علي شاطئ البحيرة دعاني الفنان الألماني للغداء, وتدرج حديثنا من الفن الي الحرب. قال لي: كنت في الثامنة من عمري سنة١٩٤٥ حين قيل إن الحرب انتهت, وكانت أمي فرحة تردد: لم أعد أخشي أن يطلبوك في الجيش.. وأنا لا أفهم بالضبط ماتقوله لي.. وبعد هزيمة ألمانيا وقعت قريتنا في منطقة الاحتلال الانجليزي في الشمال الشرقي, وكان الحلفاء, الانجليز والأمريكان والفرنسيون في الغرب, والروس في الشرق قد دمروا تماما الدولة الألمانية(!).
أما التدمير الظاهر فهو نسف المواقع العسكرية والمصانع والعمران من الجو ومن الأرض, أما التدمير الأخطر فهو الغاء الدولة الألمانية نفسها, واعتقال كل المشتبه في انتمائهم للحزب النازي, ووضع الأقفال علي المصانع التي ساهمت في صنع السلاح أو ملابس الجند أو أغذية الجيش.. قل: كل المصانع الألمانية.
لم يعد في المدن أو القري مجالس بلدية مسئولة عن رفع الأنقاض الناتجة عن الحرب بعد أن اعتقل أعضاؤها, ولا عاد في البلاد شرطة أو قضاء.. لأن جميع الألمان من الأعيان كانوا يعتقلون للاشتباه في انتمائهم للحزب النازي الحاكم.
استولي الذعر علي أصحاب الدكاكين والمهن فلزموا بيوتهم.. واضطر الناس الي الاعتماد علي المعونة الغذائية التي يتصدق بها المحتلون(!).. يوما تأتي وأياما لا تأتي.
البيوت المدمرة.. كيف يعاد بناؤها في غياب شركات البناء أو مواد البناء أو وسائل النقل؟.. فالناس يعيشون في أنقاض بيوتهم إن وجدوا في الانقاض فجوة أو ثغرة تصلح للاحتماء من البرد أو الحر أو المطر أو العاصفة.. أو يعيشون في أنقاض المباني العامة( سابقا), أو في بيوت نادرة نجت من التهديم يتزاحم فيها الأقارب والجيران معا مع أصحاب البيوت.
ولعلك سمعت بالغارة الرهيبة علي مدينة درسدن التي دمرت المدينة تماما في الساعات الأخيرة للحرب, فكانت حياة المدينة تلك الليلة بلا ثمن وموتها بلا ثمن.
وقد نشأنا أطفالا نلعب بين الانقاض ونتسابق فوق الأحجار, في ثياب رثة وبطوننا خاوية.
وكان المحتلون قد أخلوا( في الشوارع الرئيسية فقط) ممرات بين الانقاض لسياراتهم ودباباتهم, فإذا صادفوا بعض الأطفال علي الأنقاض أخذت بعضهم بهم الشفقة(!) فألقوا نحوهم من بعيد بعض شرائح الخبز, فنجري لنجمعه ونقسمه ونلتهمه ونشتمهم بالألمانية من بعيد..(!).
وكان الجيش المحتل قد حذر الجنود من الاقتراب من الأطفال حتي لا تصيبهم عدوي من أمراضهم, فكانت الصدقة يلقيها الجند المتصدقون للاطفال من بعيد.. تؤلم أكثر مما تشبع.
وكانت لي خالة متزوجة من هولندي في قرية قريبة من قريتنا الألمانية, فكانت أمي في بعض الليالي توقظني من النوم وتقول لي: أنا ذاهبة أزور خالتك الليلة, خل بالك من إخوتك, وإذا لم أعد فهم أمانة في رقبتك ياولدي.. كن رجلا.. وأنا في الثامنة والتاسعة والعاشرة من العمر أسمع منها هذا الكلام في الليل فيجافيني النوم وأنتظر عودتها وقلبي يدق.
كانت أمي تعبر الحدود في الذهاب والاياب وتغافل الدوريات وتعرف ثغرة في الاسلاك الشائكة ويعرفها آخرون.. فإذا عادت قبل الفجر كانت محملة بلحم السلاما وقوالب الخبز والجبن وبعض الخضراوات.. تنظم استهلاكنا لها بحساب دقيق.
وتعلمنا الانجليزية في المدرسة, كما تعلم أبناء جيلنا في ألمانيا الشرقية اللغة الروسية في المدرسة, ولكن كيف تحسبني أتذوق روايات هيمنجواي أو تشارلز ديكنز.. أو كيف تحسب أبناء جيلنا في الشرق يتذوقون روايات تولستوي أو مسرحيات تشيكوف بنفس التذوق للقراء في بلاد بعيدة لا تعاني من احتلال أصحاب الآداب؟! في حياتنا الألمانية تجارب مريرة تنغمس بالآداب والفنون التي تتذوقها, وفي حياتنا مشوار طويل نسلكه لنصل الي فهم الآداب والفنون علي أساس أنها بريئة من ذنوب الاحتلال, وانها ليست ناتج القوة أو القسوة أو الكراهية وانما هي تعبير عن الضمير الصافي للنفس الانسانية, وان مستر هايد يمكن أن ينطوي أيضا علي دكتور جيكل, وان الفن والأدب لابد أن ينحازا للخير وأن يتفاعلا مع الروح الانسانية لا مع القوة الغاشمة.
لكني لا أنسي أبدا أيامي وأني تعلمت اللغة الانجليزية كمادة اجبارية.
كان في حديث الفنان عن الحرب نبرة حزينة, ولا شك أن ذكرياته مهما كانت بعيدة لاتزال تؤلمه.
ولكني صرت أتأمل ما سماه الكثيرون المعجزة الألمانية. فها أنذا بعد بضع عشرات السنين أعيش في هذا البلد الذي كان قد تعرض للتدمير التام.. ثم نهض نهضة عظمي, ليعود في مقدمة الصف العالمي.. مثل نهضة العنقاء من رمادها بعد الاحتراق, بجناحين قويين, وتصبح ألمانيا في موقع الريادة والزعامة في مجالات الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والعلوم والفنون والآداب والشخصية القومية.
كنت منذ عشرين سنة ضيفا في برلين لمدة سنة علي هيئة داد للثقافة الخارجية, وكنت قادما اليها من انجلترا حيث كنت مقيما في لندن, فلاحظت علي الفور ان المانيا متفوقة في نظم الطرق وسرعة المعاملات, وامتياز السلع وانضباط المجتمع.
وقد كنا في مصر نبدي اعجابنا الخاص بالدواء الألماني وبأدوات الاستماع والسيارات الألمانية, ولكني في مدة اقامتي بألمانيا أعجبت أيضا بنظام الطرق والمواصلات العامة وانضباط الشارع ومستوي المعيشة المرتفع ورخاء البلد.
ولعل غيري أقدر مني علي تقصي هذه المعجزة الألمانية بالأرقام واكتشاف مجالات التفوق فيها.
وقد كانت برلين الشرقية نموذجا للمدينة المتقدمة من جهة أخري, وتتفوق علي برلين الغربية برخص أسعارها, ولهذا حديث آخر.
وقد قسمت ألمانيا بغير مشورة من أهلها, وأقيم حائط برلين بأسلوب تعسفي, ولكن الحدود بين الدولتين الالمانيتين كانت أكثر من الحائط تفصل البلدين بحراسة مشددة وآلات رصد لا تخطئ.
لقد أصبحت ألمانيا في التصور العام هي ميدان القتال للحرب المتوقعة بين الشرق والغرب, فلا تتصور أن ذلك كان لا يؤثر في النفوس.. كما كان تهديم الحائط فيما بعد ووحدة ألمانيا ثم الوحدة الأوروبية إفراجا للنفوس ونجاة من الضيق والذكريات الأليمة.
ولكن دعنا من هذا الي حديث لندن التي اقمت بها قبل اقامتي ببرلين, وأهلها لايزالون يتذكرون تدمير المدينة علي مراحل في كل ليلة من ليالي عام١٩٤٠ و١٩٤١ بالقنابل ثم بالصواريخ.. وكانوا لايزالون يذكرون غارة كوفنتري الانجليزية وهي المدينة الاقليمية السكنية التي تم تدميرها تماما في ليلة غبراء أثناء الحرب.
لم تكن الغارات علي ألمانيا بريئة من وازع الانتقام, وقد قدمت أوروبا في الحرب العالمية الثانية خمسين مليون قتيل(!) كان معظمهم من الروس ثم الألمان.
فأي حديث عن الحرب يمكن أن يصف ذلك أو يصوره, وقد كان في خيالي دائما رواية الكاتب الانجليزي الانسان جراهام جرين(١٩٠٤ ـ١٩٩١) وهي رواية الرجل الثالث التي جرت أحداثها في فيينا عقب الحرب, وانتجتها السينما ببطولة أورسون ويلز وجوزيف كوتون وصورت فيها فيينا التي كانت مدينة الحب والفن والجمال مجرد خرائب وأنقاض ونفوس مكتئبة أو متمردة.. وهي من صور السينما التي لا تنسي.
من الذي انتصر في حرب اجتاحت أوروبا كالاعصار, وكانت طاقة من الغضب تشحن مكامن الغضب(؟!).
أو ربما نسأل أنفسنا: هل انتهت الحرب حقا سنة١٩٤٥, أم ان تداعياتها استمرت بعد تلك السنة؟.. وقد أثار هذا السؤال عندي الروائي نفسه جراهام جرين برواياته التي تتابعت بعد الرجل الثالث.. وجرت وقائعها الرهيبة في كوبا والمكسيك وفيتنام واندونيسيا والكونغو وهايتي.. تصور أحداث الانقلابات والاغتيال والتآمر والحب في بلاد تعيش علي براميل البارود, فكانت شاهدا وراويا للعصر كله, بعد الحرب وأيام تداعياتها في العالم الثالث.
والعجيب أن الانسان لايزال يبتكر من الأسلحة ماهو أكثر فتكا من كل الأسلحة السابقة, وفي العالم سباق لابتكار أدوات الموت.. رغم ملايين الناس الذين يتظاهرون ضد الحرب في كل المدن والقارات.