كما هو معروف وجهت الحكومة التركية تحذيرا شديد اللهجة إلى نيجرفان البرزاني ، عند زيارته لأنقرة في الأسبوع الماضي . مفاده " انكم تلعبون بالنار . نحن نتابع عن كثب محاولاتكم بتكريد مدينة كركوك " . ويبدو ان التحذير لم يرق لعمه مسعود البرزاني فكان أن صرح لوكالة AFP الفرنسية حاول فيه ان يرد الصاع صاعين للجهات التركية بقوله:
" أن الأكراد مستعدين لخوض حرب للمحافظة على هوية كركوك الكردية " .
وهذا في الحسابات المنطقية يعني ، ان البرزاني حتى هذه اللحظة يؤمن قبل غيره ، ان كركوك على الرغم من ترحيل مئات الألوف من الأكراد إليها ، ومن ضمنهم أكراد تركيا وإيران ، غير مؤمن بجدوى الإحصاء السكاني في تغيير الطابع الديموغرافي لمدينة كركوك لصالح طروحاته . ويرى خيار الحرب أفضل وسيلة لاحتلال المدينة وفرض الهوية الكردية عليها عن طريق القوة .
غريب ما يفعله البرزاني وما يخطط له . يهدد بإعلان الحرب وكأن كركوك مدينة في دولة أجنبية ، يريد ضمها الى مملكته ! .. يهدد بالحرب وكأن الحرب هي كل ما يحتاجه العراق من أجل إشاعة الأمن والاستقرار فيها .
غريب أن يفكر البرزاني بشن حرب ضروس على كركوك لاحتلالها ، وكأن كل مظاهر تكريد هذه المدينة لم يعد كافيا . ولو كان البرزاني والطالباني يؤمنان حقا بما يناديان به ، من كردية أو كردستانية كركوك ، فلماذا يرغمان مئات الألوف من الأكراد بشتى الوعود للتوجه الى كركوك لتغيير طابعها السكاني المعروف لدى كل العراقيين تاريخيا ؟
بشهادة المسؤولين الأمريكيين في المنطقة فهناك ١٦٧ ألف مهاجر كردي يعيشون في الخيام بشمال العراق . يشكل الأكراد ١٥٣ ألفا منهم الأكراد ، ٧٧ ألف منهم في كركوك .
الذي يعرف الأحياء الكردية في كركوك ومجموع البيوت فيها ، سيرى أن هذا الرقم مبالغ فيه . نقول أهلا بالمرحلين الأكراد عن كركوك في مدينتهم ، أما الذي اقبلوا للحصول على مغانم ( عمل ، قطعة أرض ، ثلاثة آلاف دولار ) فيجب أن يعودوا من حيث أتوا ، وهذا واجب الجهات التي ستشرف على الإحصاء السكاني .
يؤيد ما ذهبنا إليه ، التصريح الذي أدلى به قائد قوات مشاة الفرقة الأولى الأمريكية الجنرال جون باتيست، والذي قال :
" الطالباني والبرزاني نظما عملية ترحيل الأكراد الى كركوك قبل عملية الإحصاء السكاني والانتخابات العامة التي ستجري في بداية عام ٢٠٠٥ . أن مثل هذه التحركات حولت المنطقة الى برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة ." وأعطى باتيست مثالا على ذلك بقوله :
" ان كل من التقينا بهم في منطقة الحويجة ( ٧۰ كم عن كركوك ) ذكروا ان الحرب الأهلية واقعة لا محال إذا أصر الأكراد على إتباع هذا النهج في تكريد المنطقة عن طريق الترهيب والترغيب "
كما كتبت الصحافية نرمين المفتي في جريدة ( الأهرام ويكلي ) عن انطباعاتها بعد زيارة كركوك فذكرت ان من يسمون بالمرحلين الأكراد يقيمون في ملاعب كرة القدم والمخيمات الكشفية وكل قطعة أرض فارغة .
وتبدي الصحفية استغرابها من ظاهرة تعليق صور عبدالله اوجلان في مدينة كركوك التركمانية ، ثم تضيف:
" لعل ذلك بمثابة رسالة تحريضية للحكومة التركية على أثر زيارة الوفد التركي ، الذي زار المدينة قبل فترة .,." وتنهي الكاتبة مقالها بالقول:
" الأكراد يعملون بصورة منظمة على تغيير الطابع السكاني للمدينة لصالحهم ، ليصار بعد ذلك بالقول الى أن " الأغلبية الكردية في المدينة ترغب في الانضمام الى كردستان .."
لم تنحصر مباحثات نيجرفان البرزاني في أنقرة بموضوع كركوك فقط ، بل كان ثمة موضوع آخر له أهمية بالغة لإدارة البرزاني ، ألا وهو فتح نقطة حدود ثانية مع العراق الى جانب خط ابراهيم خليل الحالي الذي يسيطر عليه البرزاني ،والذي در ويدر أموالا طائلة عليه منذ سنوات .
نقطة الحدود الثانية ، ليست وليدة اليوم بل أنها كانت موضوع مباحثات بين الحكومتين التركية والعراقية، منذ عهد نظام صدام البائد ، وقد وقفت أمريكا حجرة عثرة أمام فتح هذه النقطة الحدودية . كما هو منتظر ، طلب نيجرفان من الحكومة التركية تطوير إمكانيات خط الحدود الذي يسيطرون عليه بدلا من فتح الخط الثاني الذي سيمر من الموصل ومنها الى تلعفر .
المعروف ان تلعفر هي المنطقة الوحيدة في شمال الوطن ليس فيها وجود للبرزاني أو الطالباني ، بعد
رفض أهل تلعفر وبشدة أي وجود لهما في مدينتهم ، لم يسمحوا للقوات الكردية بالدخول اليها ، عقب دخول القوات الكردية الى مدينتي كركوك والموصل مع القوات الأمريكية ، دون إطلاق طلقة واحدة بسبب انسحاب القوات العراقية منها .
الغريب في الموضوع هو قيام القوات الأمريكية بقصف تلعفر منذ أيام ، وحصارها نتيجة لادعاء القيادتين الكرديتين بوجود عناصر مسلحة فيها تابعة لمقتدى الصدر .
المكافأة الممنوحة لكل كردي يتوجه الى كركوك ضمن حملة تكريدها ، هي أكثر بكثير من مكافأة تعريبها في زمن النظام البائد . فقد كان صدام المقبور يدفع عشرة ألاف دينار عراقي مع قطعة أرض لكل من يقدم الى كركوك للسكن والإقامة فيها. أما الطالباني والبرزاني فالحق يقال انهما أكثر كرما من صدام ، حيث يدفعان لكل وافد كردي 3 الآف دولار مع تخصيص قطعة ارض ومواد بناء له ، وتوزيع أراض حكومية أو خاصة لهم لا فرق ، فليس ثمة قوة في العراق تستطيع ان تسألهم الحساب !
رغم كل هذه العمليات التي تهدف الى تغيير الطابع السكاني ، أليس غريبا ان يلجأ البرزاني لتبشير العراقيين بحرب جديدة ، وكأن العراقيين لم يشبعوا من حمامات الدم وعمليات القتل اليومية والحروب التي أكلت الأخضر واليابس على مر العقود !
كنا نتمنى ان نرى يد كاك مسعود ممدودة للتركمان كدلالة على الود والمحبة ، لا أن يرفع قبضته في وجوهم مهددا باحتلال مدينتهم ، وكأنها مدينة في دولة أخرى . كنت نتمنى أن نسمعه ، وهو يؤكد على عمق أواصر التآخي والجوار والمصاهرة بين التركمان والأكراد في اربيل وكركوك وديالى وغيرها من المدن العراقية لا أن نسمعه يهدد ويتوعد كل من يقف في طريق تكريد الشمال .
لقد أحرج البرزاني بتصريحاته النارية ، أصدقاءه ومحبيه الذين جاملوه وجاملوا حزبه كثيرا ، معتبرين إياه بأنه صوت العقل والمنطق والسلام ، فإذا به يخيب ظنهم جميعا ، ويتركهم في مطب كيفية الدفاع عن الحرب التي يبشر بها ، في الوقت الذي ألغى فيه العراقيون مفردة الحرب من ذاكرتهم الى الأبد ! ..
وكما كان مصير جماعة العشرة الآف دينار التي كانت تعيش منبوذة في كركوك في العهد البائد ، فنفس المصير سيلحق بجماعة الثلاثة الآف دولار أن عاجلا أو آجلا .