومشاعرهم القومية مستخدمين الفاظا نابية تخلو من أي احساس بالمسؤولية تجاه سياسة التعايش والوئام بين مكونات العراق الاجتماعية والقومية والدينية. وقد وصلت الاوضاع في بعض الاحيان الى حد ان من يرتدي اللباس العربي من الرجال او النساء داخل المدينة يصبح عرضة للاعتداء من قبل عناصر كردية تابعة لهذا التنظيم او ذاك من التنظيمات الكردية، اضافة لذلك شهدت مدينة كركوك تدفقا غير طبيعي من قبل عناصر كردية تعد بعشرات الالاف جيء بها من مناطق مختلفة أغلبهم ليس له علاقة بالمدينة، الامر الذي اضطرهم للسكن في مخيمات مؤقتة. وان العديد من هؤلاء قاموا بالسيطرة على اراض سكنية في محيط المدينة واسرعوا ببناء دور سكنية عليها بصورة عشوائية ودون الحصول على الموافقات الاصولية بهدف تغيير الطابع الديموغرافي لها. ومارسوا الضغط والتهديد على العناصر العربية لاجبارهم على بيع مساكنهم او محالهم التجارية مقابل دفع اثمان رمزية ومغادرتهم المدينة خشية عمليات الانتقام. ولو توقفت الامور عند حدود هذه الممارسات لهان الامر الى حد ما ووفرنا الاعذار والمبررات التي من شانها تطويق تلك الازمة وابقائها في حدود ردود الافعال العفوية غير المنضبطة التي تصدر من هذه الجهة او تلك دون تأويلها والتوسع بها الى حدود ما يجعلها مشكلة حقيقية بين مواطني هذه المدينة الذين تعايشوا منذ قرون عديدة بحيث اصبحوا يمثلون نموذجا فريدا للتضامن الاخوي بين مكونات الشعب العراقي كان من الممكن تعميمه على بعض المحافظات التي تسكنها اكثر من قومية. ولكن حينما تتكرر مثل تلك الاستفزازات وتتصاعد بصورة مستمرة ومتواصلة وتتفاقم الاوضاع فيها الى الحدود التي يصبح السكوت عليها ضربا من ضروب القبول او الاعتراف بواقع جديد من شانه تغيير الطبيعة الديمغرافية لهذه المدينة عندها يصبح الامر مختلفا تماما شكلا وموضوعا. وفوق ذلك كله صدرت خلال العام ونصف العام الماضي العديد من التصريحات الاستفزازية المتشنجة من اعلى القيادات الكردية، التي وصلت حد التهديد باعلان الحرب على العرب والتركمان اذا لم يتم الاعتراف بكردية هذه المدينة التي لم يثبت التاريخ انها كانت كذلك. وفي مناخ الاوضاع المتوترة هذه وعلى ارضية الرغبة المخلصة لتطويق هذا التوتر في المدينة وايقاف التدهور الملحوظ بين المكونات القومية فيها عقد الشهر الماضي مؤتمر موسع بمدينة تكريت ضم العشرات من شيوخ العشائر ووجهاء محافظتي صلاح الدين وكركوك وممثلين عن الاحزاب والجمعيات والمنظمات وممثلا عن وزارة العدل، والشخصيات العربية والتركمانية تحت عنوان (كركوك لكل العراقيين) وخرج المؤتمر بتوصيات واقعية وبناءة ومن بين ابرز تلك التوصيات ازالة كافة التجاوزات المخالفة للقوانين والانظمة بعد ٩ نيسان ٢٠٠٣ خاصة المتعلقة بطرد العرب من قراهم بقوة السلاح من قبل الاكراد في قرى داقوق والدبس ووقف عمليات ترحيل العرب من القرى الواقعة على طريق كركوك - السليمانية - اربيل والدبس. كما اكد المؤتمر على وقف استغلال الاكراد في السلطات التنفيذية في المحافظة لتزييف الحقائق في موضوع ديمغرافية المحافظة ونقل عدد من البطاقات التموينية الى كركوك وتسجيل الولادات التي تحدث في المحافظات الشمالية في مستشفى كركوك وتغيير المدارس والشوارع والعديد من المؤسسات الحكومية الى اسماء كردية. ان الوضع السكاني في هذه المدينة يحتاج الى علاج يتحرك على قاعدة اعادة الحقوق لاصحابها وتعويض من يستحق تعويضا عادلا وترحيل من اسكن في المدينة لاهداف سياسية من قبل النظام السابق الا اننا نرى ان ما يجري الان ليست له علاقة بهذا الموضوع بل يتعداه الى ما يجعل العديد من المواطنين يشعرون بان وراء الاكمة ما وراءها وهو ما يبعث على القلق لدى اوساط عراقية عديدة.
ان العرب العراقيين كما هم التركمان كانوا وما زالوا حريصين كل الحرص على وحدة اراضي العراق بقدر ما هم حريصون على ان ينال الشعب الكردي الشقيق حقوقه القومية المشروعة في حدود وحدة الاراضي العراقية، وهذا لا يتم الا من خلال الاصرار على دمقرطة العراق شعبا ودستورا ونظاما، ولكن رصدا دقيقا لما يجري الان يجعلنا نقف على حقيقة خطيرة لم تعد لها اية صلة بهذه المشاعر بل يتعداها الى ما هو اخطر فلا يمكن ان يفسر ما يجري في داخل مدينة كركوك وقراها على امتداد عام ونصف العام بانه مجرد ردود افعال او تجاوزات فردية او عمليات انتقامية محدودة. ان ناقوس الخطر يدق ضمائر ومشاعر العراقيين المخلصين والحريصين على وحدة بلادهم وحمايتها وفي ذات الوقت حماية العرب والتركمان من الاهانات والاستفزازات التي توجه لهم بصورة يومية.
وقد شهد الاسبوع الماضي تطورا مهما على طريق تصعيد هذه الازمة من طرف واحد حيث سيرت في كركوك مظاهرة كردية حاشدة تطالب بضمها لكردستان وطرد العرب الوافدين والتهديد بعدم المشاركة في الانتخابات في حالة عدم خروج العرب منها. واللافت في الامر ان قياديا كرديا بارزا صرح قائلا: ان "التظاهرة رسالة موجهة الى من يحاول تهميش الاكراد وعدم منحهم حقوقهم (. . .) فكركوك مدينة كردية".
وحذر من ان الاكراد "سيرفضون الانتخابات اذا بقي الوضع على ما هو عليه ولم تتم اعادة العرب الوافدين الى مناطقهم الاصلية وعودة الاكراد المرحلين، دون النظر الى ما قد يولده مثل هذا التصريح من ردود افعال على الجانبين العربي والتركماني، الامر الذي ولد مشاعر الامتعاض وردود فعل غاضبة من قبل السكان العرب والتركمان فشكلوا لجنة مشتركة مكلفة بمهمة التحضير لمسيرة حاشدة خلال الايام القريبة ردا على المسيرة الكردية مما يؤكد ان التوتر في كركوك ما زال يتصاعد يوما بعد آخر وهو ما ينذر بخطر جسيم ستتعرض له هذه المدينة اذا لم تبذل جهود ملموسة لتطويقها قبل فوات الاوان. ان عددا من المحللين السياسيين يرى ان مثل هذه المسيرات بالاضافة الى الانشطة والفعاليات الاخرى هدفها تشديد الضغط على الحكومة المؤقتة التي تعاني من ضعف شديد وانشغالها في ملاحقة ابو مصعب الزرقاوي وجماعته واتباعه، لانتزاع اكبر قدر من المكاسب وصولا نحو ضم كركوك الى منطقة كردستان. وفي الوقت الذي تلتزم الحكومة المؤقتة بالصمت المطبق تجاه تلك الممارسات اللاقانونية واللاشرعية، يصرح سفير امريكا - حليف الاكراد الراهن - في تركيا قائلا: "ان كركوك ليست كردية وان هناك اجراءات كردية لتغيير التركيبة الديمغرافية (السكانية) للمدينة لجلب عوائل كردية لتسكن فيها، وهي محاولات ليست مجدية واضاف قائلا: حتى الحكومة المؤقتة تعتبر مدينة كركوك وضعا خاصا وان وضع المدينة معروف وهي مدينة عراقية ولكنها ليست كردية ويمكن لكل العراقيين من مختلف الاطياف والقوميات العيش فيها دون تمييز او تفرقة". وانطلاقا من الحرص الشديد على تجنيب ابناء هذه المدينة العراقية مثل تلك المخاطر والعمل على حل الاشكالات القائمة بروح الاخوة والتفاهم والتمسك بالقانون فاننا نناشد الزعامات السياسية والاجتماعية وشيوخ القبائل من الاخوة الكرد بممارسة اشكال الضغط كافة والتحرك لوضع حد لهذا التدهور في مدينة كركوك ووأد الفتنة قبل انطلاقها من قمقمها، كما نوجه في الوقت ذاته نداء الى الشخصيات الثقافية والسياسية والزعامات الكردية من سكان بغداد الذين يقدرون مشاعر المحبة والاخوة التي احاطهم بها اشقاؤهم العرب منذ اجيال طويلة من الزمن بالخروج عن صمتهم والعمل سريعا من اجل درء المخاطر التي اذا ما تفاقمت واستمرت وازدادت تدهورا فانها قد تشعل الفتيل في هذه المدينة او غيرها من المدن العراقية وتقود الجميع الى ما لا تحمد عقباه.