تجربة البوصنا جديرة بالدراسة من نواحي متعددة. هذا الشعب المسلم وسط اوربا التي تتأرجح بين مفاهيم الحرية وحقوق الانسان وبين التعصب وعدم تحمل التعايش مع بلد مسلم صغير بينها، بين التساهالتساهل مع الارهاب بحجة الدفاع عن حقوق الاقليات في دول العالم الثالث وبين الوقوف متفرجة على ابادة جماعية في عقر دارها. هناك دروس كثيرة يمكننا ان نتعلمها من تجربة البوصنا ولعل اهمها هو انهم لم يفقدوا صوابهم ولم يردوا فرص السلام بظهر يدهم ولم يسمحوا للمتطرفين والمتاجرين بالاسلام ان ينفذوا الى قضيتهم و لا للشعارات الفارغة ان تطغي على صوت العقل.
عندما كان العالم يتابع بعدم اكتراث لا مثيل له الابادة التي يتعرض لها شعب البوصنا والهرسك، قدم توركت أوزال نصيحة تاريخية الى عزت بيكوفيتش قائلا: " ان توفرت فرصة لتوقيع معاهدة لحل المشكلة لا تتردد في الموافقة. لنوقف اراقة الدماء قبل كل شئ ونكسب تعاطف العالم الى جانبنا ثم نحاول حل الامور الباقية فيما بعد". عزت بيكوفيتش بعدها قال الى الصحفي و المؤرخ عثمان أوزصوي: " إن كنا اليوم نملك دولة فنحن ندين لأوزال كثيرا ".
لست بصد ا تناول القضية الفلسطينية الان فهي اصبحت مثلا للقضايا الميؤوس من حلها ولكن الحقيقة ان رئيس البوصنا اختار السلام الشئ الذي لم يفعله عرفات في عالم ٢٠٠٠ عندما قام الرئيس الاميركي بل كلنتن بترتيب لقاء مع عرفات وايحود براك في كامب ديفد وتم تشكيل ارضية من من وجهات نظر متطابقة بين الطرفين ووسط الامال التي عقدها العالم في تحقيق السلام رفض عرفات الخطة في اللحظة الاخيرة.
جسر الموستار
في اواخر شهر تموز هذا العام كنت اشاهد نقلا حيا لاحتفالات من البوصنا رتبت بمناسبة افتتاح جسر موستار التاريخي بعد إكمال اعمال الترميم، قبل سنوات قليلة مضت اعتدنا سماع اخبار عن الصدامات والقتل الجماعي في البوصنا و كان كل خبر يلقى صدى عميقا من الحزن والاسى لدى الاتراك. لان هذا البلد الصغير المسلم يعتبر وارث الدولة العثمانية في اوربا. ولكن هذه المرة الحدث مختلفا، على الاقل احتفالا وليس احداث مؤسفة.
المعاناة في البوصنا لم تستهدف الناس فقط بل شملت ايضا المباني التاريخية. و جسرالموستار كان رمزا لهذا الهدم و التخريب.
جسر موستار له تسميات اخرى مثل "قوس ـ ـقزح" لانه يشكل هلالا في انحائته وهو يربط ضفتي نهر نريتفا ببعضهما.
يبلغ عرض الحزام الحامل للجسر ٣. ۹٥ مترا وارتفاعه ٧ امتار بدأ انشاؤه في ايام السلطان سليمان القانوني عام ١٥٥٧ واستمرت عملية البناء سبع سنوات من قبل المعمار خير الدين الذي هو تلميذ المعمار سنان. واستعملت في بنائه ٤٥٦ قطعة من الحجر المقطوع.
جسر الموستار بقي يربط البوشناق و الكرواتيين الساكنين على ضفتي النهر طيلة ٤٢٧ عاما. الى اليوم الذي اطلق فيه رجل ميليسا كرواتي نار مدفعيته لينهي هذه الروابط التاريخية.
وبعد سنوات الحرب والتوقيع على اتفاقية دايتون تذكر سكان الضفتين هذا الجسر التاريخي، جسر موستار.
بعد انتهاء الحرب مباشرة، في عام ١۹۹٧ بادرت ١٠ دول من بينها تركيا للبدأ باعمال ترميم الجسر الذي اعتبرته اليونسكو من " الميراث العالمي".
بدأ العمل فريق من الغواصيين الذين غاصوا في مياه نهر نريتفا الهائجة بحثا عن قطع الجسر من الاحجار المتناثرة هنا وهناك في قاع النهر. عثروا على قسم كبير منها والقسم الذي لم يتم العثور عليه من الاحجار قام فريق عمل اخر بقطع احجارا جديدة مماثلة للاصل.
وبعد ٧ سنوات اكملت عملية ترميم الجسر وتم افتتاحه في تموز ٢٠٠٤.
مناورات سياسية قبل البدأ بالترميم
لان البوصنا وسكانها تعتبر من ورثة الدولة العثمانية. فأن اوربا على اهبة الاستعداد والحذر في مواجهة كل ما يجري هنا. كما حدث عند البدأ بمشروع ترميم جسر الموستار. تركيا تبرعت بمليون يورو لسد كلفة الترميم التي بلغت ٤ ملايين يورو، ولكن هذا لم يمنع الاوربيون من ممارسة الضغوط لمنع الشركات التركية من دخول المناقصة. بدأت فرنسا وايطاليا عمل دعائي لمنع الشركات التركية من خوض المناقصات بحجة ان لتركيا روابط تاريخية في المنطقة. ومع هذا دخلت الشركات التركية المناقصات وفازت شركة ER-BU باهم قسم من اعمال الترميم وهو حزام الجسر الحجري واعمال البرج تولتها شركات من البوصنا.
في ٢٣ من تموز تم افتتاح الجسر بحضور الامير جارلس و رؤساء دول بلغاريا، البانيا، كاراداغ، وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوان ينوي الحضور ولكنه الغى سفرته بسبب حادث القطار في تركيا، و حضر اربع وزراء مثلوا الحكومة التركية ووزراء خارجية فرنسا وايطاليا وهولندا.
كانت المراسيم تحمل طابع عثماني حيث حضرته فرق المهتران و السمازان.
كيف حدث ان تكون البوصنا والهرسك دولة مسلمة وسط اوربا المسيحية!
جسر موستار جعلني افكر بتساؤل طالما خطر لي ولم اتوقف عنده و ارجؤه وهو كيف حدث ان تكون البوصنا والهرسك دولة مسلمة وسط اوربا المسيحية!
بالطبع الاجابة تكمن في كتب التاريخ والارشيفات، ولكن هذه لمحة قصيرة من الحكاية:
تسبب الفتح العثماني لاستانبول وانهاء وجود الامبراطورية البيزنطية هيجانا شديدا في اوربا وقاد البابا بي الثاني حملة صليبية جديدة، هذه الحملات المعادية للعالم الاسلامي دفعت السلطان العثماني محمد الفاتح الى اكمال فتوحاته في اوربا التي اوقفها على اثر فتح اسكوب " سكوبيا " وبوصنا التي كانت تدفع الجزية للدولة العثمانية في ١٣۹٢، ولكن تحريض الكنيسة جعل ملك البوصنا ستيفان توماسيفيتش يمتنع عن دفع الجزية للدولة العثمانة في عام ـ ١٤٢۹. وجاء القاؤه للسفيرين المبعوثين من اسطنبول في السجن بمثابة القطرة الاخيرة التي جعلت فتح البوصنا مسألة ضرورية للدولة العثمانية. وفي عام ١٤٦٣ قاد السلطان محمد الفاتح بنفسه حملة فتح البوصنا و اجبر ملك البوصنا ستيفان توماسيفيتش على التراجع اولا الى قلعة يايتسه Yaytse ثم الى قلعة Klyuch ولكنه اضطر الى الاستسلام بعد ان تم فتح القلعتين واعدم بعد ذلك، اسباب اعدامه كانت امتناعه عن دفع الجزية و القائه السفيرين العثمانيين في السجن و كونه كان يحرض المجر وفينيسيا والملك الالباني اسكندر ضد الدولة العثمانية اثناء الحملات الصليبية.
و بعد ضمها للدولة العثمانية منت أوغلو محمد بك كان اول حاكم للبوصنا. اما الهرسك فقد اصبحت ولاية عثمانية في ١٤٧٠. وفي عام ١٨٥٠ اصبحت سراي بوصنا مركز الولاية.
احدث فتح البوصنا الكثير من التغييرات في المنطقة، تراجعت قوة الاقطاعيين المحليين ولم يعد بامكانهم الضغط كثيراعلى المزارعين مما ادى الى تطور الرعي والتعدين وادى الى اصلاح الكثير من الاراضي الزراعية وتطورت في المناطق التي تم فتحها الصناعات التقليدية التركية مثل صناعة الجلود والصياغة وادخل نظام اللونجا! مما ادى الى تطور المنطقة من الناحية التجارية وبادخال نظام التيمار تمكن السكان المحليين من التقدم في المراتب العسكرية والادارية الى درجة الصدر الاعظم (رئيس الوزراء).
تمت السيطرة على الهرسك من قبل الوزير الاعظم محمود باشا وترك الدوق ستيفن كاساريج حاكما عليها بعد اعنلان ولائه للدولة العثمانية. والجدير بالذكر هنا ان "هرسك زادة" احمد باشا الذي وصل الى منصب الوزير الاعظم هو ابن الدوق ستيفن كاساريج ولكن بعد وفاة الدوق ستيفن كاساريج ومحاولة ولديه اقتسام الهرسك تم الغاء الولاية عام ١٤٨٠.
ادخلت الدولة العثمانية الى البوصنا نظام اداري جديد خصصت فيه لكل اداري اراضي معينة وكل قسم اداري يسمى باسم القلعة التي ضمن حدود اراضيه. اسم الاداري يطلق عليه قبطان ووظيفة القبطان المحافظة على حدود اراضيه و تامين سلامة الطرق المارة من اراضيه، تأمين السلاح والذخيرة للقلاع، في زمن السلطان محمد الثاني كان تعداد القوة التابعة للقبطان ٢٤٠٠٠ محارب. وكانت الزعامة في البوصنا تنتقل بالوراثة. وبالرغم من كون البوصنا متطورة في التجارة كانت بشكل خاص متطورة من الناحية الزراعية. القبطان، الاغا و البك كانوا يؤجرون اراضيهم لمن يعمل فيها ويطلق على المؤجر كميت، ويسددون ايجار الارض بشكا مناصفة او الثلث او الربع او الخمس.
عندما فتح السلطان محمد الفاتح البوصنا طبق سياسة الدولة العثمانية القائمة على حرية الدين *، وجاء في الفرمان الذي عممه السطان محمد الفاتح على الرهبان في الدول الاوربية التي تم فتحها ما يلي: **
" انا السلطان محمد خان، ليكن معلوم لجملة العوام والخاصة، في هذا الفرمان الهمايون، اشمل رهبان البوصنا بمزيد عنايتي ولا يمكن لاحد ان يمنع او يزاحم الكنائس ودور العبادة. ولهم ان يبقوا في مملكتي بلا تحفظ و لمن هرب وترك المملكة له الامان في العودة.
يمكنهم ان يأتوا الى كنائس مملكتنا الامنة. وليس لمقامنا العالي ولا لوزرائنا ولا لاحد من تبعتنا و رعايانا و اي من شعب المملكة ان يتعرض لدور العبادة والمتعبدين بالسوء والاذى مادام هؤلاء منقادون لأمري، واقسم اغلظ الايمان بحق خالق الارض والسماء وحق نبينا المصطفى وحق المائة والعشرون الف نبيا وحق السيف الذي اتقلده بأن لا يخالف هذا الفرمان فرد في مملكتي. ليكن هذا معلوما "
وبموجب هذا الفرمان كان المسيحيون من تبعة الدولة العثمانية يمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية بحرية.
ولكن السلطان محمد الفاتح عندما فتح البوصنا حمايته شملت المسيحيون من مذهب بوكوميل Bogomill اضافة الى المسيحين الكاثوليك وفسح لهم المجال بالتقدم في مراتب الدولة الادارية. مسيحيو البوكوميل كانوا يؤمنون بأن عيسى المسيح من عباد الله (ليس ابن الله) ويعترفون بنبوة محمد (ص) مما يجعلهم اقرب الى الديانة الاسلامية. ما اظهره الاتراك من احترام لحرية الدين والمعتقدات بعد فتوحاتهم و ما عاناه البوكوميل بسبب تزمت الكنيسة الكاثوليكية والظلم الذي ذاقوه من الملوك الكاثوليك و ملوك المجر كل هذا حمل البوكوميليين الى اعتناق الدين الاسلامي بشكل جماعي.
وحسب ما جاء في احدى الروايات عندما سأل السلطان اعيان البوكوميل عن مطالبهم اعربوا عن رغبتهم في ان يتولوا مناصب في الدولة وبالفعل كانوا يقومون بوظائفهم في قصور الدولة العثمانية وجيوشها بشرف وأمانة.
لعب البوكوميل دورا بارزا في حروب الدولة العثمانية ضد المجر لقدرتهم المتميزة في القتال و معرفتهم الجيدة بالمجر وبسبب الكراهية التي كانوا يضمرونها تجاه بابا الكنيسة الكاثوليكية. . طيلة ال ٧٠٠ عاما من حكم الدولة العثمانية بقيت البوصنا احدى قلاعها ودافع مسلمو البوشناق عن الحدود الشمالية الغربية للدولة العثمانية لوحدهم بولاء و نكران ذات.
قبول البوشناق للدين الاسلامي وولاؤهم للدولة العثمانية جعلهم يتقدمون في مراتب الدولة وكان منهم القبطان والدفتردار وحتى الصدر الاعظم (رئيس الوزراء) وعند قراءة التاريخ العثماني يمكننا ان نرى بأن هرسك زاده احمد باشا تسلم منصب الصدر الاعظم خمس مرات (١٤۹٧-١٥١٦) و كذلك ثلاث مرات لمنصب الصدر الاعظم ابراهيم باشا (١٥۹٦-١٦٠١)، و صوكوللو محمد باشا بوشناق الاصل، والبوشناق الاخرون الذين تولوا منصب الصدر الاعظم هم: لاله مصطفى باشا (١٥٨٠-١٥٨٠)، مالكوج علي باشا (١٦٠٣-١٦٠٤)، لاله محمد باشا (١٦٠٦-١٦٠٦)، كارا داوود باشا (١٦٢٢-١٦٢٢)،
خسرو باشا، (١٦٢٨-١٦٣١)، توبال رجب باشا ١٦٣٢-١٦٣٢))، صالح باشا (١٦٤٥-١٦٤٧)،
ساري سليمان باشا ١٦٨٥-١٦٨٧))، دامات ملك محمد باشا (١٧۹٢-١٧۹٤(.
في عام ١٧۹٧ تمكنت فرنسا بالاتفاق مع اوستريا من انهاء جمهورية فينيسيا وحولتها الى ولاية تمتد حدودها الى مناطق محاذية لغرب البوصنا مثل كارلوفاك و فيلاج و تيرول (Karlovac, Vilach ve Tirol) في بداية القرن الثامن عشر مثل باقي الامبراطوريات اخذت الامبراطورية العثمانية هي الاخرى نصيبها من التصاعد في المشاعر والحركات القومية. وكانت البلقان بداية لهذا الاتجاه، احتلال فرنسا لسواحل دالماجيا واتحاد الكروات وتشكيلهم لكرواتيا الكبرى، قيام نابليون بتثبيت الطرق بين دالماجيا وبوسنيا وتكوين تشكيلات للاستخبارات في مراكز سراي بوصنا و موستار، وكانت نية نابليون بونابرت من هذه التشكيلات اثارة احداث تمرد ضد الدولة العثمانية في بوصنا و الاستحواذ على البوصنا من داخلها ولكن قادة بوصنا واعيانهم حالوا دون تحقيق بونابرت لهدفه هذا واستمروا في الدفاع عن الحدود الشمالية الغربية للامبراطورية العثمانية.
* كتاب عثمان اركين: " تاريخ المدن في تركيا "
** اصل الفرمان باللغة العثمانية، حاولت ترجمته قدر المستطاع لان اللغة التركية الحديثة تختلف بعض الشئ عن اللغة المستعملة في الزمن العثماني
"Ben ki Sultân Mehmed Hanım. Cümle avâm ve havâssa ma‘lûm ola ki, işbu dârendegân-ı fermân-ı hümâyûn Bosna ruhbânlarına mezîd-i inâyetim zuhûra gelüp buyurdum ki, mezbûrlara ve kiliselerine kimse mâni‘ ve müzâhim olmayıp ihtiyâtsız memleketimde duralar. Ve kaçup gidenler dahi emn ü emânda olalar.
Gelip bizim hâssa memleketimizde havfsiz sâkin olup kiliselerine mütemekkin olalar. Ve yüce hazretimden ve vezîrlerimden ve kullarımdan ve reâyalarımdan ve cemi‘-i memleketim halkından kimse mezbûrelere dahl ve ta‘arrûz edip incitmeyeler, kendülere ve cânlarına ve mâllarına ve kiliselerine ve dahi yabandan hâssa memleketimize âdem gelirler ise yemin-i mugallaza ederim ki yeri, göğü yaratan Perverdigâr hakkıçün ve Mushaf hakkıçün ulu Peygamberimiz hakkıçün ve yüz yirmi dört bin peygamberler hakkıçün ve kuşandığım kılıç hakkıçün bu yazılanlara hiç bir fert muhâlefet etmeye. Mâdâm ki bunlar benim emrime mutî‘ u münkâd olalar. Şöyle bilesiz"