تصاعد الحديث في الأشهر الأخيرة عن كركوك، وأخذت كل جماعة تدعي تبعية المدينة لها,وهدّد البعض منها بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم
يقر بوجهة نظرها,إلى حد أن أحد قادة المجموعات لوّح بقادسية جديدة تسال فيها الدماء إلى الركب إن لم تضم المدينة إلى ممتلكاته.
ويقدم كل طرف من الأطراف المتصارعة في كركوك ما يعتقد أنه أدلة دامغة على أحقيته بالمدينة,وتعتمد هذه \"الأدلة\" على الإشارات والحوادث
التاريخية,والإحصاءات السكانية,وبعض التقارير والروايات التي كتبها رحالة أجانب زاروا المنطقة خلال القرون الماضية,وسالنامات عثمانية عن
إدارة الولايات.
وهكذا تحولت مدينة كركوك المتآخية المسالمة إلى بؤرة للتوتر والصراع في العراق,بل قنبلة موقوتة يهدد تفجيرها في أية لحظة بقلب البلاد
بأجمعها إلى جحيم لايمكن تصور مداه وحجم اشتعاله بعد أن كانت هذه المدينة نموذجا مصغرا للعراق بكل أطيافه,وابتعد سكانها عن التفرقة
والعنصرية والطائفية وعاشوا معا بكل مودة وأخاء. وللأسف الشديد لا يمكن أن نفسر السبب خارج إطار أطماع بعض الزعماء الأكراد بالاستيلاء على
ثروة المدينة لتكون أساسا لاقتصاد اقليمهم تمهيدا لانفصاله في اللحظة المناسبة.
فباستعراض سريع لتصرفات بعض الأحزاب الكردية في كركوك بعد الاحتلال الأمريكي يبدو لنا بجلاء نمط التصعيد. فحال دخول القوات الأمريكية إلى
المدينة برفقة المليشيات الكردية، شنت حملة واسعة للتطهير العرقي وطرد عشرات الآلاف من السكان العرب من بيوتهم ليستقروا في المخيمات
والمعسكرات السابقة للجيش. وتدفق آلاف الأكراد من مناطق أخرى,بل من دول أخرى كتركيا وإيران إلى كركوك لفرض خارطة ديموغرافية جديدة في
المدينة بقوة الأمر الواقع. وتبع هذا الأسلوب الاستيلاء على معظم المراكز القيادية في إدارة المدينة والقوى الأمنية فيها,علاوة على
الوظائف الحكومية وإدارة المنشآت الرئيسية على حساب العرب والتركمان.
واستخدمت المليشيات الكردية أسلوب الاغتيالات لتصفية بعض القيادات السياسية والعشائرية التي كانت تتصدى لخططهم في الهيمنة على
المدينة,مما أجبر الأطراف الأخرى على الانجراف في رد الفعل,الأمر الذي أغرق المدينة بأعمال الانتقام والانتقام المضاد وجعل منها بيئة غير
آمنة.
إن مما يثير حفيظة عرب العراق التصريحات المهينة المتلاحقة لأحد زعماء المليشيات الكردية التي وصف فيها عرب كركوك بالمستوطنين
والمستوردين مما يجعل المستمع يقارنهم بالمستوطنين الصهاينة في فلسطين. وبدون الدخول في تفاصيل الوجود العربي في المدينة الذي أثبتته
الوثائق والوقائع التاريخية,فإن تلك الأوصاف الجارحة تظهر النيات الحقيقية لقائلها والتي لا تخرج من دائرة الرغبة بالانفصال وتهيئة
المستلزمات المادية لذلك عن طريق الاستيلاء على كركوك,وبهذا تشم رائحة النفط من التصريحات أما العبارات القومية والحق التاريخي فهي مجرد
تغطية على الهدف الحقيقي.
وحتى لو فرضنا جدلا أن العرب جاءوا من مناطق العراق الأخرى,أليس من حقهم أن يقيموا في أي مكان من بلادهم,أو إن كركوك تقع خارج بلادهم ولا
يحق لهم ما يحق لغيرهم الذين جاءوا من تركيا وإيران ولم يروا العراق بأعينهم قبل ذلك. وهل يمكن أن نطبق هذا المقياس على الأكراد المقيمين
في الموصل والبصرة وصلاح الدين والأنبار وغيرها,أو على أكثر من مليون كردي مقيمين في بغداد منذ عدة عقود ولم يطالبهم أحد بالرحيل لأنهم
عراقيون ومن حقهم الإقامة في أية بقعة من بلادهم. بل إن أبناء المناطق الأخرى كانوا محرومين من الإقامة في العاصمة باستثناء أبناء
المحافظات الكردية. هل نطلق عليهم بالمقابل المستوطنين والمستوردين الأكراد ونطالب بترحيلهم بالقوة ونسلب ممتلكاتهم ونسرق مدخراتهم كما
فعل الآخرين بعرب كركوك,أم إن قادة المليشيات الكردية تعلموا من حلفائهم الأمريكيين ازدواجية المعايير. وما ذكرناه عن بغداد ينطبق كذلك
على الموصل التي أقام فيها عشرات الآلاف من الأكراد خلال العقود الأخيرة,هل يقبل الزعماء الأكراد تشريدهم والاستيلاء على ممتلكاتهم
باعتبارهم مستوطنين ومستوردين في مدينة عربية,زيادة على الدعوات العنصرية المزورة ال!
تي أخذت تتردد الآن وتدّعي بأن الموصل جزء من كردستان.
ولا يخفى على المتابع للأحداث في كركوك-ناهيك عن المواطن العراقي-ضعف حجج المطالبين بضم كركوك لإقليم كردستان. فالعراقيون يجمعون على أن
كركوك مدينة عراقية تتعايش فيها الأطياف المختلفة ولا يمكن لاحداها أن ينفرد بالتحكم فيها لأن ذلك سيؤدي إلى إخلال التوازن الدقيق
فيها. وللإنصاف فاني كعراقي من أصل عربي أقر بأنه إذا كان هناك من أكثرية في المدينة فإنها بلا شك تتمثل في التركمان,وأوضح دليل هو
الإحصاء العام لسنة ١٩٥٧,الذي يعد من أكثر الإحصاءات العراقية مصداقية,والذي بيّن أن حوالي ثلثي سكان كركوك من التركمان.
وأخيرا لابد من تذكير الأخوة قادة المليشيا الكردية بعدم العودة إلى أسلوبهم المعهود في انتهاز الفرص الذي جر الكوارث على الأكراد
والعراقيين جميعا,فالظروف الحالية لن تدوم طويلا ولن يضحي الأمريكيون بمصالحهم مع تركيا وإيران وعرب العراق لأجل سواد عيون بعض الزعماء
الأكراد، كما لن يقبل العرب والتركمان مهما كانت القوة المقابلة لهم بالتنازل عن حقوقهم وسيتمسكوا بكركوك إلى أبعد مدى. وبالتالي فإننا
نريد نزع الفتيل من قنبلة كركوك لتعود مرة أخرى مدينة الإخاء والتعايش التركماني-الكردي-العربي-المسيحي.