اغلب الظن ان السفير الاميركي في بغداد، جون نيجروبونتي، لو توصل الى عنوان أبو مصعب الزرقاوي لأرسل اليه برقيه شكر على البيان الذي اصدره قبل الانتخابات بأسبوع، وعبّر فيه عن رأيه في العملية الديموقراطية التي اعتبرها كفرا وضلالا، وعن عدائه للشيعة أو «الرافضة» على حد تعبيره. ذلك ان الزرقاوي ببيانه ذاك سهّل المسألة كثيرا على الاميركيين، لانه خيّر العراقيين بين التصويت للاحتلال أو التصويت للانتحار. وكان طبيعيا في هذه الحالة ان يختار الناس الاحتلال، باعتباره شرا أهون من ذلك الذي يدعو اليه الزرقاوي وجماعته السلفية. وهو أمر لا بد ان يكون الاميركيون قد سعدوا به، لانه كان حافزا، للبعض على الاقل، للمشاركة في التصويت الذي دعت هيئة علماء المسلمين والمؤتمر التأسيسي الى مقاطعته. ومن هذه الزاوية فالزرقاوي يستحق الشكر، مرتين وليس مرة واحدة. مرة للسبب الذي ذُكر تواً، ومرة ثانية لأن بيانه وجه طعنة لصورة المقاومة، خصوصا ان وسائل الاعلام المختلفة ابرزت بيانه البائس على الصفحات الاولى، فبدا للعالم الخارجي أن ما قاله الزرقاوي هو رأي المقاومة على عمومها، وليس رأي فصيل واحد متخلف سياسيا، من بين خمسة فصائل اساسية تقف في خندق مقاومة الاحتلال، وتدعو الى ديموقراطية حقيقية في العراق يشارك فيها الجميع، الشيعة والسنّة والعرب والاكراد والتركمان، وكل العناصر الوطنية في البلاد، وهو الوجه الاخر للمقاومة الذي يجري التعتيم عليه دائما لاسباب مفهومة.
وبتلك الرسالة، فإن ما اقدم عليه الزرقاوي ذكّرنا بما فعله في العام الماضي اسامة بن لادن قبل اسبوع من انتخابات الرئاسة الاميركية، حين وجه بيانا مماثلا الى الشعب الاميركي، كان له اثره الايجابي لصالح التصويت للرئيس بوش ـ كما اجمعت التحليلات المختلفة ـ في حين ان بن لادن، بسذاجته السياسية المفرطة، اراد للبيان ان يحدث اثرا عكسيا تماما!
لم يكن ذلك هو المشهد العبثي الوحيد في الحدث العراقي، لاننا في حقيقة الامر بصدد سلسلة المفارقات والمشاهد العبثية هناك، التي يُخشى ان تؤدي في نهاية المطاف الى إغراق البلاد في بحر من الفوضى، فضلا عن بحر الدماء، ذلك ان الإصرار الاميركي على اجراء الانتخابات وتصدي الرئيس بوش شخصيا لقيادة العملية، في حين ان الرئيس العراقي غازي الياور كان من دعاة تأجيلها، يعد وجها آخر من اوجه العبث.
لماذا؟ لان الادارة الاميركية التي اصرت على اجراء الانتخابات لكي يختار ابناء الشعب العراقي بارادتهم «الحرة» ممثليهم في المجلس الوطني، هي ذاتها التي رفضت، وما زالت ترفض بذات الدرجة من الاصرار، ليس فقط الانسحاب من العراق وتحرير الوطن من الاحتلال، وانما مجرد تحديد موعد للانسحاب. وبهذا الموقف انفصلت حرية المواطنين عن حرية الوطن وصرنا ازاء مواطنين احرار في وطن محتل.
نعم، لا يستطيع أحد ان ينكر اهمية ان يتاح للشعب العراقي ان يختار ممثليه لأول مرة منذ نصف قرن. لكن المسكوت عليه ان كل الشواهد تدل على ان هذه الفرحة هي مجرد احتفال لا علاقة له باستعادة الارادة العراقية، اذ يعلم الجميع ان تلك الارادة ما زالت رهينة القرار الاميركي، ثم ان تلك الشواهد لا تختلف على ان المراد بذلك كله في نهاية المطاف هو تقنين الوجود الاميركي في العراق، واضفاء الشرعية على النظام الذي اقامة الاميركيون، من ألفه الى يائه ـ حيث انه من السذاجة والعبط ان يظن احد من الناس ان الاميركيين جاءوا من آخر الدنيا، وتكبدوا كل ما تكبدوه من خسائر في البشر والاموال، لكي يهدوا الى العراق نظاما ديموقراطيا حرا، ثم يرحلون راضين وسعداء بالانجاز الذي حققوه. اما وجه العبث في ذلك الجانب، فيتمثل في ان البعض يريد اقناعنا بذلك الزعم، مصورا الولايات المتحدة بانها مجرد «فاعل خير» ارسل جيوشه وطائراته وصواريخه لتوزيع بشارات الديموقراطية والحرية على العالم الثالث المعذب والمقهور.
ثمة مفارقة لافتة للنظر في الحملة التي سبقت التصويت. إذ في حين قُدِم آية الله السيستاني في وسائل الاعلام باعتباره المرجع الديني الاعلى، الذي لا يتدخل في الشأن السياسي، فاننا فوجئنا بقائمة للمرشحين تحمل صورة السيستاني وتسوّق نفسها باعتبارها اللائحة التي تحظى بتأييده ومباركته. ليس ذلك فحسب. وانما وجدنا من يقول بأن السيد السيستاني يؤيد فكرة اقامة فيدرالية شيعيه في الجنوب وهي الفكرة التي طرحتها بعض العناصر ذات التوجه الطائفي لاول مرة اثناء الحملة الانتخابية. في هذين النموذجين كان سعي السيستاني في قلب العملية السياسية، فاسمه مستخدم في تأييد فريق سياسي معين بين الشيعة، ومستخدم ايضا في تهديد وحدة العراق من خلال حكاية الفيدرالية الشيعية، ولئن قيل ان الرجل ليس مسؤولا عن اساءة استخدام اسمه، فالرد المباشر ان القضايا التي زج فيها باسمه ليست مما يمكن غض الطرف عنه، خصوصا ان له اعوانا ومتحدثين باسمه، بوسعهم تصويب ما ينسب اليه من معلومات خاطئة. وفي الحالتين اللتين نحن بصددهما، فان عدم وجود أي نفي من مكتب المرجع الشيعي يبرر لنا تصديق ما نسب اليه، والتعامل معه بحسبانه حقائق وليس مجرد شائعات.
المفاجأة الاخرى في هذا السياق كانت تلك المراكز التي نصبت خارج مقار التصويت في كردستان، واستفتت الاكراد على البقاء في اطار الدولة العراقية أو الانفصال عنها. وإن كان هذا مفاجئا لنا، لكني لا احسب أنه فاجأ الزعامات الكردية، التي لم تحدد موقفا من هذه العملية التي يمكن ان تكون لها عواقب غاية في الخطورة، ليس فيما يخص العراق وحده، وانما في منطقة الشرق الاوسط بأسرها، لان الاكراد موزعون على عدة دول في المنطقة. فنسبتهم الاكبر في تركيا (اكثر من عشرة ملايين)، اضافة الى حوالي اربعة ملايين في ايران، ومليون ونصف مليون تقريبا في سورية، وبالتالي فان استقلال كردستان يمكن ان يفجر صراعا داخل العراق حول كركوك، التي يتمسك بها الاكراد بسبب ثروتها النفطية في حين انها في الاصل تركمانية وعربية اكثر منها كردية.
إزاء ذلك فإن فتح ملف الفيدرالية الشيعية في الجنوب، والتطرق علنا الى موضوع انفصال كردستان عن العراق الى حد الاستفتاء عليه (ماذا لو انحازت الاغلبية لصالح الانفصال؟) هذا التطور يطرح العديد من الاسئلة حول المستقبل، وينذر بتفجير الوضع الداخلي، الامر الذي يفاقم من عبثية المشهد العراقي.
خذ اخيرا ما جرى في عملية التصويت، خصوصا مسارعة المسؤولين العراقيين الى الاعلان عن ان نسبة المشاركة بلغت ٧٢ في المائة، رغم اجواء الخوف واغلاق المدن ومنع السيارات وكثافة الحواجز العسكرية في الشوارع، ثم ادراك اولئك المسؤولون ان النسبة اكبر من ان تصدق فهبطوا بها الى ٦٠ في المائة، ثم توقفوا عند ذلك الحد. واذا اجمعت التقارير على ان نسبة التصويت كانت عالية حقا في مناطق الكثافة السكانية الكردية والشيعية لأسباب مفهومة، الا ان تلك التقارير ذاتها اجمعت على أن المقاطعة كانت قوية في المناطق السنية، وهو ما يشير بوضوح الى ان الانتخابات اخذت منحى طائفيا وعرقيا في نهاية المطاف، ويشكك في صفاء اجوائها، بل وايضا في صدق وشرعية تمثيلها للشعب العراقي.
لا تزال هناك علامات استفهام حول نسبة المشاركة في داخل العراق في ظل القيود الصارمة والتوتر الامني الذي ساد البلاد علما بأن نسبة المشاركة في الخارج ـ حيث الاوضاع اكثر استقرارا وامانا ـ لم تتجاوز نسبة ٣٠ في المائة، الامر الذي لا يخلو من مفارقة. ويلفت النظر في هذا الصدد ان المسؤولين في الحكومة العراقية، وكذلك الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، سارعوا الى اعلان الحفاوة والفرحة بما اعتبروه «انجازا» في نسبة المشاركة «فاق كل التوقعات».
ان اجراء الانتخابات واعلان نتائجها سيكون بداية لفصل جديد في الازمة العراقية، ليس فقط لان سؤال الشرعية وصدق التمثيل في غياب السنة سيظل معلقا في الافق.. ولكن ايضا لأن تركيبة السلطة الجديدة ستفتح الباب لتجاذبات وصراعات لا حدود لها في ظل التنامي المتسارع للمشاعر الطائفية والعرقية. اما مهمة المجلس الوطني والدور المطلوب منه في السيناريو الاميركي المقرر، فستكون نقطة الانفجار الذي نسأل الله ان يحمي العراق والعراقيين من آثاره وتداعياته.