حين كان أقطاب الإدارة الأمريكية يتنافسون في تبرير الأسباب التي تدفع إدارتهم الى شن الحرب على العراق وغزوه: نزع أسلحة الدمار الشامل، معاقبة النظام العراقي على علاقته بتنظيم “القاعدة” وايوائه “الارهاب”، “تحرير” العراق من نظامه السياسي. . الخ، لم يتردد وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول في الاعتراف بوجود هدف استراتيجي بعيد المدى من وراء غزو العراق واحتلاله: تغيير خريطة المنطقة العربية وإحداث “تحول ديمقراطي” فيها.
لم يتأخر الأمر طويلاً لنتبين معالم الأفق الجديد الذي فتحته الغزوة الكولونيالية للعراق. بعد الاحتلال، انطلق حديث عن مشروع إقامة “نظام الشرق الأوسط الكبير” في المنطقة. أطل النظام إياه، من تحت أنقاض الخراب العظيم الذي خلفته الحرب، على منطقة وعلى عالم ترتعد فرائص قواهما الحاكمة. كانت هذه القوى في منطقتنا وفي أوروبا جاهزة لأخذ الاندفاعة الأمريكية في الحسبان والسير في تيارها الى حين من دون الوصول معها الى النتائج نفسها. هكذا دخلت أوروبا “على الخط” لتعدل من الرؤية الأمريكية ل “الشرق الأوسط الكبير”، ولم تنتظر النظم العربية طويلاً لتعلن عن “برنامجها الاصلاحي” في مكتبة الاسكندرية وفي قمة تونس العربية مستبقة ما سيسفر عنه اجتماع قمة الثمانية الكبار في يونيو/ حزيران ٢٠٠٤.
كانت الاندفاعة الأمريكية جامحة قبل غزو العراق وبعده بقليل. ففكرة “الشرق الأوسط الكبير” أتت محمولة على ظن أمريكي خاطئ بأن المنطقة استسلمت أخيراً لقدرها بعد طول ممانعة ومكابرة، وان عريكتها لانت وباتت أوضاعها جاهزة لقطاف سياسي ناجح. لكن الظن خاب. فأمريكا المتطلعة الى استثمار احتلالها للعراق موقعاً استراتيجياً ممتازاً تطل منه على الجوار العربي: تملي شروطها عليه وتستدر تنازلاته بغير حدود، اكتشفت ورطتها متأخرة في اوحال بلد انقضت عليها المقاومة فيه فأرهقتها ارهاقاً، وشلت قدرتها على التطلع الى هدف آخر أكثر من مجرد حماية وجودها العسكري في العراق! ويفسر ذلك، الى حد بعيد، لماذا تراجع حدة خطابها حول تحقيق الديمقراطية في العالم العربي، ولماذا قبلت بالتراجع عن الكثير من عناصر رؤيتها للموضوع لمصلحة الورقة الأوروبية حول الاصلاح، علماً بأن الإدارة الأمريكية لم تكن يوماً جادة في حديثها عن الاصلاح والتغيير الديمقراطي في الوطن العربي، ولم تكن تريد منه غير ذريعة للتدخل قصد إحداث هندسة سياسية جديدة لكياناته على مقتضى مصالحها كقوة عظمى وحيدة في العالم، وكقوة أوحد من حيث النفوذ داخل المنطقة العربية.
لم تكن الإدارة الأمريكية جادة في “سعيها” في “تحقيق الديمقراطية” في الوطن العربي لأنه ليس في مصلحتها ذلك. ليس في مصلحتها ان تنشأ سلطة منتخبة من الشعب: تكتسب شرعيتها داخلياً لا من قوة خارجية تحميها، وان تكون سلطة خاضعة للمساءلة الشعبية عن سياسات تهدر الثروة او السيادة والاستقلال الوطني مثل السياسة النفطية والسماح بإقامة القواعد العسكرية الأمريكية في الأراضي العربية، او سياسات تتحدى مشاعر الشعب ومواقفه مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني او تمويل حروب أمريكا ضد بلدان عربية، كالعراق، او فتح أراضيها واستقبال جيوشها لتسهيل غزوها. وليس في مصلحتها قيام نظام ديمقراطي يقود الى تعددية سياسية حقيقية والى انتخابات حرة نزيهة وشفافة تعرف أمريكا سلفاً انها ستفرز نخبة سياسية معادية لها وتعتبرها “ارهابية”. وليس في مصلحتها ان تقوم ديمقراطية يعبر فيها الشعب عن رأيه بحرية كاملة، لأنها تعرف ان شعوبنا العربية تحمل ازاءها مشاعر العداء والكراهية بسبب سوابق سياساتها تجاه قضايانا. فما الذي تعنيه بالديمقراطية إذن إذا كان أمرها على نحو ما رأينا؟
انها تعني، في الحد الأدنى من مطالبها، ورقة ضغط سياسي على نظم الحكم العربية القائمة: تبتزها بها وتستدر بها تنازلاتها أكثر فأكثر. أما في الحد الأعلى من تلك المطالب، فتريد بها صيغة سياسية لتخليق وتفقيس نظم سياسية عربية جديدة على مقاس معاييرها، بعد ان استنفدت النظم السابقة دورها فأعطت ولم تستبق شيّا! انها لا تريد نخباً سياسية منتخبة، وإنما تريد نخباً سياسية عميلة تكسر ما تبقى عند سابقاتها من بعض الحواجز النفسية وتنفذ “الفرمانات” الأمريكية بلا خجل او وجل! وإذا كان بعض من المثقفين والسياسيين العرب من صفوف المعارضات قد أخذته الحمية على الديمقراطية بمناسبة الضغط الأمريكي، فرصد توقيت خطابه “الديمقراطي” على الساعة السياسية الأمريكية، متخيلاً انه يقتنص بذلك سانحة ليست تتكرر، فقد فاته ان يسأل نفسه لماذا تصمت المطالبات الأمريكية بالديمقراطية عن دول تفوقت على نفسها في انتهاك أبسط الحقوق الآدمية ولا نقول حقوق الانسان لأنها أكبر وأجل لمجرد انها قدمت توبتها وسلاحها ومالها لشراء براءتها من تهمة الارهاب وشق عصا الطاعة على السيد الأمريكي في زمن كانت فيه “ثورية” بشكل فظيع؟
يشبه النفاق الأمريكي في هذا الباب نفاق عربي رديف. ادعت النظم العربية تحت وطأة الضغط الأمريكي انها على استعداد لتطبيق اصلاحات اقتصادية وسياسية “عميقة”. بعضها دفعه الضغط الكثيف الى فتح نظامه التعليمي امام ورشة “اصلاحات” مصممة لترضية املاءات أمريكية معلومة حول كيفية رواية التاريخ او تقديم الاسلام للناشئة! من دون ان يوازي ذلك أي تغيير جدي في نظامه السياسي (علماً بأن نظامه الاقتصادي مستقيم منذ زمن على مقتضى معايير “الاقتصاد الحر” وتوصيات صندوق النقد الدولي!). وبعضها الآخر أجرى تحسينات شكلية (=إعلامية) وضعت قليلاً من المساحيق على وجهه لاخفاء تجاعيده السياسية: من قبيل تقديم الأبناء والحفدة في الصورة كرموز جديدة للسياسة تعلمت في أمريكا وتستأهل دوراً او ميراثاً، او من قبيل المشاركة في الحملة الأمنية والسياسية والإعلامية ضد الأصولية الاسلامية تقرباً وزلفى من الإدارة الأمريكية، ورشوة سياسية لها لكف الضغوط عنه. وبعضها الثالث استأنف عادته الرتيبة في التحايل على مطلب الاصلاح بالاقرار به لفظاً والازورار عنه فعلاً. اما الجامع بين هؤلاء جميعاً فهو الادعاء بأن للدول العربية مشروعاً خاصاً وذاتياً للاصلاح، مستقلاً عن الاملاءات الأجنبية، هو ما شهدنا مثالات له في “بيان مكتبة الاسكندرية” وفي وثائق القمة العربية في تونس (مايو/ أيار ٢٠٠٤(.
ويعرف كل مواطن عربي اكتوى بالسياسات العربية الرسمية وبتراثها الكريه في مجال حقوق الانسان ان ما نطقت به ألسنة النظام العربي مؤخراً حول الديمقراطية والاصلاح السياسي انما هو في باب الاستهلاك الإعلامي الخارجي، لأن السيرة السياسية لهذا النظام أقامت فائض الأدلة على ان احقاق الحقوق الديمقراطية ل “المواطنين” خط أحمر، وان المطالبة به من الشعب فعل حرام يأثم من أتاه وسعى اليه. وتعرف النخب العربية الحاكمة بحاستها السياسية التي طورتها خبرتها في العلاقة بالسياسة الأمريكية ان ضغوط الأخيرة سحابة صيف ستبددها الأيام. يكفيها ان تقدم بعض ما هو مطلوب منها حتى تمسك أمريكا عن الضغط وتطوي أمره. ولذلك، تستطيع ان تصطنع الريث وتمهل النفس في موضوع الاستجابة لطلبات الاصلاح كما تفعل اليوم من دون ان تخشى عاقبة.
وهكذا نجدنا اليوم بين ازعومتين “اصلاحيتين” تستدعيان كشفاً ونقداً لتجنب الانزلاق الى المراهنة على أي منهما والمغامرة بخسارة قضية الاصلاح. دون ذلك أفخاخ منصوبة للسذج من الذين يرتلون ما يتناهى الى أسماعهم من دون فحص او تمحيص.