تخضع القيادات الكردية تاريخياً إلى تناقضات حادة في البنية الفكرية حول تصورها للمسيرة التاريخية للشعب الكردي أكثر مما تتحمّلها التفاصيل اليومية للتطورات السياسية التي مرّت بها هذه الشعوب. وهذا ما جعلها تستنتج كون هذه الشعوب تحولت بسرعة قياسية إلى أمة واحدة. ومن ثم يستدعي البرنامج السياسي العناية اللازمة بهذه الحصيلة وبناء خطة سياسية متكاملة حولها. لكن الشيء الذي يزيد من هذا التناقص ليس الصعوبة في الوصول إلى البرنامج السياسي الموحّد للأمة، وإنما إلى عدم الفلاح في تحقيق الحد الأدنى من الوحدة السياسية القطرية في البلد المعني من كردستان المقسمة، وتخطّي ذلك إلى الصدامات السياسية، وتالياً العسكرية، بين الأطر القطرية نفسها.
إن جذور ذلك واضحة تاريخياً ومن خلال أي مسح موضوعي لتاريخ الشعوب الكردية في القرون المنصرمة. لكن المشكلة تكمن في أن العقل القيادي الكردي ما زال يتجاوب مع أصداء تلك القرون ومن دون الدخول إلى الجديد بنيوياً وسياسياً. لذلك فإننا لا نجازف إذا قلنا بأن تاريخ النصف الأول من القرن السابق، كان تاريخ ضياع الحركة الوطنية الكردية، وتاريخ النصف الثاني هو تاريخ تمزقها وتبعثرها. كل ذلك على قاعدة فقدان الأساس التاريخي السياسي لهذه الحركة وفقدان نموذجها الوطني وتطوره نحو النموذج القومي في الاتجاه الصحيح. وإذا قلنا إن تاريخ الأمم من الناحية الفعلية بالمعنى البرجوازي التاريخي، حديث النشوء وعبارة عن اختراع جديد لم تعرفه البشرية سابقاً، فإن التعارض الكردي القيادي مع هذه الحقيقة كان من الأسباب المهمة التي عرقلت تطور هذا المفهوم في شكل واضح ودقيق.
لقد كانت المواجهة مباشرة من قبل بعض القيادات في (مؤتمر فرساي) ۱٩۱٩، وفي معاهدة سيفر (۱٩٢۰)، ولم تتحقق الوعود الاستعمارية لتلك القيادات، وأدارت القوى الاستعمارية ظهرها (لممثلي هذا الشعب) كما تنكّرت عملياً لمعظم شعوب الامبراطورية العثمانية المنهارة بعد الحرب وتقاسم ممتلكاتها بين أطراف الحلف الاستعماري وضمن معاهدة (سايكس بيكو سازانوف). لقد واجهت شتى القيادات الكردية الدول <<المصطنعة>> وارتضت ان تقارعها طويلاً، متجاهلة العدو الأساسي في فترة ما، ومتعاونة معه في فترات عديدة بالضد من الحكومات (المصطنعة) وكل ذلك يؤدي إلى تفتيت الكفاح الوطني وإضعاف الجبهة الداخلية. إن إرادات تلك القيادات الكردية لم تكن مستقلة بالمعني السياسي الحرفي للكلمة، وكان من شأنه أن يدفعها إلى المواقع الضارة بقضيتها وبالقضية المشتركة الكفاحية بينها وبين الشعوب المجاورة (التركية الإيرانية العربية) والتي وجدت نفسها بالرغم منها في أطر (مصطنعة) أيضا. وقبل أن نشير إلى المثال العملي المباشر، أي التجربة العراقية، لا مندوحة من التأكيد على أن شعوب الأمر الواقع المذكور، ومنهم العرب، والقيادات السياسية الصاعدة، الشرعية أو غير الشرعية، لم تتقاعس عن بذل جهودها من أجل إزالة تلك الحالة المصطنعة والخروج من دائرة (سايكس بيكو سازانوف). وبالعكس من بعض المتداول الخاطئ والقائل بأن الدول الكبرى التي رسمت خريطة تلك المعاهدة هي التي يمكن لها أن تعيد النظر بها أو تعديلها أو العبث بها ضمن المصالح العامة لشعوب المنطقة.
لقد أثبتت تجارب القرن السابق بالعكس من هذه الأوهام، أن التغييرات الحقيقية تظل ملك شعوب المنطقة فقط وكفاحها الشامل ضد القوى الأجنبية ومطامعها التاريخية في ثروات المنطقة وأهميتها الجغرافية السياسية. وعليه نضطر شارحين بالنسبة للعراق:۱ لم يصطنع العراق وإنما تمت إعادة صياغته جغرافياً ضمن المصالح الاستعمارية لنتائج الحرب العالمية الأولى. لذلك اقتطعت منه وسلخت عنه مناطق معينة على مبدأ التقسيم الاستعماري (للملكية العامة للمنطقة) وبصورة متواءمة مع المصالح المنظورة المباشرة والقادمة للدول الاستعمارية المعنية. وهذا التقسيم يشمل (الأرض والثروات الموجودة فوقها وتحتها). وتمّت عدالة القسمة!! والتقسيم ضمن توازن جهنمي يجعل من الأوضاع فريسة لإحدى (وأحياناً سوية) حالتين! الأولى: الاستقرار السياسي الاقتصادي بقيادة الدول الاستعمارية. والثانية الفوضى والحروب والانقلابات العسكرية بإداراتها الفعلية. ولم تذهب قطعة أرض أو بئر نفط أو مزرعة خضراوات من هنا إلى هناك إلا بالموافقة الفعلية والقاطعة لتلك الدول المذكورة.
والحديث عن فقدان الحقوق التاريخية والمرارة الوطنية والانتهاك القومي، يجب أن يُكتب ضمن هذا النطاق فقط، وأي لغو خارجه لا يتحمل أكثر من الانخفاض في الوعي التاريخي او التجاهل المتعمَّد للوقائع والولاء فقط للمصالح الكيانية المباشرة وتجاوز الأفق القومي التاريخي للأمة المعنية.
٢ كان للدولة العراقية الحديثة وهي وطنية بكل المعايير التاريخية وبغضّ النظر عن هويتها الاجتماعية ورطانتها السياسية، أعباء عديدة تتجاوز قدراتها الخاصة وإرثها التاريخي العثماني والحدود التي رسمت لها بأن تتجول وتناور ضمن رقعته. فلا يمكن لعرب العراق أن يقطعوا تاريخهم السابق وبناءهم القادم (فقط) من اجل المساهمة الخيرية في بناء الحق القومي (للشعوب الكردية) لا سيما وأنها مقسمة ومنقسمة في أكثر من إطار جغرافي تاريخي واحد.
٣ حاولت هذه الدولة وأنجزت في بعض محطاتها وبشهادة التاريخ العادل المعاصر وبالسلوك المتوازن بين هذه الأعباء، لكنها واجهت إخفاقات عديدة وعداء غير منصف من القيادات السياسية الكردية، مما زاد في تعقيد الصورة وتشابك عناصرها واختلاطات غير مرغوبة في نتائجها السياسية والوطنية. وكانت العتلة الأساسية في هذا المضمار هي الإصرار التاريخي من قبل القيادات الكردية على اللجوء إلى التعاون مع القوى الأجنبية والثقة الزائدة بها والاقتناع بوعودها المعسولة والمكررة. ومن الملاحظ أن هذه القيادات تلجأ دائماً إلى هذه النشاطات في قلب (الأزمة) العارمة للشعب والوطن. وبدل أن يكون لها الدور الأساسي والذراع الفعالة في معالجة (هذه الأزمة) والتعاون الجاد مع القوى السياسية والاجتماعية الأخرى في البلد، كانت تمعن في (عزلتها) السياسية وتطرح برنامجها الخاص بمنأى عن البرنامج الوطني العام. هل يمكن أن نذكّر بأزمة (۱٩٦۰) في زمن قاسم! ووصول الاحتراب الاجتماعي السياسي إلى ذروته!! لا يمكن طبعاً تبرئة القوى المنخرطة حينذاك في الصراع ولكن أيضاً لا يمكن الغفران السياسي للقيادة الكردية تحت يافطة اهتمامها بحركة وطنية لشعب مظلوم ومقسم!! والوقائع تشير إلى العكس!!
٤ حين قلبت الحركة الكردية ظهر المجن للقوى السياسية الأساسية في البلاد كانت في الوقت نفسه في عزلة شديدة وكذلك بتعارض سياسي حاد مع شقيقاتها (يفترض!) من الحركات الكردية في إيران وتركيا على الأقل. إن تجربة (مهاباد) في إيران هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. وقيادة (قاضي محمد) كانت ضحية لتآمر دولي أقليمي بشع دفعت ثمنه الشعوب الإيرانية كلها على حساب تطورها السياسي والديموقراطي واستقلالها الوطني.
٥ عندما اعطيت الفرصة الكاملة للقيادات المذكورة من الامتداد العربي للعراق في مرحلة الصعود التحرري سواء أكان من مصر الناصرية سابقاً أو سوريا لاحقاً، فإنها لم تستثمر هذا الاحتواء الإنساني النضالي بالشكل المناسب وأصابت من خلال مصالحها الأنانية الضيقة بالعطب الشديد لهذه العلاقة. بل ومزقتها في السنين الاخيرة إلى أشلاء مبعثرة تحت عجلات تعاونها السياسي الكامل مع المشروع الأنكلو أميركي الصهيوني في المنطقة، وتحولها بعد ذلك إلى قوة عسكرية احتياطية لهذا المحور الكوني واداة مباشرة من أدوات احتلاله للعراق وتهديداته المباشرة لدول الجوار كافة، العربية وغيرها. ٦ ولم يصل اندماجها السياسي العسكري مع المشروع الأنكلو اميركي إلى حافة التصريحات والشعارات فقط وإنما تجاوز ذلك إلى صلب <<المفاهيم>> و<<الخطط>> الكاملة التي يبشر بها المحور المذكور، والتي صاحبتها ضغوط سياسية واقتصادية وتهديدات عسكرية مباشرة.
٧ تدّعي القوى الكردية بأنها ألحقت بالعراق وتم إجبارها على عدم التحول شرعياً إلى أمة وكيان ودولة (وهذا صحيح) وبأنها لا بد من الاندماج من جديد وبشروط جديدة، وهذا غير سليم، لكي تضمن وضعها السياسي والحقوقي الدستوري والقومي والإنساني، وهذا مشروع وبحاجة الى تفاهم مشترك وليس الى إملاءات فوقية وبدعم الاحتلال وقوته العسكرية الغاشمة. واضافة الى ذلك نجدها تزيد في طغيانها اليومي بكل الوسائل من أجل تحطيم وحدة الطرف العربي الذي أجبرت على العيش معه!! وتهشيمه قومياً وبعثرته وطنياً وتشتيته سياسياً وملاحقته حتى في لقمة العيش ناهيك عن ولوغها في إفساد شرائح رديئة من أشقائهم!! وتتويجهم بكونهم ممثلين للقومية الأخرى!! هل أن العيش الجديد المشترك وبالشروط الجديدة، وضمن حالة الاحتلال غير الشرعي وقوته المسلحة الظالمة والدموية، يشمل تقسيم العراق إلى كتل ممزقة وابتداع صيغة مشبوهة نادى بها الطالباني، العرب الشيعة والعرب السنة والشعب الكردستاني!! وكيف تسوّل له نفسه شق العرب ودمج القوميات الصغيرة الأخرى معهم مجانا؟ ما هو الهدف من طرح هذه الثرثرة في ٢٩/٣ في ختام مؤتمر المصالحة المشبوه والمسوق بالأساس من قبل كولن باول في زيارته الأخيرة إلى بغداد، واملاء بريمر هذا الاقتراح على القيادة الكردية.
في القرن السابق كانت المدرسة الليبرالية في بريطانيا ومعها العديد من المعاهد الاميركية المهمة تميل إلى التحليلات العميقة والمهمة التي طرحها كتاب تقدميون من نمط بيتر سلليكت وكتابه المميز، (بريطانيا في العراق) وحرصهم على بناء عراق ديموقراطي متين. أما ليبرالية العولمة الحالية ومستودع (الجدليون) الجدد في البنتاغون فهم الأكثر جنوحا إلى آراء سامي زبيده في لندن وتوني دودج وستانسفيلد. في ظل هذه المشاريع الكتابية التي تحلم بإعادة صياغة الشرق الأوسط الجديد على النمط العثماني السابق، ولايات متعددة متناثرة يحكمها الباب العالي الأميركي ويتناوب الطالباني والبارازني في بناء اسبارطة كردية معاصرة تصلح ان تكون منصة للولايات المتحدة، ولا يمكن التكهن أين تكون في أربيل، السليمانية أو كركوك أم حين تغلي الدماء الزرقاء قد تصل إلى قلب بغداد الكبرى!!