إن التاريخ البشري عبارة عن تفاعل مستمر بين جبهتين متضادتين. وبكلمة أخرى: انه عبارة عن صيرورة وحركة دائبة.
يجوز للضابط العسكري أن يدرس التاريخ من ناحية واحدة. فمهنته تستوجب ذلك. وهو مضطر اذن ان يركز نظره على الفتوح الحربية وعوامل نجاحها أو فشلها. وهو لابد أن يعجب بالفاتحين ويحترم ما تم على يدهم من إنجازات عسكرية رائعة. فأعظم الناس في نظره هم رجال من طراز هانيبال ويوليوس قيصر ونابليون وجنكيز خان. اما من كان من طراز عيسى أو أبي ذر أو روسو فهو ليس في العير ولا في النفير.
إن الباحث الاجتماعي الحديث ينظر في التاريخ نظرة أخرى. فهو محايد يدرس وقائع السلاطين الفاتحين كما يدرس وقائع الشعوب المفتوحة، فلا يدين جانبا ويبرىء جانبا. الكل في نظره سواء. فإذا جاز للسلاطين ان يفتحوا الأمصار جاز للشعوب ان تشكو منهم وتتمرد عليهم. ان السيطرة والتمرد وجهان متلازمان من أوجه التاريخ الاجتماعي، وليس من الممكن فصل أحدهما عن الآخر. ولولا وجودهما جنبا إلى جنب لما ظهرت في التاريخ تلك النبضات الحية.
الملاحظ في تلاميذنا أنهم يحتقرون القرآن رغم تظاهر البعض منهم بتقديسه. فهم يمجون ما فيه من تكرار لقصص الأنبياء.
مشكلة هؤلاء أنهم اعتادوا على قراءة الكتب المدرسية، فإذا قرأوا القرآن وجدوه من نمط آخر فيستبشعونه ويملّون منه. وهم لو انصفوا لعلموا ان القرآن أقرب فهما لروح التاريخ من جميع الكتب التي يقرأونها في المدارس. فهو يصور لنا التفاعل الاجتماعي بأجلى صوره. وحين يقرأه الباحث في ضوء النظريات الاجتماعية الحديثة يبدو التاريخ امامه زاحفا بهديره وضجيجه.
التاريخ في القرآن عبارة عن صراع مرير بين رجال من طراز فرعون ورجال من طراز موسى. وفي كل زمان موسى وفرعون. فالتاريخ إذن لا يهدأ ولا يفتر. فهو يطلع علينا في كل يوم بطور جديد ينسينا الماضي ويحركنا نحو المستقبل.
يذم القرآن بني إسرائيل، ولكنه يمدح أنبياءهم فبنوا إسرائيل قد غروا بأنفسهم واعتبروا أنفسهم "شعب الله المختار" وهم يطمحون ان يظهر من بينهم ملك فاتح يسوّدهم على شعوب العالم. أما أنبياء بني إسرائيل فهم يرون غير هذا الرأي اذ كانوا دعاة ثورة وإصلاح أكثر مما كانوا دعاة فتح وسيطرة.
يؤكد القرآن في بعض آياته على حقيقة اجتماعية لم يلتفت إليها أحد من المؤرخين القدماء. انه يقول: إن الله لا يكاد يرسل نبيا إلى قوم حتى يقاومه المترفون منهم ويتبعه المستضعفون.
ان البحوث الاجتماعية الحديثة توافق القرآن من هذه الناحية موافقة تكاد ان تكون تامة. فالمترفون في كل أمة يقاومون الحركات الاجتماعية الجديدة وهم يعتزون بتقاليدهم الموروثة أولا، وبأموالهم المقنطرة ثانيا وبمكانتهم الاجتماعية ثالثا. وهذا يشابه ما قال به القرآن الى درجة تدعو الى التأمل.
أخذ المسلمون في عهودهم المتأخرة يفهمون القرآن على غير حقيقته. فهم اعتبروه سجلا للعلوم والفنون على اختلاف أنواعها. ففيه أسرار الذرة والفلك وفيه الأدوية والعقاقير، وفيه الجغرافية وعلم طبقات الأرض. وهم يناشدون كل عالم ان يقتبس علومه من القرآن. وإذا عجز العالم عن العثور عما يطلبه فيه كان ذلك دليلا على قصور ذهنه، فهو لو صبر على البحث لوجد في القرآن كل ما يروم.
والأنبياء قد اتخذوا في كفاح المترفين سبلا شتى. فمنهم من اتخذ طريق الثورة الايجابية كموسى، ومنهم من اتخذ طريق الثورة السلبية كعيسى، ومنهم من مزج بين الطريقتين كمحمد. اختلفوا في الوسيلة ولكن غايتهم كانت واحدة هي مكافحة المترفين الظالمين والدعوة الى مبادىء العدالة والمساواة.
يريد المترفون ان يرجعوا بالمجتمع الى الوراء. ويريد الأنبياء ان يسيروا به الى الإمام. وبواسطة هذا التدافع الاجتماعي تنمو الحضارة من جهة ويتطور المجتمع من الجهة الأخرى.
ان كل دين يحتوي على ظاهر وباطن. اما باطنه فيتمثل بالمبادىء الاجتماعية التي دعى إليها النبي في أول أمره. ولا يكاد يمر الزمن على الدين حتى يستلم زمامه الكهان، وعندئذ ينسى الناس مبادىء الدين الأولى ويهتمون بالطقوس الشكلية، اذ يتخيلون الله كأنه سلطان من السلاطين لا يريد من رعيته سوى إبداء الخضوع له ولا يبالى فيما سوى ذلك بشيء.
حين ندرس تاريخ الأمة الإسلامية نجده يجري في نفس الطريق الذي جرى فيه تاريخ الأمم الأخرى. والمسلمون بشر كسائر الناس. وليس من المعقول ان يسيروا في تاريخهم سيرا شاذا يمتازون به عن غيرهم من البشر.
لقد ظهر في الإسلام سلاطين مترفون، ولابد أن يظهر إزاءهم ثوار متذمرون على أي حال. وقد تنبأ عمر بذلك حين شاهد الغنائم الهائلة من الجواهر والذهب والفضة فقال: "أجل، ولكن الله لم يعط قوما هذا إلا ألقى بينهم العداوة والبغضاء".
يصف القرآن محمدا بأنه كان مذكرا لقومه لا مسيطرا عليهم. وهل بمقدور إنسان، مهما كانت عظمته وحكمته، أن يصب التاريخ في القالب الذي يريده. التاريخ البشري أقوى وأعمق من أن يؤثر فيه النصح والتذكير اما المفكرون الطوبائيون الذين يريدون تحويل التاريخ عن مجراه الطبيعي فهم اولو عقول ضيقة لا تتعدى أقوالهم نطاق البرج العاجي الذي يعيشون فيه.
نحن قد نرى إنسانا تقيا قد بح صوته في الدعوة إلى العدل والصلاح، فنحسبه عادلا في صميم طبيعته. وهذا خطأ انه يدعو الى العدل لأنه مظلوم، ولو كان ظالما لصار يدعو الى الصوم والصلاة.
ومن مزايا محمد انه ترك في أمته أثرين مختلفين. فهو قد وحد العرب ووجههم نحو الفتح من جهة، وهو من الجهة الأخرى قد علمهم دينا فيه قسط كبير من تعاليم العدالة والمساواة. ولهذا وجدنا العرب الفاتحين يحملون القرآن في يد والسيف في اليد الأخرى. فالسيف من طبيعته القسوة والظلم والقرآن من طبيعته الثورة والدعوة إلى العدل.
ومن هنا وجدنا في كل بلد يفتحه العرب ثورة تنادي "وا محمداه".
فمحمد لم يوجه العرب نحو الفتح من أجل الفتح ذاته. إنما قصد من الفتح إنقاذ الشعوب المفتوحة مما كانوا يعانونه من ظلم الفاتحين قبله. وقد صرح القرآن بذلك حيث وصف أتباع محمد بأنهم "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
يحاول بعض المستشرقين ذم الإسلام اذ وصفوه بأنه كان يحمل القرآن بإحدى يديه والسيف باليد الأخرى. وما دروا أنهم يمدحون الإسلام من حيث أرادوا ذمه. فالإسلام قد أنتج بهاتين اليدين تفاعلا اجتماعيا لا يخمد له أوار. فكان يخضع الناس من جانب ويثيرهم من الجانب الآخر. فانبعثت من هذا التناقض بين الإخضاع والإثارة حركة اجتماعية قلما نجد لها مثيلا في التاريخ.
وفي أيام الخلفاء الراشدين كان حملة الدين بمثابة صمام الأمن في الجيوش الفاتحة. فكانوا لا يرون قسوة أو تعذيبا حتى يقاوموه ويشتدوا في ردعه. ومعنى هذا ان الفتح الإسلامي يختلف عن أي فتح آخر من الفتوح القديمة. فهو لا يحتوي على جنود محاربين فقط، إنما كان يحتوي فوق ذلك على قراء مؤمنين يقفون في جانب الشعوب المفتوحة ويؤدونها في شكواها.
استمر الفتح الإسلامي على هذا المنوال طيلة عهد الخلفاء الراشدين. فلما ظهرت الدولة الأموية أخذ شيء من التغير يحدث فيها تدريجا. وهذا التغير نشأ من كون الصحابة والتابعين صاروا ينتقدون سياسة الدولة الجديدة ويبتعدون عنها.
التف حول الدولة الأموية جماعة من المتزلفين وأخذوا يتظاهرون أمام الناس باسم الدين. وهم لم يكونوا في الواقع سوى كهان، شأن أية جماعة من رجال الدين يحيطون بالسلطان ويدعون له. اما الصحابة الحقيقيون ومن جاء بعدهم من التابعين فقد ساروا في حياتهم سيرة أخرى، إذ اتخذوا لهم المساجد مراكز يبثون منها تعاليمهم المحمدية. ونشأ بين المسجد والقصر حينذاك صراع عميق.
ظهر في جانب الدولة رجال من طراز بسر بن ارطاة والحجاج ابن يوسف ومسلم بن عقبة وشمر بن ذي الجوشن. أما في جانب الدين فظهر رجال من طراز الحسن البصري وسعيد بن المسيب وعلي ابن الحسين وسعيد بن جبير. اولئك اتخذوا لهم السيف دينا وبرعوا فيه. وهؤلاء اتخذوا القرآن دينا وأخذوا يبثون تعاليم الثورة المحمدية بين الشعب المفتوح.
عندما اشتد الحجاج على الموالي وأخذ يفرض عليهم الجزية رغم إسلامهم، خرج جماعة من زهاد البصرة إلى الموالي يواسونهم. وهناك حدث، كما يقول الرواة عويل وبكاء، وصاروا يهتفون جميعا: "وا محمداه!".
إن الاستقطاب الاجتماعي والفكري لابد من ظهوره في مثل هذه الظروف. وكلما اندفع قوم في جانب اندفع خصومهم نحو الجانب الآخر. ونحن لا نستطيع ان نضع اللوم في هذا على قوم دون قوم. فكما يحدث التجاذب والتنافر في عالم الكيمياء والفيزياء يحدث كذلك في عالم الاجتماع البشري. ولابد مما لابد منه.
والإسلام باعتباره مجموعة من مبادىء المساواة والأخلاق الفاضلة هو بعيد عن صفات جميع الأقوام كما هم عليه في الواقع. فالناس في حياتهم الواقعية متأثرين بعاداتهم الراهنة وما ورثوا عن الآباء من تقاليد. وهم حين يدخلون الدين لا يأخذون منه سوى ما ينفعهم في تنازع البقاء.
يقول الحسين بن علي: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون". وهذه حكمة اجتماعية يجب على الباحث المحايد أن يضعها أمام نظره حين يريد أن يدرس تاريخ أمة من الأمم.
والناس الذين كانوا يعيشون في عهد بني أمية هم أنفسهم يعيشون بيننا الآن. ولا ننتظر من اولئك الناس ان يكونوا أفضل من هؤلاء. فالناس كالناس والأيام واحدة.
أخذ الحجاج يقتل الناس وهو فخور فهو ينصر الإسلام بسيفه كما زعم. وعند هذا قام الموالي ينادون: "وا محمداه!". ولو أن الموالي كانوا هم الفاتحين لثار الحجاج عليهم وأخذ ينادي "وامحمداه! أين العدالة والمساواة التي جاء بها محمد بن عبد الله!".
على هذا المنوال يتحرك التاريخ. ولو لا ذلك لجمد التاريخ ووقف عند حد ثابت لا يتعداه.
ان الدين له دوره في التاريخ، كما ان للدولة دورها فيه. ومن يبغي ان يدرس التاريخ بمنظار أحدها ويهمل منظار الآخر كان كمن يشتهي من التاريخ ان يقف. وهذا مستحيل.
ان الدين والدولة أمران متنافران بالطبيعة فاذا اتحدا في فترة من الزمن كان اتحادهما موقت، ولا مناص من أن يأتي عليها يوم يفترقان فيه. واذا رأينا الدين ملتصقا بالدولة زمنا طويلا علمنا انه دين كهان لا دين أنبياء.
شاء الله ان يظهر في الاسلام رجلان مختلفان هما معاوية وعلي. أحدهما أسس الدولة المترفة في الإسلام والآخر بذر بذور الثورة عليها.
يقول بعض المستشرقين ان الجيوش الفاتحة ادخلت الشعوب في الاسلام بحد السيف. وهذا قول يصعب علينا الموافقة عليه. ونحن نعرف ان السيف اذا استخدم في التبشير الديني أدى الى عكس المطلوب. والانسان مجبول على معاكسة كل رأي يفرض عليه بالقوة. وكلما اشتد الاضطهاد على قوم من أجل دينهم اشتدوا من جانبهم في التمسك به والتاريخ مملوء بالقرائن المؤيدة لما نقول.
وقال آخرون: الشعوب دخلت الإسلام هربا من الجزية. وهذا قول لا يخلو من وهن أيضا. فليس من الهين على الناس ان يتركوا دينهم القديم من أجل دراهم معدودة يدفعونها كل عام. واذا جاز ان يفعل ذلك بعض الناس فان السواد الاعظم منهم مستعدون ان يبذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل الدين الذي وجدوا عليه آباءهم، لاسيما في ذلك الزمان الذي كان الدين فيه ذا نفوذ قوي في النفوس.
قد يقول البعض: ان الشعوب المفتوحة دخلت الاسلام بعدما وجدته خيرا من دينها القديم. وهذا رأي لا تؤيده القرائن الاجتماعية. فالدين هو عاطفة قلبية أكثر مما هو تفكير منطقي.
لابد ان يكون هناك عامل اجتماعي آخر، غير هذه العوامل، دفع الشعوب المفتوحة الى اعتناق الاسلام. فما هو؟
الذي نلاحظه في تاريخ الاديان ان الناس لا يعتنقون دينا جديدا الا حين يجدون فيه سدا لحاجة نفسية أو اجتماعية يحسون بها. والظاهر ان الشعوب المفتوحة وجدت في الدين الذي جاء به بنو علي شيئا مما يبتغون فاعتنقوه وأخذوا يصاولون به حكامهم الجائرين. وهو دين يشبه الى حد كبير تلك الاديان التي جاء بها الانبياء في سالف الازمان.
اختفى الصراع بين الحاكم والمحكوم، في العصر الحديث، تحت ستار من الجدال الحزبي والحملات الانتخابية، فظن الناس انه غير موجود. وهو في الحقيقة موجود ضروري في آن واحد. انه صراع بين غالب ومغلوب. ومن النادر ان يحب المغلوب غالبه أو يحب الغالب مغلوبه. والذي ينتظر من الغالب والمغلوب ان يتحابا هو كالذي ينتظر من الذئب والحمل ان يتعاونا على البر والتقوى.
وحين نستمع الى الشتائم التي تكيلها الاحزاب المتعارضة الآن بعضها لبعض، يجب ان نذكر انها كانت تكال بشكل ابشع في العصور القديمة. وليس من السهل على من يشهر السيف في وجه خصمه ان لا يطلق عليه لسانه ويتهمه بالتهمة الشنعاء.
يقول انصار بني أمية ان المبادىء الاشتراكية التي دعا اليها أبو ذر أخذها من ابن سبأ. والواقع انه أخذها من استاذه علي. فقد كانت بينه وبين علي صحبة قوية وعطف متبادل. وكان ابو ذر معروفا بذلك بين الناس. وكان بنو أمية يدركون هذا ويتذمرون منه مرة بعد مرة.
ان ابا ذر لا يحتاج الى رجل يهودي لكي يعلمه المبادىء التى نادى بها. ففي تعاليم الاسلام الاولى مجموعة لا يستهان بها منها. وقد اتضحت هذه المبادىء في خلافة علي بجلاء. والى القارىء بعض هذه المبادىء التي نادى بها الامام علي:
١_ كان علي يؤمن بان المال للامة اذ لا يمكن ان ينتفع به أحد غيرها. وليس للخليفة منه غير ما يكفيه معاشا قليلا. والخليفة يجب ان يتأسى في معاشه باضعف رعيته، حيث لا يجوز له ان يشبع من لذيذ الطعام وفي انحاء البلاد من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع.
٢_ يقول علي: "ان الله تعالى فرض على الاغنياء في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم. ولن يجهد الفقراء اذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع اغنياءهم. ألا وان الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما". كان لا يحب ان يترك الاغنياء أحرارا يتصرفون بأموالهم كما يشاؤون. ولو لم يشغله الخصوم في فتنهم المتوالية لربما حقق هذه المبادىء الاشتراكية في خلافته. ولعل الخصوم أحسوا بذلك فلم يمهلوه.
۳_ وكان على يكره هاتيك الولائم التي اعتاد الناس على القيام بها. وقد لام أحد عماله لانه ذهب الى وليمة فقال له: "انك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو". فكل وليمة يدعى اليها الاغنياء ويطرد منها الفقراء انما هي لئامة يجب على الناس ان يبتعدوا عنها.
٤_ وكان علي يكره الكرم المألوف بين الناس، حيث يعطي السائل مالا وفيرا بينما يبقى المحتاجون الذين لا يسألون في فقر مقيم. اعطى معاوية ذات مرة مئة ناقة الى عجوز من بني كنانة كانت معروفة بتشيعها وذلاقة لسانها، وقال لها: "اما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا!" فقالت: "لا والله ولا وبرة من أموال المسلمين!".
٥_ وكان علي يساوي في العطاء فلا يفضل عربيا على مولى ولا سيدا على عبد، ولا رئيسا على مرؤوس. وكان هذا من أوكد الاسباب في نفرة الرؤساء والاشراف منه والتحاقهم بمعاوية. وقد نصحه بعض أصحابه ان يعمل عمل معاوية في التمييز بين الناس في العطاء فقال: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟!".
٦_ وكان علي يساوي في المعاملة بين الناس جميعا. وقد أحاط الموالي به حتى اشتكى بعض انصاره من ذلك فقالوا: "لقد غلبتنا هذه الحمراء عليك". وسار علي في العدل بينهم سيرة من يعلم انه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.
٧_ وأمر علي في أول يوم بويع فيه ان تصادر جميع الاموال التي أخذت من بيت المال بغير حقها، وان تلغى جميع القطائع التي أعطيت لبعض الاثرياء في أيام عثمان. فكان يعتقد ان "المال مادة الشهوات". فالمؤمن اذا اغتنى ضعف رادعه الديني وحفزه الترف الى الاستكبار والطغيان.
٨_ وكتب علي الى أحد عماله يقول له: "اما بعد فاستخلف على عملك وأخرج في طائفة من اصحابك حتى تمر بارض السواد كورة كورة فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم... واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها...". وكان يوصي جباة الخراج ان يرفقوا بالناس ولا يعذبوهم عليه. فالعدل بين الناس أهم في نظره من كثرة الجباية. وكان يقول: "لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متعتع".
ان هذه المبادىء لم تكن جديدة في الاسلام. فجذورها موجودة في تعاليم محمد. ولكنها تجلت في خلافة علي أكثر مما تجلت في حياة النبي لان الدنيا قد تغيرت وكثر فيها المترفون والاثرياء على منوال لم يشهده المجتمع الاسلامي من قبل.
هذه هي ما كان ينادي بها علي بن أبي طالب في العراق، اما معاوية في الشام فكان ينادي بمبادىء مقابلة. ولابد لكل حزب، مهما كان نوعه، ان ينادي بمبادىء خاصة به.
كان معاوية ينادي بما نسميه بـ "الحق الالهي" في الحكم. وهو في الواقع أول من نادى به في الاسلام. فالناس يجب ان يطيعوا حكمه لانه حكم الله المفترضة طاعته على العباد. وكل ما يفعله الحاكم صحيح لانه مستمد من أمر الله العلي العظيم. وقد استغل معاوية بعض الآيات والاحاديث وعاونه عليها جماعة من الكهان.
الملاحظ ان هذه عقيدة كل دين سلطاني. وهي بالأحرى عقيدة الاقوياء المنتصرين في كل زمان ومكان. انهم يستمدون قوتهم من الله في زعمهم. ولو لم يكونوا على حق لما نصرهم الله. ولذا فهم يطلبون من الناس ان يخضعوا لهم. ويشاهد في كل مجتمع تسوده شريعة القوة ان المبارزة هي مقياس الحق بين الافراد. فاذا اعترض أحدهم على قوي من الاقوياء دعاه الى المبارزة أو المصارعة. والناس يقفون متفرجين. فلا يكاد ينتصر أحدهما حتى يصافحه الناس ويعترفون له بالفضيلة.
اما المستضعفون من الناس فلهم عقيدة أخرى، تلك انهم يؤمنون بان القوة لا تصلح مقياسا للحق، وان الباطل ينتصر في معظم الاحيان. والى هذا أشار عمار بن ياسر اثناء معركة صفين حين قال: "اما انهم سيضربوننا بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولون: لو لم يكونوا على حق ما ظهروا علينا. والله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب. والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعرفت أنا على حق وهم على باطل...".
لم يكد معاوية يموت حتى حدثت حادثة هزت المجتمع الاسلامي هزا عنيفا، تلك هي مأساة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي. وهذه الحادثة انتجت آثاراً اجتماعية بالغة، قلما نجد لها مثيلا في التاريخ.
كانت شهادة الحسين تتمة لشهادة أبيه العظيم وقد يصح ان نقول ان مأساة كربلاء اضافت الى مأساة الكوفة لونا جديدا. ولولاها لما أحس الناس بأهمية تلك المبادىء الاجتماعية التي نادى بها علي في حياته. فقد صبغ الحسين مبادىء أبيه بالدم وجعلها تتغلغل في اعماق القلوب تغلغلا عميقا.
صارت مأساة كربلاء بمثابة الصرخة المدوية، حيث أخذ المسلمون يلهجون بها. وقد شعر بنو أمية بالغلطة الكبرى التي تورطوا بها في مقتل الحسين، فحاولوا مداواة الجراح، ولكن محاولتهم جاءت بعد فوات الاوان.
ومن مفارقات التاريخ ان تتخذ الدولة الاموية مقتل عثمان شعارا لها، ثم تأتي المعارضة بعد ذلك فتتخذ من مقتل الحسين شعارا مضادا. وصار التاريخ الاسلامي يتأرجح بين هذين المقتلين زمنا. فكان كل فريق يبالغ في تصوير شعاره وفي اذاعته بين الناس. أحدهما يبكي على عثمان والاخر يبكي على الحسين.
يصح ان نقول ان هذا البكاء المتبادل ليس إلا صورة من صور ذلك النزاع الخالد بين الحاكم والمحكوم.
يجب ان لا ننسى ان الحسين ويزيد يتنازعان الحياة في كل زمان ومكان. فهما رمز التدافع الاجتماعي، ولن يخمد لهذا التدافع أوار.
لقد بعث محمد في العالم تدافعا اجتماعيا حرك الاذهان وأنمى الحضارة. وكان المجتمع الاسلامي في أول أمره كالمرجل يغلي فتنبعث منه الافكار الجديدة والحركة الدافقة. ولكن السلاطين أخمدوا انفاسه وخدروا عقول الناس بالمواعظ الرنانة التي من شأنها تبرير عمل الحاكم ووضع اللوم على المحكوم.
نحمد الله اننا نعيش في عصر جديد، حيث نزلت الدولة من عليائها وازيح عنها ستار "الحق الالهي" المقدس، وأصبحنا ننظر الى الحكام كما ننظر الى الخدام الذين يستأجرهم الناس في رعاية شؤونهم.