كلما اقترب الموعد المقرر لاجراء الانتخابات التشريعية في العراق في الثلاثين من كانون الثاني،كلما اتجهت الاوضاع نحو أزمة سياسية عميقة وانقسام مذهبي إثني خطير ليس بين حكومة علاوي ومؤيديها من جهة وقوى المقاومة من جهة أخرى،بل بين القوى السياسية التي يتشكل منها الائتلاف الحكومي المتحالف مع الاحتلال طبقاً لواقع التطورات المتعلقة بملف الانتخابات الذي يعد الملف الاكثر سخونة في العراق راهنياً.
إن أحدث تطورين تشكلا خلال هذه الفترة هما التطور الامني المرتبط باستعدادات البشمركة الكردية للانزلاق في حرب الموصل القادمة،والتطور السياسي وهو الذي ينهي مقاطعة الاكراد لانتخابات المجلس المحلي في كركوك،بعد زيارة ريتشارد أرميتاج لمدينة صلاح الدين في شمال العراق في ٣۱ كانون الاول،واجتماعه مع مسعود البرزاني بهدف اقناع الاكراد بانهاء هذه المقاطعة. وبمقتضى هذا الاتفاق الذي تم بين الجانبين أقرت الاحزاب الكردية في ۱٥ كانون الثاني في اجتماع <<برلمان كردستان>> في أربيل ما توصل إليه الزعيمان الكرديان جلال الطالباني والبرزاني بالموافقة على ادلاء ۱٠٠ ألف كردي بأصواتهم في مجلس محافظة كركوك،وهو ما أكده الطالباني بالقول إن الاتفاق سيفتح الطريق أمام <<تطبيع الوضع في كركوك بعودة النازحين واعادة العرب الى أماكن سكنهم الاصلية>> (<<الحياة>> ۱٧/۱/٢٠٠٥). غير أنه أكد في تصريح ل<<القبس>> الكويتية في ۱٦ كانون الثاني أن <<مشكلة كركوك لا تحل الآن ولا من خلال اتفاقية في ظل حكومة موقتة>>.
ففي حرب الموصل القادمة ودور القيادات الكردية المشبوه،بدا ان هناك اتجاها لاستكمال حرب الفلوجة التي استعمل فيها الاحتلال عناصر مذهبية بزي الحرس الوطني للتورط في هذه الحرب،في حين هناك توجه لاستخدام البشمركة الكردية في معارك الموصل لتأكيد الانقسامات الاثنية التي ستخلق ضغطاً باتجاه تنمية العداوات والاحقاد.
فالمواجهات العربية الكردية في الموصل على الابواب بعدما استقدم الاحتلال أكثر من ثلاثة آلاف من عناصر البشمركة في زي الحرس الوطني،وفي ظل تصفيات تقوم بها المقاومة للعناصر المتعاملة مع الاحتلال بين ضفتي نهر دجلة: الغربية حيث سيطرة المقاومة،والشرقية التي تسيطر عليها قوات الاحتلال مع قوات حكومة علاوي وعناصر من البشمركة الكردية ولا تغيب عنها عناصر المقاومة. لذلك يتوقع المراقبون ان تكون معركة الموصل ذات أبعاد مخيفة لا سيما بعد استقالة آلاف من عناصر الشرطة العراقية الجديدة وانضمامها إلى صفوف المقاومة التي تعتبر ان مستقبل العراق تقرره هي،ولن تدع الاحتلال والمتعاونين معه،يقررون مستقبل العراق،وهو ما يشير إلى مأزق الوضع العراقي الذي قد يقود إلى حرب أهلية بين سلطة يدعمها الاحتلال،ومقاومة تستقطب شرائح عديدة من المجتمع العراقي من الاكراد والتركمان والعرب والكلدو آشوريين. انها مرحلة المواجهات المباشرة،داخل المدن المقاومة للاحتلال ومشاريعه التقسيمية والانتخابية.
أما التطور الآخر الذي لا يقل أهمية وخطورة عن التطور الاول فهو سلسلة الاجتماعات الكردية الكردية،والتناقضات التي صاحبت تصريحات القيادة الكردية بين تأجيل الانتخابات وتأييد حصولها في اليوم المقرر لها،كما حصل في اجتماع <<دوكان>>،ولقاء <<صلاح الدين>>،واجتماع أربيل مؤخراً. ففي اجتماع دوكان برز الخلاف العميق بين القوى الكردية والعراقية الاخرى حول مسألتين: مدينة كركوك والفيدرالية،وتبين أن هناك أجندة تحتفظ بها كل قوة أو فصيل سياسي سواء كانت هذه الاجندة إثنية أم مذهبية أم سياسية. وقد اتضح من سياق النقاش الدائر بعد لقاء <<صلاح الدين>> (<<المستقبل>> ۱٣/۱/٢٠٠٤)،أن الزعيمين الكرديين البرزاني والطالباني اللذين يتقاسمان شمال العراق قد أجلا صفحة خلافاتهما موقتاً ليتوحدا إزاء قضية تعتبر العصب الحقيقي للمنطقة الشمالية من العراق والتي تشتهر بكونها أي كركوك غنية بالنفط. ففي اللقاء المذكور طرح الزعيمان الكرديان بصراحة مسألة تحالفاتهما لخوض الانتخابات المقررة،إذ أكدا أنهما لن يتحالفا مع أي قوة سياسية تريد خوض الانتخابات مبنياً على أساس الموقف من هوية كركوك التي تعتبر مثل الفيدرالية شرطاً لأي تحالف سياسي بخوض هذه الانتخابات. وإذا كان اجتماع دوكان بين الاكراد والقوى السياسية العراقية المتحالفة معهم قد طالب بتأجيل البت بهذه المسألة التي وضعت هذه القوى السياسية إزاء إشكالية ربما لم تكن تتوقعها بمثل هذا الوضوح،وهي لذلك طرحت مسألة تأجيل الانتخابات ستة أشهر لاستكمال الحوار بعد إنهاء <<بؤر العنف>> المقاومة المتنقلة والمستقرة الآن بزخمها وقوتها في الموصل،وبعدما أيدت القيادات الكردية فكرة التأجيل وهو ما أكدته صحيفة <<التآخي>> الناطقة باسم الحزب الديموقراطي الكردستاني،التي أشارت في عددها الصادر بتاريخ الثالث والعشرين من تشرين الثاني،إلى ان الشروط اللازمة لاجراء انتخابات حرة في العراق غير متوافرة،ورأت الافتتاحية انه إذا لم تتحقق هذه الشروط بحلول الثلاثين من كانون الثاني،فالأفضل تأجيل الانتخابات لان <<المواعيد ليست مقدسة>>،غير ان معارضة الطائفة الشيعية تأجيل الانتخابات دفع الاكراد إلى تغيير رأيهم حيث ادعوا انه لم تكن في نيتهم الموافقة على التأجيل،وأنهم على استعداد لخوض الانتخابات في موعدها كما جاء في لقاء <<صلاح الدين>> بين الزعيمين الكرديين،ما يشير إلى ان التفاهم حول إجراء الانتخابات يكشف عن تعقيد الساحة السياسية العراقية القائمة على الترابط الاثني والطائفي. كما تعطي لمحة عن مجموعة المصالح المتضاربة ووجهات النظر المتعارضة في بلد يعاني من احتلال وتفكك ويحاول تثبيت هذا التفكك على اساس مذهبي واثني في خضم اندلاع مقاومة لمواجهة مشاريع الاحتلال التقسيمية.
وكان اتفاق الزعيمين الكرديين البرزاني والطالباني لخوض الانتخابات بلائحة موحدة في <<كردستان العراق>> تزامناً مع الانتخابات التشريعية في العراق،قد تضمن تقسيماً للمناصب على مستوى الحكومة المركزية في العراق وعلى مستوى حكم شمال العراق. إذ نص الاتفاق على ان يتولى الطالباني منصباً سيادياً في الحكومة المركزية العراقية في بغداد فيما يتولى البرزاني منصب الرئاسة لمنطقة شمال العراق في الوقت الذي تتولى رئاسة <<البرلمان الكردي>> شخصية تابعة للاتحاد الوطني وتتولى منصب رئيس الوزراء شخصية موالية للحزب الديموقراطي. وهو ما اكده البرزاني من معقله في <<صلاح الدين>> بعد اجتماعه مع خصمه اللدود الطالباني: <<توصلت القوى السياسية الكردية إلى اتفاق وإلى تشكيل لائحة موحدة بشأن انتخابات المجلس الوطني الكردستاني والجمعية الوطنية العراقية>> (<<المستقبل>> ۱٣/۱/٢٠٠٤).
ووفقاً لهذا الاتفاق،سوف يشغل الحزب الديموقراطي واحداً وأربعين مقعداً من مقاعد البرلمان شمال العراق من بين ۱۱۱ مقعداً مقابل واحد واربعين مقعداً أيضاً للاتحاد الوطني فيما تشغل بقية الاحزاب المقاعد الباقية بحيث تم تخصيص سبعة مقاعد للرابطة الاسلامية وخمسة للآشوريين وأربعة للتركمان وثلاثة مقاعد للحزب الشيوعي الكردستاني ومقعدين للحزب الاشتراكي ومقعد واحد لحزب الكادحين. وقد أكد عضو مجلس الحكم السابق محمود عثمان <<ان هذا الاتفاق الذي جاء بعد مفاوضات شاقة استمرت عدة أسابيع جنب الاحزاب الكردية التي هي بأغلبها مسلحة القيام بحملات انتخابية والدخول في صراعات ومشاكل هم في غنى عنها>>،في إشارة إلى المشاكل التي صاحبت الحوار الكردي الكردي بسبب تقسيم المناصب والحصص بين الحزبين الرئيسيين في شمال العراق،حيث تشتد الحملة الدعائية الانتخابية بين انصار هذين الحزبين للمشاركة فيها. والانتخابات التي لن تحدد فقط البرلمان العراقي الجديد والحكومة العراقية المنتخبة،بل ستفصل ايضاً بين شعبية الزعيمين الكرديين البرزاني والطالباني اللذين تجنبا طوال السنين الماضية إجراء انتخابات في شمال العراق بهدف توحيد إدارته،تخوفاً من نتائج هذه الانتخابات التي قد ترجح كفة زعيم على حساب زعيم كردي آخر،بعدما كان الزعيمان يتقاسمان الشمال إدارة وثروات ودماء.
ويمكن اعتبار ان الحملة الانتخابية بين الحزبين الكرديين،الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني تجاوزت بعدها المحلي إلى الاقليمي. فالحزبان يتباريان على كسب أصوات الناخبين الاكراد من خلال إطلاق الوعود في شأن ضم كركوك إلى الادارة الكردية،والقول ان كركوك هي <<قلب كردستان>>،ويتسابقان على تمويل عودة الاكراد إلى المدينة،بحجة حق الاكراد الذين رحّلهم النظام السابق عن المدينة في العودة إليها،من دون انتظار ايجاد آلية قانونية لفض النزاعات على الملكية في المدينة وتنظيم عودة المهجرين إليها من أكراد وتركمان وكلدو آشوريين وعرب،الامر الذي يخلق حساسيات ونزاعات بين هذه الجماعات،وفي وقت يبدو فيه الطرف الاميركي وهو يدخل بقوة في قضية كركوك ولم يعد متجاهلاً الوضع فيها بحيث اعتبر ضابط استخبارات أميركي كبير،أن هذه المدينة <<هي احد الهموم الكبرى. . وإذا وضع الاكراد يدهم على المدينة فإننا نتوقع تجاوز الخط الاخضر. . أما في حال فوز العرب فإن أعمال العنف بين العرب والاكراد قد تندلع>>.
إن دعوة الحزبين الكرديين الرئيسيين للمشاركة في انتخابات مجلس محافظة كركوك المقررة في يوم الانتخابات العامة سيفتح الطريق أمام الاكراد للسيطرة على مقاعد مجلس المحافظة التي كانت حتى الآن تضم ۱٥ كردياً و۱۱ عربياً و٩ تركمان و٧ مسيحيين.