التركمان قبيلة من القبائل التركية التي وفدت من وسط أسيا، وتحديدا من منغوليا موطنهم الأصلي. الفرق بين التركمان والأتراك هو كالفرق بين العدنان والقحطان أصل العرب. أما ألاختلاف اللغوي بينهما هو كاختلاف اللهجة العربية العراقية و اللهجة العربية السورية، (مازالت اللهجة التركمانية تحتفظ بنسبة ٤٠٪ من المفردات العربية بخلاف اللهجة التركية التي أدخلت إليها، بعد تأسيس الجمهورية التركية، المفردات الإنكليزية والفرنسية بنسبة أكثر من ٣٠٪ بدلا من المفردات العربية، وما زال التركمان يعتمدون الحروف العربية في الكتابة).
من هم التركمان؟
تشير الوثائق التاريخية إلى أن الحضور التركماني الحقيقي في العراق، الذي دونه التاريخ، يعود إلى أوائل الفتح العربي الإسلامي. أن معظم أفراد الجيش الإسلامي بقيادة (عبيد الله بن زياد) عام (٥٤هـ) الذي فتح تركستان، كانوا من المحاربين العراقيين، الذين استقروا هناك وتزاوجوا مع التركستانيين. ولم يكتف العراقيون بالاستقرار والتزاوج مع الترك أو التركمان بل انهم بعثوا بالمقاتلين التركمان ليستقروا بدورهم في العراق. يقول الطبري في كتابه الشهير (تاريخ الأمم والملوك): ((إن عبيد الله بن زياد قام في شهر ربيع الأول سنة ٥٤ هـ (٦٧٣ م) بهجماته عبر (جيحون) على (بخاري) ثم على (بيكند) فقاومه الجيش التركي تحت إمرة الملكة (قبج خاتون) مقاومة شديدة جدا، جلبت انتباهه وإعجابه لما لمسه فيهم من شجاعة فائقة وحسن استعمال الأسلحة، فاختار منهم ألفي مقاتل يحسنون الرماية بالنشاب فبعثهم إلى العراق وأسكنهم البصرة)). (ص ٢٢١ ـ ج ٤)، أشار إليه الكاتب العراقي سليم مطر في كتابة القيم جدل الهويات. يلاحظ أن هناك خلطا غير متعمد في كتب التاريخ، بين التركمان وبين الأتراك، فعند وجوب الإشارة إلى التركمان يذكر المؤرخون الأتراك وبالعكس. فأن الذين أستقدمهم عبيد الله بن زياد كانوا من التركمان، الذين انصهروا مع العراقيين واستعربوا مثل الآلاف المؤلفة من المهاجرين من مختلف البلدان التي طالها الفتح العربي الإسلامي.
وخلال اقل من قرن، تنامى الوجود التركماني في العراق بحيث أصبحوا جزءا من الجيش الأموي المقيم. وقد بلغ الحضور التركماني والتركي ذروته في العصر العباسي عندما بدأ الضعف ينتشر بين القبائل العربية المهيمنة وفقدانها لروحها البدوية المحاربة بعد استقرارها في العراق وتمتعها بحياة الخصب والرفاهية. وقد وجد القادة العباسيون في الترك والتركمان البديل المطلوب لاحتفاظهم بروحهم الرعوية المحاربة ولشجاعتهم وبسالتهم في سوح القتال، وخصوصا في مواجهة خطر الجماعات الرعوية الأوربية القادمة باسم الحروب الصليبية..
أستقدم الخليفة العباسي المعتصم بالله، (٥٠) ألف محارب من (أخواله) التركمان واستخدمهم في الجيش وبنى لهم مدينة (سر من رأى (سامراء الحالية) في شمال عاصمة الخلافة بغداد). توسع وأمتد نفوذ التركمان والأتراك في الدولة العباسية، شملت جميع مرافق السلطة إلى أن وصل بهم الأمر، في القرن الأخير من حكم الدولة العباسية، إلى خلع وتنصيب الخلفاء أنفسهم. واستمر الحضور التركماني مع بروز دور مؤسس الدولة العثمانية آل طغرل بن سليمان شاه التركماني، قائد أحد قبائل التركمانية النازحين من سهول آسيا الغربية إلى بلاد آسيا الصغرى.
رافق المحاربون التركمان جحافل التتار(من الأصول التركية) الذين اجتاحوا بغداد و دمروها واحتلوها عام ١٢٥٨ الميلادية، واستوطنوا العراق منذ ذلك الحين. أعتنق التركمان الوافدين مع التتار الدين الإسلامي الحنيف (القبائل التركمانية التي رافقت حملة التتار كانوا وثنيين) ومن ابرز شواخصهم الباقية حتى الآن، جامع وخان المرجان في وسط بغداد.
أسس التركمان دويلات عديدة في العراق منها دولة أق قوينلو وقرة قوينلو والدولة الاتابكية في أربيل، ثم تعاقبت القبائل التركمانية من القــجار والسلجوقيين (الأتراك) على حكم العراق لغاية سقوط بغداد عام ١٤٥٤ ميلادية على يد العثمانيين التركمان، وأستمر حكمهم (تناوبت الدولة الصفوية في إيران حكم العراق لفترات متقطعة، الصفويون من القبائل التركية سكنت بلاد الفارس. ذاق العراقيون الأمرين من الخلاف التركماني – التركي، وبسبب هذا الخلاف، بين القبلتين، أجبر إسماعيل الصفوي أهل بلاد فارس، إيران الحالية، باعتناق المذهب الشيعي) لغاية الاحتلال الإنكليزي للعراق العام ١٩١٧ الميلادي. وفي عام ١٩٢٦ أبرمت اتفاقية بين الحكومتين التركية والبريطانية حول تبعية ولاية الموصل (وتشمل أربيل وكركوك والسليمانية)، تشير أحدى فقرات هذه الاتفاقية إلى حرية اختيار العراقيين من الأصول التركمانية، بين البقاء في العراق أو الهجرة إلى تركيا. وقد فضل التركمان البقاء في العراق ألا عدد قليل فضلوا الهجرة إلى تركيا والاستقرار فيها.
ما يعنينا من هذه المقدمة المختصرة هو استيطان أجداد التركمان الأوائل في العراق منذ ثلاثة عشرة قرنا ونيف. شاركوا إخوانهم العراقيين السراء والضراء وقدموا التضحيات والشهداء في حروب العراق ومعاركه وثوراته، وعانوا من ظلم ومآسي حكامه أسوة ببقية إخوانهم العراقيين، ورفدوا وطنهم العزيز بشخصيات بارزة ساهموا في بنائه ودافعوا عن أمنه واستقراره وتثبيت استقلاله وقد برز الكثير من أعلام الحضارة العباسية من أصول التركمانية، مثل الفارابي والبخاري والخوارزمي والبيروني والسرخسي والعديد العديد غيرهم، من الذين للأسف احتسبهم المؤرخون القوميون ظلما على (الإيرانيين!!). كما برز العديد العديد من الشخصيات العلمية والثقافية والأدبية والسياسية، بعد تشكيل الحكومة الوطنية العراقية عام ١٩٢١، نذكر منهم في هذه العجالة على سبيل المثال لا الحصر، حكمت سامي سليمان و الوزير عزت كركوكلي (وزير الأشغال في أول وزارة عراقية بعد تشكيل الحكومة العراقية عام ١٩٢١)، ويقال أن (نوري السعيد نفسه كان تركمانيا)، والعلامة مصطفى جواد والشاعر عبد الوهاب البياتي والشاعر حسين مردان والأديب الشاعر نصرت مردان والأديب إبراهيم الداقوقي والشاعر ده ده هجري والأديب وحيد الدين بهاء الدين والأديب الموسوعي عطا ترزي باشي، ومن كبار ضباط الجيش غازي الداغستاني والزعيــم (العميد) عمر علي واللواء مصطفى راغب من أبطال معركة فلسطين عام ١٩٤٨، والفريق يالجين عمر عادل والقانوني البارز نور الدين الواعظ والعديد من الوزراء والسفراء ومئات من كبار الموظفين والقضاة والمهندسين والأطباء.... الخ.
موطن التركمان في العراق.
موطن التركمان في العراق يمتد من قضاء تلعفر شمال محافظة الموصل وينحدر إلى جنوب شرقها باتجاه محافظة أربيل (نصف سكان أربيل من التركمان من بقايا الدولة الاتابكية التركمانية) ويمتد جنوبا إلى ناحية التون كوبري باتجاه محافظة كركوك، ثم جنوبا باتجاه ناحية تازة خورماتو وقضاء طوز خورماتو، ثم ناحية بيات وقضاء كفري، وينحدر إلى جنوب شرق العراق إلى محافظة ديالى وخاصة قضاء الخانقين، وناحية زرباطية والسعدية وجلولاء. ويقطن في محافظة بغداد الآن بحدود (٥٠) ألفا من التركمان. من الناحية المذهبية ينقسم التركمان إلى حوالي ٥٥٪ من السنة، و٤٥٪ من الشيعة. يقطن السنة في مدن، أربيل والتون كوبري وكركوك وبيات وكفري وخانقين وجلولاء وزرباطية والسعدية؛ أما الشيعة فيقطنون في تلعفر وتوابعها في محافظة الموصل وفي مركز مدينة كركوك (حوالي ٣٥٪ من التركمان في مركز مدينة كركوك من الشيعة)؛ وناحية تازة خورماتو وطوز خورماتو وعدد من القرى التابعة لهما. بلغ عدد نفوس التركمان حسب إحصائية التعداد السكاني لعام ١٩٥٧ (٩٥٠) الف نسمة. قدرت المصادر الحكومية عدد نفوسهم عام ١٩٩٧ بـ (٩٠٠) الف نسمة فقط (أي بنقصان (٥٠) الف نسمة عما كانت عليه عام ١٩٥٧، وهذا الرقم بحد ذاته يبين مدى الإجحاف الذي لحق بهذه القومية في العراق في ظل النظام السابق؛ وطمس، ليس هويتهم فقط، بل وجودهم أيضا. على أية حال فان المصادر المعتدلة تقدر عدد نفوسهم بـ (٢. ٥) مليون نسمة، وأما المصادر المتطرفة فتقدره بـ (٥. ٣) مليون نسمة. وبما أن نسبة الزيادة السكانية السنوية الثابتة في الــعراق هي (٨/٣٪)، يمكن تقدير عدد نفوس التركمان، على هذا الأساس، الآن بـ (٢. ٦) مليون نسمة. وبهذا العدد يشكل التركمان نسبة ١٠٪ من سكان العراق تقريبا؛ كثالث أكبر قومية فيه. يسكن حوالي ٤٠٪ من هذا العدد في مركز محافظة كركوك، واستنادا لإحصائية العام١٩٥٧ أحتل التركمان مركز القومية الأولى في هذه المحافظة، ثم جاءت القوميتان الكردية ثم العربية و المسيحـيون. يتكون الإخوة المسيحيون في كركوك من الاثوريين، وليس آشوريين، كما يشاع خطأ، استقدمهم الإنكليز من منطقة حكاري في تركيا عام ١٩٢٧، عن طريق إيران، غداة اكتشاف النفط في كركوك للعمل في شركة نفط العراق (IPC)، بعد أن رفض أهالي المدينة العمل مع الإنكليز، و كذلك من الكلدان والأرمن، بمذاهبهم الدينية، الكاثوليكية والارثذوكسية والبروتستانتية والانجيليكانية.
كركوك ومشكلتها
حسب المكتشفات الأثرية، يبدأ تاريخ العراق من مدينة كركوك، ففي (يورغان تبة)، حيث اكتشفت أولى الأدوات التي أستخدمها الإنسان وفي منطقة عرفة (التي كانت تسمى قديما بـ أرافا أو أرابا) عبد الإنسان الآلهة الأربعة التي كانت وجوهها متجهة نحو النار الأزلية في منطقة باباكركر. وعند زيارة المتحف الوطني العراقي الذي نهب ودمر في زمن الاحتلال، فأن السجل التاريخي للعراق يبدأ من مكتشفات (يورغان تبة) وتنتهي ببقية الحقبات التاريخية التي مرت على العراق.
كركوك مدينة عراقية، ولكنها ليست كبقية المدن في شمال الوطن وجنوبه. كركوك كتاب مفتوح القلب والعقل لكل عراقي، كل من يعمل ويعيش فيها لا يغادرها، يتزوج فيها ويعيش فيها ويموت ويدفن فيها. ولكنها مدينة أصيبت باللعنة، كما أصيبت بها البلدان العربية التي أكتشف فيها النفط. فبعد اكتشاف النفط في هذه المدينة، بدأ الصراع من أجل السيطرة عليها ولم يخمد إلى الآن، ولن يخمد إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. خضعت مدينة كركوك إلى عملية التعريب في العهد الملكي، ولكنها كانت عملية منظمة وعقلانية ومن دون ضجة، فكانت خطة المرحوم نوري السعيد تعريب المدينة بتوطين الموظفين العرب، بأسلوب نقل الموظفين سنويا منها واليها، فالموظفين التركمان والأكراد وقسم من العرب كانوا ينقلون سنويا إلى الألوية (المحافظات الأخرى) لقضاء أربعة سنوات خدمة مدنية فيها، وينقل إلى كركوك موظفين عرب ليقضوا بقية عمرهم الوظيفي والحياتي فيها. بعد الانقلاب العسكري عام ١٩٥٨. نشط الإخوة الأكراد في تكريد مدينة كركوك. خاصة بعد وصول المرحوم الملا مصطفى البارزاني وأتباعه من منفاهم في الاتحاد السوفيتي وتأثير الحزب الشيوعي العراقي، (كان غالبية كوادر وأعضاء وأنصار الحزب الشيوعي في كركوك من الأكراد). زحفت عشرات الآلاف من العوائل الكردية من القرى المحيطة بشمال كركوك إلى مركز المدينة واستولت على الأراضي من أصحابها التركمان، وبنيت البيوت البدائية عليها، وألصقت صور عبد الكريم قاسم على الأبواب واعتبروها سند الملكية. نشبت أثر هذه الهجمة الاستيطانية لتكريد كركوك حزازات ومصادمات بين سكان المدينة الأصليين التركمان وبين الوافدين للسيطرة عليها من خلال تغيير ديموغرافيتها، تحولت هذه الحزازات إلى صراع دامي بين الأكراد والتركمان. تحالف التركمان والعرب في المدينة لأيقاف هذه الهجمة المنظمة ذات الأهداف السياسية. أستمر الصراع و الحزازات والمناوشات إلى أن انفجرت يوم ١٥ تموز عام ١٩٥٩ خلال مسيرة الذكرى الأولى لثورة ١٤ تموز، أرتكب الشيوعيون خلالها مجزرة بشعة، قتلوا وسحلوا شباب التركمان في الشوراع، ومثلوا بأجسادهم وعلقوها على أعمدة الكهرباء والأشجار، ونهبوا محلاتهم التجارية و بيوتهم. كانت المجزرة ترجمة بشعة و قذرة لوحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان. (كاتب هذه السطور شاهد عيان على هذه المجزرة المهينة لكرامة الإنسان) راح ضحيتها ستة وثلاثين من خيرة شباب التركمان وعشرات من الجرحى. ومن يومها لم تهدأ هذه المدينة الوادعة التي كانت تسمى في يوم من الأيام سويسرا العراق. دبت الفرقة والبغضاء والحقد والفتن بين القوميات الرئيسية الثلاثة في المدينة واستمرت المشاحنات بينها ولم تهدأ إلى الآن.
بعد توقيع اتفاقية ١١ آذار ١٩٧٢، الشهيرة بين الرئيس السابق صدام حسين والحزب الديمقراطي الكردستاني، لمنح الأكراد الحكم الذاتي، بدأ نظامه في تنفيذ خطة متطرفة لتعريب كركوك وتهجير العوائل التركمانية والكردية منها.
بموجب الاتفاقية المذكورة حصل الأكراد على الحكم الذاتي على أن تطبق كاملة خلال خمس سنوات. نفذ الاتفاق بالكامل ماعدا فقرتين، الأولى، هي مسألة إلحاق محافظة كركوك بأقليم كردستان الخاضع للحكم الذاتي. أضحت هذه الفقرة مدار خلاف حاد بين اصرارين، إصرار صدام حسين على عدم اعتبارها ضمن الإقليم وبين إصرار الزعماء الأكراد بضرورة إلحاق كركوك بكردستان العراق ضمن اتفاقية ١١ آذار ١٩٧٢. كان إصرار صدام حسين يستند على أرضية قوية، طلب الرجوع إلى إحصائية التعداد السكاني لعام ١٩٥٧، لتقرير ما إذا كانت كركوك مدينة كردية أم لا، لأن إحصائية العام المذكور تثبت أن الأكراد في كركوك، الأقلية القومية الثانية بعد التركمان ويليهما العرب ثم المسيحيون (الاثور والكلدان). ولكن الأكراد أصروا على اعتماد التعداد السكاني لعام ١٩٦٧ كأساس. وسبب رفض صدام حسين اعتماد إحصائية التعداد السكاني لعام ١٩٦٧ هو لنزوح أعداد هائلة من الأكراد إلى المدينة بعد انقلاب عام ١٩٥٨. فهذا النزوح قلب التوازن السكاني لصالح الأكراد. عمد الرئيس السابق بعد ذلك إلى تهجير الأكراد الوافدين إلى كركوك بعد عام ١٩٥٨ إلى شمال العراق، والمئات من العوائل التركمانية إلى جنوبه، و أستقدم عشرات الآلاف من العوائل العربية الشيعية من جنوب العراق وأستوطنهم في مركز مدينة كركوك وضواحيها، وخصص لهم الأراضي السكنية مجانا، ودفع لهم مبالغ مالية كبيرة، في ذلك الوقت، لبنائها، ولم يدفع فلسا واحدا للمهجرين الأكراد والتركمان بل حملهم نفقات ترحليهم. بقيت هذه المنكوبة منذ ذلك الوقت محل صراع سياسي أحيانا، ودموي أحيانا أخرى.
بعد احتلال العراق، غض الأمريكان والبريطانيون النظر عن محاولات إلحاق محافظة كركوك بإقليم الكردستان واعتبروها جزءا منه وفق تصريحات متكررة صادرة عن المسئولين الأمريكان والبريطانيين، وبهذا أضافت أمريكا خطأ استراتيجيا آخر لجملة أخطائها التي لا تعد ولا تحصى في العراق. وبما أن مجلس الحكم الانتقالي لا يحل ولا يربط وواقع تحت مطرقة الامريكان وسندان الأكراد، لم يتحرك ساكنا ليطلب تأجيل هذا الموضوع الحساس والحيوي لمستقبل وحدة التراب العراقي، لما بعد إجراء تعداد سكاني نزيه، بالرغم عن صدور بعض الأصوات الخافتة في المجلس تطلب تأجيل هذا الموضوع، ألا أن الضغط الكردي في المجلس أسكت هذه الأصوات الخافتة. وهكذا سبق السيف العذل ووقع فأس أمريكا على رأس العراق و شعبه وباتت هذه المدينة الوادعة قنبلة العراق الموقوتة. وهكذا خضعت المدينة المنكوبة مرة أخرى لعملية تكريد واسع النطاق منذ ٩/ابريل، نيسان، بحجة إعادة المهجرين في العهد السابق. وللحقيقة والتاريخ أن عدد العوائل التي هجرت من كركوك خلال التسعينات كانت (٥٧٦) عائلة من منطقة الشورجة، أستقدم حزب السيد جلال الطالباني (٢٠٠) ألف عائلة كردية من شمال العراق ومن سوريا وتركيا لإسكانهم في كركوك، ومنحوا هوية أحوال مدنية رسمية في ظل سيطرة الأكراد على مجلس المحافظة الذين عينتهم قوات الاحتلال، وهذا هو سبب احتجاج الأعضاء التركمان والعرب في مجلس المحافظة وتقديم استقالاتهم، إلى جانب أسباب أخرى. وإذا كان الأمر يخص المهجرين، فلماذا لم يسمح للمهجرين التركمان بالعودة إليها؟ وهكذا بدأ نفوذ السيد جلال الطالباني وحزبه يتعاظمان في كركوك، تحت سمع وبصر سلطات الاحتلال. وبرأينا أنه عندما سيستولي عليها كليا سيمسك بجميع أوراق اللعبة في كردستان لتبدأ ملحمة الصراع بينه وبين السيد مسعود البرازاني للسيطرة على كردستان العراق.
أن ما هو مخطط له بشأن هذه المدينة، سيئة الحظ، كان السبب المباشر والحقيقي لرفض الإخوة الأكراد دخول القوات التركية إلى العراق، فتوقع الأكراد انه في حالة نشوب صراع ساخن بين الأكراد والتركمان من أجل السيطرة على كركوك، ربما ستتدخل القوات التركية لصالح التركمان وتقلب المعادلة والخطة رأسا على عقب. ينبغي للغيرة الوطنية رفض جميع القوات الأجنبية المحتلة أو التي ستشارك في الاحتلال مهما كانت حجمها وجنسياتها ومسمياتها.
مدينة كركوك، النائمة على النار الأزلية، مرجل يغلي، وباتت قنبلة العراق الموقوتة. الأكراد والتركمان والعرب فيها مقبلون على مواجهة مجزرة بشعة لا تبقي منهم شيئا ولا تذر. وإذا ما حدثت، لا سمح الله، فإن مجزرة بوروندي قياسا لما سيحصل، ستعتبر حفلة راقصة.
كان لسلطات الاحتلال دور مهم في تدهور الأوضاع في مدينة كركوك، أما بسبب جهلهم لواقع المدينة وتركيبتها الحساسة، وأما عن سابق قصد وترصد، في سياق خطتهم، لتأجيج الصراع الطائفي والعرقي في العراق، لإشعال الحرب الأهلية لتدمر البقية الباقية من هذا البلد المنكوب. وفي كلا الحالتين يتحملون جميع نتائجها السياسية والقانونية والإنسانية، ما لم يبادر الحكماء من الأكراد والتركمان والعرب والمخلصون لتربة العراق وشعبه، ونخص منهم بالذكر الزعيم الكردي البارز، السيد مسعود البارزاني، بما هو معروف عنه من حكمة وحنكة وبعد نظر سياسي استراتيجي، لنزع الفتيل والحيلولة دون انفجارها. وإذا انفجرت، لا سمح الله، فإنه وحده سبحانه وتعالى يعلم نتائجها، والى أين ستصل شظاياها، وكيف سيكون شكل العراق في قادم الأيام.
حقوق التركمان:
تعرض التركمان منذ عام ١٩٢٧، والى سقوط النظام السابق في ٩/نيسان/ أبريل /٢٠٠٣، لاضطهاد وغمط كبير لحقوقهم كمواطنين عراقيين، وفرض عليهم حالة من الاغتراب القسري داخل الوطن؛ في الوقت الذي أدوا بإخلاص منقطع النظير واجباتهم تجاه وطنهم. فبالرغم من انهم يمثلون القومية الثالثة في العراق بعد العرب والأكراد، إلا أن دساتير العراق بداءً من القانون الأساسي لسنة ١٩٢٥، مرورا بالدستور المؤقت لعام ١٩٥٩ والدستور المؤقت لعام ١٩٧٠ وتعديلاته في الأعوام ١٩٧٣و١٩٧٤و١٩٧٧ ومن ثم الدستور المؤقت لعام ١٩٩٠ لم تتطرق إليهم بشكل خاص، بل والأدهى من ذلك، أنهم حرموا حتى من أبسط حقوق المواطنة. فمنذ عام ١٩٨٣ لم يحق لأي تركماني أن يتملك عقارا أو أرضا في مدينة كركوك وضواحيها ألا بعد تغيير قوميته إلى العربية وإعلان انتمائه إلى أحدى العشائر العربية!! وأكثر من ذلك طعن السيد طارق عزيز نائب رئيس الوزراء في النظام السابق بحقهم المشروع في المواطنة، ففي مقابلة اجرتها معه صحيفة (لاريبوبليكا) الإيطالية عام ١٩٩٧ قال طارق عزيز حرفيـا (أن التركمان طارئون على العراق، لم يمض على وجودهم فيه سوى ٧٠٠ عاما فقط!!!!!). فبعد أن شطب بجرة قلم ٦٠٠ سنة من تاريخهم، لم تعترف هذه العقلية الشوفينية بمواطنة أكثر من مليونين ونصف المليون إنسان يعيش أجدادهم منذ ثلاثة عشرة قرنا في العراق، وتناسى أن الدول المتحضرة تمنح الجنسية للأطفال الذين يولدون في الطائرات التي تمر عبر أجوائها.
و الطامة الأخرى جاءت في عصر ترسيخ الطائفية والمحاصصة الأمريكية وأفرازات الاحتلال الغاشم، مع إصدار قانون إدارة الدولة الانتقالي، الذي سمي أيضا بالدستور المؤقت، الذي كتبه اليهودي نوح فيلدمان ليغمط مرة أخرى الحقوق الأساسية لهذه القومية؛ ولم يعترف بهم كقومية ثالثة في العراق. وعوضا عن ذلك، فرضت القوى الكردية على مجلس الحكم إلحاق كركوك بكردستان العراق. التركمان في العراق يؤمنون بوحدة الأراضي العراقية ولا يرضون بغيرها بديلا، ويؤمنون أن جميع أبناء الشعب العراقي، عربا وأكرادا وتركمانا والآشوريين والكلدانيين واليزيديين والصابئة المندانيين شركاء في هذا الوطن لهم ما له وعليهم ما عليه. وطالما أن النظام المستقبلي المنشود للعراق هو النظام الديمقراطي التعددي، يضمن حقوق جميع المواطنين ومساواتهم في الحقوق والواجبات أمام القانون، لا يرون طالما أن الأمر كذلك، أي مسوغ لحصر الشراكة بقوميتين فقط في القانون المؤقت أو عند صياغة الدستور الدائم. أن المنطق القانوني يفترض شراكة جميع المواطنين في وطنهم،. أما إذا أصر الإخوة الأكراد على ذكر القومية في الدستور الدائم عند صياغته، فأن عدم ذكر بقية القوميات غمط لحقوقهم وشطب لوجودهم وتتناقض مع أبسط المبادىء الديمقراطية التي يجعر بها الأمريكان وأعضاء المجلس الحكم الانتقالي صباح مساء. اللهم إلا إذا كانت الديمقراطية الأمريكية الجديدة قد غيرت مبادىء الديمقراطية، كما غيرت مبادىْ القانون الدولي، وتقسيمهم المواطنين إلى فئات و وأصناف درجات.
نعتقد أن من الأسباب الرئيسية التي أوقعت هذا الظلم على التركمان وغمطت حقوقهم القومية، هو سلبيتهم السياسية وعزوفهم عن المشاركة في الفعاليات السياسية في مختلف العهود التي مرت على العراق، وخاصة بعد المجزرة التي تعرضوا لها عام ١٩٥٩، وحملة الإعدامات التي أقدم عليها النظام السابق خلال العامين١٩٧٠ و١٩٧٣ عندما اكتشفت الأجهزة الأمنية محاولات تأسيس حزب سياسي تركماني تحت غطاء نادي الإخاء التركماني في بغداد، وأعدم (٢٦) شابا منهم. والسبب الآخر هو حساسية الحكومات السابقة ومعاملتها لهم كطابور خامس لتركيا، بحيث أصبحوا موضع الشك الدائم، تلاحقهم هذه التهمة الواهية في حلهم وترحالهم. والدليل على هشاشة هذه التهمة وبطلانها هو عدم إلقاء القبض، في تاريخ العراق الحديث، على أي تركماني أو محاكمته أو إعدامه بتهمة التجسس لصالح تركيا أو لأي جهة أجنبية. التركمان كانوا وما زالوا وسيبقون مخلصين أوفياء للعراق لأن شعورهم الوطني غالب على شعورهم القومي ولا يقبلون القسمة إلا على العراق، ولا ينحازون إلا إلى عراق موحد حر مستقل.
بعد اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج الثانية وانسحاب السلطة المركزية من شمال العراق، نشط التركمان في الدخول في المعترك السياسي، فشكلوا الأحزاب وأسسوا المدارس التي تدرس باللغة التركمانية وأحيوا تراثهم الثقافي في منطقة الحكم الذاتي في شمال العراق، وشاركوا المعارضة العراقية في الخارج اجتماعاتها ونشاطاتها، ولتعدد الرأي والرؤية أختلف التركمان فيما بينهم وانشطرت وانقسمت الفعاليات السياسية إلى أحزاب وحركات متعددة، مختلفة فيما بينها في التوجه والهدف وأسلوب العمل. ولم تستطع هذه الفعاليات السياسية من توحيد وتأطير نفسها بإطار سياسي موحد لتظهر كقوة مؤثرة على الساحة السياسية قبل سقوط النظام، وأثبتت تشرذمها وتفتتها بعد سقوطه، و بات كل يبكي على ليلاه. وفي زمن الاحتلال واختلاط الحابل بالنابل في العراق، يواجه التركمان مرة أخرى، غمطا جديدا لحقوقهم القومية والثقافية ومحاولات تهميشهم. رغم اختيار السيد بريمر لسيدة تركمانية لتمثيلهم في مجلس الحكم الانتقالي، ففي الحقيقة إنها جاءت من فوق السحاب، لا تمثل التركمان ولا الثقل التركماني الحقيقي.
مطالب التركمان:
أننا لا نتحدث باسم التركمان في العراق، رغم انتمائنا إليهم قوميا، ولا نملك هذا الحق، ولكن المتتبع للجدالات الدائرة في الوسط السياسي والثقافي التركماني يمكنه أن يستخلص المطالب الأساسية التي تجتمع عليها معظم الأطراف التركمانية، وهي تشتمل على ناحيتين، سياسية وثقافية. وقد لخص الكاتب العراقي المبدع سليم مطر، مطالب التركمان السياسية والثقافية، في كتابه القيم جدل الهويات، الصادرة عن مؤسسة دراسات الوحدة العربية في بيروت، تلخيصا دقيقا وواضحا، ولا يسعنا إلا الاتفاق معه مع إضافة بعض الأفكار.
١- المطالب السياسية
• تغيير المادة الواردة في قانون إدارة الدولة الانتقالي (الدستور المؤقت) والقائلة (العرب والأكراد شركاء في الوطن)، لكونها مادة غير وطنية وغير ديمقراطية، لأنها تعزز التمييز القومي في العراق، وتبخس حقوق الفئات العراقية المختلفة، فضلا عن أنها لم توضع نتيجة استفتاء شعبي أو برلماني بل هي من وضع أنظمة عسكرية وقومية متعصبة. إن جميع الدساتير الديمقراطية في العالم تتفق على القول (إن جميع المواطنين مهما كانت أصولهم وطبقاتهم وفئاتهم هم شركاء في الوطن) نعم إن جميع العراقيين شركاء في الوطن، بغض النظر عن أصولهم القومية والدينية والمذهبية والمناطقية.
• التأكيد في الدستور الدائم على وحدة التراب العراقي وعدم تقسيمه أو تجزئته مهما كانت الظروف والأحوال.
• التأكيد على عراقية كركوك وخصوصيتها التركمانية، ورفض المزاعم القومية الكردية باعتبارها جزءا من كردستان. إن هذا الموقف يقتضي أولا اتفاق العراقيين جميعهم على تحديد ماهية "حدود كردستان" بصورة رسمية وعقلانية ونهائية، وعدم إبقائها هكذا معلقة وعرضة لنزوات الادعاءات القومية والميليشات المسلحة التي استغلت للأسف غياب الدولة العراقية وتشتت القيادات السياسية وإهمال النخب المثقفة، بالقيام بحملات تنقية عرقية كردية ضد المواطنين العرب والتركمان والسريان وطردهم من بيوتهم وفرض أتباعهم على الإدارات المحلية.
• الاعتراف بالوجود التركماني في أربيل رسميا والتأكيد على حقوقهم الثقافية والسياسية المتميزة في هذه المحافظة العراقية، وإرجاع حقوقهم المغبونة من قبل الحكومات السابقة من ناحية الاعتراف بتمايزهم اللغوي والثقافي أسوة بأخوتهم الأكراد والسريان.
• تمتع التركمان بأحقية حصولهم على مناصب قيادية في أجهزة الدولة العراقية، السيادية منها وغير السيادية، بما فيها الجيش، والتأكيد على إشراك جميع الفئات العراقية في إدارة الدولة والجيش بصورة عقلانية قائمة على العرف والأخلاق من دون أي داع لاستخدام طريقة (التوزيع الطائفي) على الطريقة اللبنانية، المنافية لروح الوحدة الوطنية وحرية المعتقد. يتوجب من اجل هذا تخصيص مراقبة برلمانية شديدة لمنع أية محاولة لاحتكار الدولة والجيش من قبل أية فئة مهما كانت.
• توجيه الاهتمام بالمناطق التركمانية المهملة والمهمشة، وإيقاف حملات التعريب ومحاولات تكريد هذه المناطق في كركوك وأربيل، وتعويض العائلات التركمانية المبعدة إلى جنوب العراق أو إلى شماله، وإعادة الجميع إلى وظائفهم.
• إلغاء آثار العملية التي قامت بها أجهزة الإحصاء الحكومية بإرغام التركمان وباقي الفئات العراقية من غير العرب والأكراد، على تسجيل أنفسهم في الوثائق الرسمية، إما كعربي أو كردي!!
• أبطال جميع وثائق وهويات الأحوال المدنية التي صدرت بعد ٩ نيسان، ابريل ٢٠٠٣ للذين استقدمتهم الأحزاب الكردية والتركمانية، ومنح الهويات والوثائق للذين يثبتون فعلا أنهم كانوا من سكان المدينة قبل ٩، نيسان أبريل ٢٠٠٣.
٢- المطالب الثقافية:
• إدخال اللغة التركمانية كلغة اختيارية للدراسة والإطلاع في جميع مدارس العراق وحتى الجامعات. والتثقيف باعتبار اللغة التركمانية (كذلك اللغتين الكردية والسريانية) كلغة عراقية أصيلة تحمل الكثير من التراث المحلي وتساهم من جانب آخر في تواصل العراق على كافة الأصعدة مع الشعوب الناطقة بالتركية، وتدعم مصالح العراق مع تركيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وقرغزستان وقازاقستان، واعتبار هذه اللغة جسرا للتواصل الحضاري مع تلك الشعوب..
• فتح قسم اللغة التركمانية في كلية آداب جامعة بغداد أسوة بقسم اللغة الكردية. وكذلك إضافة مادة اللغة التركمانية في معاهد أعداد المعلمين والمعلمات، ويكون الاختصاص اختياريا، لتهيئة الكوادر التدريسية باللغة التركمانية.
• رد الاعتبار للميراث التركماني العراقي من خلال التعريف بشخصياته الثقافية المهمة مثل فضولي البغدادي ونسيمي، واعتبار هذه الشخصيات وميراثها جزءاً من الميراث العراقي وفخرا لجميع العراقيين، وليس للتركمان وحدهم. وفسح المجال لهذا الميراث بالاشتراك مع باقي الميراثات المحلية العراقية لان تعبر عن نفسها في وسائل الإعلام الوطنية والتعريف بها على أنها نتاجات وطنية تهم كل العراقيين.
• إعادة التسميات التاريخية إلى المدن والمناطق والقصبات التركمانية. علما بأن معظم هذه الأسماء هي من أصول عراقية (آرامية) وليست تركمانية، ولكن اعتزاز التركمان بها لأنها أصبحت جزءا من تراثهم الثقافي والمشاعري. لنتذكر إن اسم (كركوك) هو أكثر عراقية واصالة تعود لما يقرب الألفي عام، من اسم (التأميم) البعثي المصطنع.
إن القراءة العميقة لهذه المطالب تكشف في جوهرها، بأنها لا تمثل (حقوق التركمان) وحدهم بل حقوق جميع الفئات العراقية مهما كانت لغوية أو مذهبية أو دينية. إن معظم الفقرات الواردة تبقى صالحة لو تغير اسم (التركمان) إلى (سريان) أو (يزيدية) أو (صابئة) مثلا. نعم إنها مطالب وطنية نأمل أن يقوم دستور العراق الجديد بأخذها بنظر الاعتبار، لأنها قائمة على أساس الإيمان بوجود (امة عراقية) تضم مختلف الفئات، وهذا نقيض تام للفهم الحالي السائد القائم على أسس فئوية قومية وطائفية كانت ولا زالت سبب خراب الوطن. إن هذا الفهم الوطني هو وحده القادر على توحيد العراقيين في (هوية وطنية مشتركة) وتخليصهم من التمزق الداخلي، الروحي والمادي، الذي بسببه تمكنت الطغم الانعزالية الاستبدادية من فرض سطوتها طيل عقود وعقود.
لمن يرغب بالمزيد من المعلومات حول إشكالية الفئات العراقية، يمكنه العودة إلى كتاب الكاتب العراقي سليم مطر (جدل الهويات) الصادر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت.