من ذاكرة الأمهات والحكائيين التركمان إلى القصة التركمانية المعاصرة
حملت الأمهات التركمانيات والحكائيين التركمان إلى الذاكرة التركمانية، العديد من القصص والحكايات والأساطير، انتقلت مع الزمن من ذاكرة السلف إلى ذاكرة الخلف في فترات زمنية مختلفة. ويمكن تصنيف تلك الحكايات والقصص كما يلي:
١ـ الحكايات التاريخية: وتدور هذا النمط من الحكايات حول حادث تاريخي معين مثل: فتح استانبول على يد السلطان محمد الفاتح أو حول انتصار صلاح الدين الأيوبي على الصليبين أو وصايا جنكيز خان لأولاده بالتعاون والتآزر إضافة إلى قصص أخرى عن بطولات القادة المسلمين، ويهدف هذا النمط من الحكايات إلى تعزيز مسؤولية الأبناء تجاه أسلافهم وأوطانهم.
٢ ـ قصص الحب والعشق: وتدور هذه القصص حول محور الحب والعشق التي تصور غالبا مكابدات العاشق للفوز بوصال الحبيبة. وأشهر هذه القصص على الإطلاق ملحمة (ارزو وقنبر) التي تمثل علامة مضيئة في تأريخ الأدب الشفاهي التركماني في العراق، وتحتل مكانة متميزة بين الحكايات الشعبية الأخرى. كما أن هذه الملحمة القصصية الخالدة تعتبر مصدرا مهما من مصادر القصة التركمانية والتي نشأ في أفيائها الرحيبة الأجيال التركمانية على مر العصور و القرون. وقد ساهم البحاثة التركماني المعروف الأستاذ عطا ترزي باشي في حفظ هذه الدرة الأدبية من الضياع والنسيان، بعد أن عاشت قرون طويلة في ذاكرة الأمهات التركمانيات بطبعها في كتاب محافظا على نصها الأصلي التراثي كما سمعها تروى على لسان إحدى تلك الأمهات وذلك في سنة ١٩٦٤
. و لا ينحصر ثراء التراث القصصي التركماني بهذه الملحمة بل أن سلسلة من الحكايات الشعبية مثل: (كرم واصلي)، (طاهر وزهرة)وملحمة (كور أوغلو) تعكس نظرة التركمان إلى الحب، وتعرفنا بأحوالهم وأنماط حياتهم وتفكيرهم في فترات مختلفة من التاريخ.
٣ـ القصص الدينية: وهي قصص مقتبسة من القرآن الكريم مثل قصة سيدنا يوسف(ع) وقصص عن صبر أيوب وقصص زكريا وسليمان.
٤ـ القصص التعليمية: وهي قصص ذات أهداف تعليمية وأخلاقية في آن واحد مثل قصة (الصياد والعصفور) وبعض نوادر (ملا نصرالدين) وقصص عن الطنطل (قايش بالدر) وعن طائر العنقاء (زمر عنقا) الذي يمثل الخير ويقابل الجميل بالجميل.
وبإيجاز شديد تمتاز القصص الشعبية التركمانية بالمزايا التالية:
ـ قصص الحيوان: في العديد من الحكايات الشعبية يقوم الحيوان بالدور الرئيسي، ويقوم ما يقوم به الإنسان. وهنالك حيوانات ترمز إلى الشر مثل الثعبان والوحش والمارد. فالوحش يتسلط على المدينة ويحجز المياه عنها حتى تقدم له ضحية كل يوم. ويتغير دور الثعبان حسب لونه فإذا كان لونه أبيض فهو يمثل الخير أما الحصان فهو دائما الصديق الوفي للبطل في الملمات والمحن. وتساهم القوى الخارقة الهزيمة بالحيوانات، وتكون النتيجة الطبيعية لذلك وضع التبن أمام الأسد، واللحم أمام الحصان، ويظهر البطل لتصحيح هذا الوضع، ويحفظ الأسد بطبيعة الحال الحصان والأسد هذا الجميل للبطل بإنقاذه في المصاعب التي يتعرض لها.
العناصر الأساسية في الحكايات الشعبية التركمانية:
يمكن تحديد العناصر والخواص التالية للحكايات الشعبية التركمانية لها سواء كانت حكايات تاريخية أو حكايات عاطفية أو حكايات أسطورية أو دينية أو تعليمية:
١ ـ الاهتمام بتتابع الحوادث. بحيث لا تعطى نفس الأهمية للتعبير عن عواطف البطل الذي يتم الاهتمام بها من خلال الأحداث التي يتعرض لها. حيث تتداخل الأحداث، وتكون هناك سلسلة من الحوادث داخل الحكاية الواحدة. . فالبطل مهم بما يقوم به من حوادث تؤدي باستمرار إلى تغيير دائم في أساسيات ومسار الحكاية التي غالبا ما تنتهي رغم المصاعب والأهوال بالنهاية السعيدة. وقد تكون الحوادث متداخلة أو تتألف القصة من حوادث متعددة. وفي الحكايات التركمانية البطل الذي يمثل الخير عموما هو دائما مثال للشهامة والبطولة، والشرير دائما قبيح الهيئة والمنظر.
٢ ـ إثراء الحكايات بالحوادث الغامضة والمفاجآت غير المتوقعة والمعجزات والخوارق لشد اهتمام السامع إليها.
٣ ـ البساطة في السرد. فالشخصيات عادية، والحوادث واضحة، والأسلوب واضح ومفهوم
٤ ـ المعجزات: ترتبط المعجزات في الحكايات التركمانية بالجان والسحر على غرار حكايات الأمم الأخرى.
القصة التركمانية المعاصرة
تمتلك القصة التركمانية في تراثها الثقافي الثر عراقة الفن القصصي و أصالته فحكايات (ده ده قورقوت) التي يعود تاريخها الى القرن الخامس عشر تحتوي على المغامرات الأسطورية عن بطولات التركمان وحروبهم وفروسيتهم كما تتضمن هذه القصص حياتهم البدائية التي محورها الحروب ونزاع سلاطينهم إلى الحكم والسلطة، وتتألف هذه الملحمة من ١٢ حكاية. ويقال أن ده ده قورقوت عاش في حياة الرسول (ص)، بينما يذكر البروفيسور يبنيازار أنه عاش في القرن الخامس أو الرابع عشر. ورغم أن قصص الملحمة لا تحدد مكانا وزمانا معينين إلا أن هذه القصص التي كتبت باللغة التركمانية تكشف معلومات هامة عن الحياة الاقتصادية والسياسية للتركمان الأوغوز (الغز) ومعتقداتهم الدينية وحياتهم الاجتماعية، والملاحم البطولية لقبيلة الغز (الأوغوز) التركمانية إضافة إلى حكايات (بطال غازي). كما يمكن اعتبار نوادر (ملا نصرالدين ـ جحا التركي) في الكثير من جوانبها بداية لأصول القصة التركمانية لاحتوائها على العناصر التقليدية للقصة كالأحدوثة و العقدة والحل. كما يجب إن لا يغيب عن اهتمام المهتمين بشؤون القصة، أن ظلت القصة بعيدة عن تلك الاهتمامات الأدباء التركمان بسبب طغيان الشعر على الحياة الأدبية. لذلك لم تتجه جهود الأدباء للاستفادة من تراثهم القصصي و تطوير أساليبها و تقنيتها فترة طويلة من الزمن. ويمكن اعتبار القصص التي نشرت بجريدتي (معارف) و (ايلري) اللتين كانتا تصدران في كركوك باللغة التركمانية في الربع الأول من القرن العشرين نموذجا لبدايات القصة التركمانية. و يمكن اعتبار الأديب فهمي عرب الذي نشر بعض نتاجاته القصصية في تلك الصحيفتين رائدا للقصة التركمانية. ولابد من الإشارة أن قصة (بحري مرمره ده مبارزه يي عشق ـ مبارزة للحب في بحر مرمرة) لمحمود نديم كركوكلي و التي طبعت بمطبعة الآداب في بغداد عام ١٩٠٩ يعتبر أول نص تركماني مطبوع، وهي قصة حب تنتهي بالانتحار بسبب رفض والد الفتاة زواج الحبيبين. كما أن الصحف الصادرة في تلك الفترة لم تخلو من النصوص القصصية على ندرتها. فقد نشرت صحيفة (معارف) في ١٩١٣ قصة (كوزلوك ـ النظارة) للكاتبة لبيبة كركوكلي. كما نشرت صحيفة (نجمة) في عددين متتاليين قصة (بلكي كلير ـ ربما يأتي) لميم رفيق، وقصة (خاير كلمزـ لا لن يأتي).
على الرغم من صدور جريدة (الآفاق) في ١٩٥٤ و جريدة (كركوك) ١٩٢٦ ـ ١٩٧٢، وجريدة (بشير) في ١٩٥٨ إلا أن القصة التركمانية لم تعش صحوتها الحقيقية إلا بصدور مجلة (قارداشلق ـ الإخاء) في بغداد ١٩٦١.
ساهمت مجلة (الإخاء) في ظهور عدد من لا بأس به من الكتاب اكتفوا بنشر نصوص قصصية دون أن يفكروا بجمعها في كتاب لانعدام دور النشر المتخصصة، وضعف الإمكانيات المادية. وقد برزت على صفحات (الإخاء) نصوص محمد خورشيد داقوقلي، رشيد كاظم الذي يعتبر أول من بدأ بمشروع كتابة عمل روائي (عدالة الرب) إلا انه لم يكمل مشروعه الروائي الهام. كما نشر الدكتور عثمان شنكول عددا لاباس به من القصص في ١٩٦٣ـ ١٩٧٧. و مادمنا بصدد الحديث عن القصة التركمانية لا يفوتنا التنويه بأن علي معروف اوغلو هو أول قاص تركماني طبع مجموعته القصصية (اولايلار قونوشيور ـ حوادث ناطقة) في ١٩٦٣ والتي ضمت سبع قصص امتازت بسلاسة الأسلوب و تطور التقنية القصصية، وعلى الرغم من إعلان الكاتب أن الجزء الثاني من كتابه سيصدر تحت عنوان (وحوش المدينة) عن مجزرة كركوك. ورغم نشره سبع صفحات منها إلا انه لم ينفذ مشروعه. وقد ذكر بعد سنوات طويلة في رسالة خاصة بعث بها في رسالة خاصة بعثها إلى القاص و الشاعر محمد عمر قازانجي، ان السبب يعود إلى قلة عدد المهتمين بالقصة أحال دون اكمال مشروعه الروائي.
كما ساهمت مجلة (الإخاء) إلى ظهور موهبة قصصية مهمة كان من الممكن أن تحتل مكانة مرموقة في عالم القصة إلا إنها آلت إلى الصمت فيما بعد و أعني بها القاص صباح حسن نجم حيث توقف عن الكتابة بعد أن نشر ثمانية نصوص قصصية، امتازت بجدة موضوعاتها و أسلوبها المتميز. و هي كفيلة بوضعه في عداد كتاب القصة المتميزين.
كما تتطلب الموضوعية منا الإشارة إلى جهود القاص مولود طه قاياجي و نصوصه المنشورة في مجلة (الإخاء) و التي جمعها فيما بعد في كتابه المخطوط (سيلك جهره لرـ وجوه شاحبة) لم يتمكن من طبعه حتى الآن. كما تميز قصص موسى زكي مصطفى باسلوبه القصصي المشوق.
مرت القصة التركمانية بفترة ركود بعد توقف اغلب الكتاب المنوه عنهم أعلاه عن نشر نصوصهم القصصية استمرت حتى عام ١٩٨٠ حيث تبعت هذه الفترة صحوة حقيقية تجلت في زيادة عدد القصص المنشورة كما و نوعا في جريدة (يورد ـ الوطن) الأسبوعية فظهر جيل قصصي جديد يعي أهمية القصة، و يتمكن من التعامل مها اسلوبا و تقنية و موضوعا
أن القصة التركمانية تعتبر بما بلغته من مستوى يدعو إلى التفاؤل. وهي تعمل رغم كل المصاعب للوصول إلى النقطة المضيئة التي بلغتها القصة المعاصرة عامة.
إن كتاب القصة التركمانية قحطان الهرمزي، صبحية خليل زكي، مولود طه قاياجي، حمزة حمامجي اوغلو، عصمت ئوزجان، نصرت مردان، يشار كمال بياتلي، محمد عمر قازانجي، كمال سليمان بياتلي، متين عبدالله كركوكلي، جلال بولات، سلمىابلا، صالح جاووش اوغلو وغيرهم يؤسسون اليوم بكل عزيمة صرح القصة التركمانية المعاصرة في العراق.
القصة التركمانية اليوم تسابق الزمن و تختصر المسافات بينها و بين قصص الأمم الأخرى
لتكون جديرة بالانتماء إلى ثقافتها المعاصرة، وجديرة بحمل هويتها الوطنية.