في (الشرقية) يمتد الفرات كصفحة بيضاء ، رائقة، هادئة، ينساب بحنان. وثمة قارب يقوده صياد جنوبي جذلان. بينما تنطلق (أبوذية) داخل حسن بصوته الشجي الذي يهدم ببحته الآسرة في نفوس مستمعيه كل حدود التعصب القومي والمذهبي الذي يريده البعض حدودا للعراق. ليؤكد وبشكل تعجز عنه الخطابات السياسية الضيقة والمؤامرات الدنيئة التي يحوكها سماسرة السياسة والانفصال والعمالة، أن حب العراق حب (جواني) لا براء منه.
يجتاح صوت داخل حسن الموانع ليستقر في النقطة الدافئة الصادقة في قلب كل عراقي مخلص، لينسف التصنيف الضيق من تلك القلوب: عربي، كردي، تركماني، آشوري، يزيدي، صبي. . وتبرز فيها الشعور الفياض بالانتماء الحقيقي إلى تربة العراق ونخيله ونهرييه الخالدين. معلنا عن كينونته بصوت عال: عراقي. . عراقي أولا وثانيا وثالثا. . عراقي حتى النخاع.
دعوا قلوبنا تأتلف مع الجمال، مع الأبوذيات، مع المقام، مع بحة زهورة حسين والأغاني البغدادية الجميلة لرضا علي ويحيى حمدي ومائدة نزهت وعفيفة اسكندر ويوسف عمر. . حتى لا نخجل أمام أبنائنا من النظر إلى قامات نخيلنا وهامات جبالنا. ومياه دجلة والفرات التي تنساب بسخاء وسلام وسكينة منذ الخليقة بأمن وسلام على أرض الرافدين.
هل يستطيع قلب لا ينبض إلا بالحب والحنين، قلب كل من ذاق مرارة الغربة والشوق الملتاع لكل شبر من الوطن من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. . أن لا ينبض ويلتاع حسرة، وهو يقرأ للسياب العظيم؟
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
- حتى الظلام - هناك أجمل فهو يحتضن العراق
(غريب على الخليج)
هل تقف آدمية الإنسان العراقي، عروبته وكرديته وتركمانيته وتشيعه أو تسننه أن لا يتفاعل مع هذه المشاعر الوطنية الفياضة، وأن يقف صامتا كصخرة لا حياة فيها أمام معاناة الوطن ونزيفه؟
لو ترك الساسة وأصحاب الدكاكين السياسية المرتبطة بالأجنبي للأغنية جناحيها، وللشعر تدفقه ودفئه وصدقه، لما علا في العراق صوت المصالح والمنافع الضيقة والاستحقاقات غير الوطنية، على صوت القلب وصوت الصدق وصوت المشاعر الوطنية المتدفقة، وصوت الوطن والانتماء إليه.
لو تحقق ذلك لما تجرأ صوت واحد بعد زوال صدام المقبور الذي أرغم الملايين أن يرددوا حوله الهتاف المقيت:
((بالروح بالدم نفديك يا صدام)). . أن يعيد الحياة لهذا الهتاف البغيض وكأنه قدر للعراقيين. فالبعض لا يزال يصر على ترديده بتغيير اسم الطاغية باسم آخر، ليعيش هذا الشعار في عهد الخراب والدمار والفوضى والمحاصصة والمنافع الشخصية والابتزاز:
ـ بالروح بالدم نفديك يا مقتدى!
ـ بالروح بالدم نفديك يا برزاني!
ـ بالروح بالدم نفديك ياسيستاني!
بالروح بالدم نفديك يا طالباني!
ـ بالروح بالدم نفديك يا بريمر!
منح الله عز وجل هذه الأرواح لنا، وملأ شراييننا بالدماء لنعيش سنواتنا كبشر تحت أفياء النخيل، وفي ظلال جبال العراق نرتع من مياه دجلة والفرات التي تربط الشمال بالجنوب برباط هو أقوى من كل المزاعم وأكثر صدقا من كل الشعارات السياسية. دون أن ينتهك البعض حقوق الآخر ودون أن نحول حياتنا القصيرة على هذه الأرض إلى جحيم تحت شتى الذرائع السياسية. . ودون أن نفدي أي زعيم سياسي بدمائنا وأرواحنا مهما كانت هوية هذا الزعيم. . بل على الزعيم أن يبذل كل ما في وسعه من اجل خدمة الوطن لينعم أبناءه بالسلام والاطمئنان والآمان. . ليكون جديرا بثقة الشعب وجديرا بالفوز في الانتخابات (فيما لو تم تحقيق الديمقراطية في العراق). حيث سيكون التصويت هو الفيصل لاختيار هذا الحزب أو ذاك دون، أن نفدي زعيمه بالروح وبالدم. . وهو جاثم على رقابنا لعقود، يكثر فيها رصيده في المصارف الأجنبية.
لا ليس من واجبنا كعراقيين أن نفدي بالدماء والأرواح كائنا من كان. بل الواجب على الزعيم أن يكون جديرا بثقة الجماهير به، بالنزول إلى الشارع وتضميد جراح الوطن، وقطع دابر التعصب المذهبي والأثني البغيض وإطفاء لهيب الطائفية، قبل أن يتحول إلى حريق مدمر . .
بدلا من أن الجلوس في برجه العاجي متطلعا بابتسامة صفراء إلى الجموع التي تحاول أن تفتديه بالروح وبالدم كخرفان أو قرابين متطوعة للموت في سبيله.
هل يمكن للخطاب السياسي لمائة وثمانون حزبا عراقيا متواجد على الساحة السياسية الآن (كما يقال) أن يحقق في النفوس لهب مرحلة الحب والانتماء الذي كان يحققه ذلك النشيد القديم ـ الجديد، الذي رددناه جميعا في مدارسنا في زمن ما بشكل أو بآخر؟
موطني. . . موطني
الجلال والبهاء والسناء والبهاء في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك
هل أراك سالما منعما وغانما مكرما
موطني. . موطني