لا تزال ذاكرة المثقفين تتذكر ما حل بالمفكر الفرنسي روجيه غارودي بعد نشر كتابه (الأساطير المؤسسة للسياسية الإسرائيلية) عام ١٩٩٦، والتي ترجمت إلى عشرين لغة خلال شهر واحد، والتي شكك فيه بالعرض والدراسة والتحليل بالأساطير التي تأسست عليها الدولة العبرية ومنها ابادة هتلر لستة ملايين يهودي في غرف الغاز (الهولوكوست).
لم يواجه غارودي الاعتراض والاستنكار والتنديد من قبل المنظمات الإسرائيلية والصهيونية فحسب، بل واجه حملة تنديد واسعة في بلده فرنسا، بلد الحرية والنور والثقافة والديمقراطية. ففي فرنسا التي لا تفرض أية عقوبات على الأفكار التي تشكك بالمسيحية والسيد المسيح وعلى الأفكار الإلحادية، ثمة قانون اسمه (قانون فابيوس ـ جيسو) يقضي بالسجن لمدة عام وبغرامة مقدارها ٣٠٠ ألف فرنك (قبل استعمال اليورو) ضد كل من يشكك في الادعاءات الصهيونية حول غرف الغاز النازية (الهولوكوست)!
بل أن صاحب مكتبة (الديوان) في مدينة جنيف السويسرية تعرض إلى المحاكمة بتهمة عرضه نسخة من كتاب روجيه غارودي (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) في مكتبته!
كما أن الإخوة الأكراد بدورهم، يحرصون من خلال منظمات ومراكز في الداخل والخارج على إحياء ذكرى مجزرة حلبجة كل عام، وهم لا يتوانون من توجيه شتى اتهامات العمالة ونعوت الخيانة، ضد كل من يطرح رأيا مخالفا لطروحاتهم الرسمية حول موضوع حلبجة.
أما الدمعة التي يذرفها كل تركماني في ذكرى مجزرة كركوك في ١٤ تموز ١٩٥٩، فإنها تثير قلق البعض كل عام، وتخلق لهم حالة من الأرق والتشنج.
هذا البعض يحاول جاهدا حتى بعد مرور ٤٥ عاما على أبشع مجزرة تعرض لها شعبنا، القول أن التركمان يبالغون في الأمر وان عليهم نسيان الماضي. بل تبلغ الوقاحة ببعضهم إلى محاولة تبييض صفحة المجرمين الذين تم إعدامهم على أساس أن ما حدث كانت نتيجة مؤامرة شارك فيها عملاء بريطانيا في شركة النفط، محاولين إلصاق التهمة بعدو وهمي، دبر مجزرة كركوك ثم اختفى بقدرة قادر عن مسرح الجريمة دون أن يقبض على واحد من أفراد هذه الجريمة المنظمة!! متجاهلين عن عمد بأنه تم القبض على القتلة زمن عبدالكريم قاسم، وأعدموا فيما بعد. رغم هذه الحقيقة الدامغة، فالمجرمون في نظر هؤلاء أبرياء براءة الذئب من دم ابن يعقوب!
هؤلاء لا يخدعون إلا أنفسهم، فكل من عاش في كركوك في تلك الفترة المظلمة هو شاهد إثبات يعرف عن كثب الضحية والجلاد. وهم يتناسون أيضا أن المجزرة قد صورت وهناك فيلم وثائقي يبلغ مدته حوالي نصف ساعة ناطق ببشاعة بهذه الأحداث الدامية يظهر المجرمون ويظهر الضحايا وهم يخرجون من بيوتهم تحت تهديد المسلحين أو يسحلون في الشوارع، عرض هذا الفيلم الوثائقي في السينمات بكركوك عام ١٩٥٩ (شاهدته شخصيا في سينما العلمين).
ويبقى العثور على هذه الوثيقة المصورة التي أعدتها وزارة الدفاع (كما أظن) والاحتفاظ بها في الأرشيف كشاهد حي لفترة مظلمة، يؤرخ أبشع فترة سياسية مر بها التركمان في العراق، من مهمة الجهات الإعلامية التركمانية.
التركمان لا يملكون سطوة كسطوة الإسرائيليين، ولا سطوة الإخوة الأكراد المالية والإعلامية والسياسية للنيل من المتشككين في جريمة ابادة لها أكثر من ألف شاهد. فهم لا يملكون إلا دموعا سخية تنحدر من المآقي وفاءا واستذكارا للذكرى العطرة لشهدائهم الأبرار.
لكن حتى هذه الدموع، تزعج وتثير البعض وتقلقهم وتؤرق مضجعهم رغم مرور ٤٥ عاما على المأساة التي عايشنا أحداثها الدامية صغارا وكبارا.
ومثلما لا يمكن لليهود أن ينسوا (الهولوكوست)، وللأخوة الأكراد أن ينسوا (حلبجة)، فان للتركمان الحق في الاحتفاظ بذكرى(مجزرة كركوك) البشعة في الرفوف العالية من ذاكرتهم وذاكرة أجيالهم المقبلة.