المكان الأول
سيرة مقتضبة
"مجتزأ من نص طويل بنفس العنوان "المكان الأول
برلين / أب / ٢٠٠٣
عندما يأخذني أحدٌ الى مكاني الأول، أو آخذ نفسي إليه، أبدأ في كل مرةٍ بتفحص عواطفي وتحريك ذهني لإيجاد الصلة بيني وبين تلك البلاد. أتساءل عن سر هذا الإمتداد في الزمن الذي يوصلني، حتى الآن، ببقعة من الأرض وقد ابتعدت عنها عقوداً ونأيت ماكثا في هذه المدينة أو تلك المدينة؛ في أماكن أُخرى بعيدا عن مكاني الأول.
المكان الأول، عندما أبحر فيه، تتحول المعالم والصور والأشياء والناس الى عناصر سحرية، كما يحصل في الكيمياء، فتتخذ تلك مدلولات وصيغاً عاطفية وفكرية تؤثر في ذهني وتدفعني الى استنتاجات متضاربة. أمتلكها مرة وتمتلكني مرة. أقبل بها لأراها عبر المسافة، كما لو أنها تغطيني بطبقة من حشيش. وأحيانا أرى تلك الأزمان بنظرة أخلاقية، أو من خلال امتثال أيديولوجي، لتلح عليَّ أن أرى وفق منظورها فأحدد بها موقفي من الزمان فأبصر بذلك مكاني الأول مجرداً مني وأنا خارج عنه. وأعني بذلك أن أسيّر لها عاطفة محدودة مسماة: أن أحب أو أن اكره ذلك المكان.
أن انتقد المكان، هو أن استخلص من حياة متكاملة مشوبة بالتفاعل جزءأ منها، وهذا موقف يحط من شأن المكان. وهو كذلك تناقض يبعث الإرتباك في النفس. لكنه ايضا ـ هذا الإرتباك ـ وشيجة الإرتباط بالمكان الأول، يحاول دائما أن يستنفذ كنهه. يتلون في كل مرة تعود بنا الذاكرة إليه، أو يعود لنا. يبزغ قوس قزح من أفق الماضي ليحنو على المرء الذي يمسك زمنه ومكانه الأول في قلبه الذي ينبض ويفيض به.
(١)
قضيت ما يزيد على أربعة عقود من الزمن بعيدا عن مكاني الأول " كركوك "، وأكثر من ثلاثة عقود عن بغداد، ولكن البلاد ما زالت تمثل عندي إشكالية لم تنته الى الحل . بينما تفاعلتُ بقدر المدة تلك مع مدن وبلدان أخرى برجاحة عقل وفطنة وبجدل وبوعي فدخلت كما أظن الى أعماقها. فَعَلت بي وغيَّرتني وملأتني . سيَّرت لي تجاربَ غنية في الرضى وفي الخسارة، وأحالتني أحيانا عبر المغامرة الى شحاذ والى بطل، مثلما أحالتني الى متواطيء وأدخلتني السجون. لكنها مع ذلك ابقت ذهني قادا على التمييز، يقبل هذا ويرفض ذاك، وأوقفتني أمام ذاتي لأحاول التطهر. وأحسب كل هذا محاكمة وحصاراً للذات التي تحذر من الحياة أو تريد التلائم معها. إلا أن مكاني الأول مكث في غمرة تداخل الأماكن والأحداث يلحُّ على أن اكتشفه وأن أُسيطر عليه. وقد أصبح في كثير من الأحيان إدمانا على المواخات بيني وبين ما تركه زمن الطفولة من عالم مفتوح لا رقابة فيه، ومن دون حذر كان ممنوحا للدهشة ومفتوحا للإمتصاص في خلايا الذهن وفي نسيج القلب. ولربما أصبح بمثابة نوستالجية يأخذني في طريقه الى وعيي والى حلمي دون أن أستطيع منعه من السفر إليَّ أو من السفر إليه.
في ابتعادي عن البلاد كان يلح عليَّ دوما المكان الأول، طوال تلك العقود، عندما يذكرني به أحد ما ويضعه أمامي، أو يثير فيَّ صُوَرَهُ ويشجع هوى أوقات معينة لكي أُحاول استعادة تلك الصور وفك رموزها السحرية، سواء أكانت صور أوقات مشوبة بنار العواطف والمعرفة أو كانت صور الإنكسار والضعف. وربما، هذه الإستعادة، هي التي حفرت في رأسي عميقاً تلك البلاد، دون أن أتيقن من حبي ومن كراهيتي لها. ومن غير محاكمة خاضعة لمنظومة من الأفكار تبقى البلاد مكانا مضافا إليَّ، وأنا مضافٌ أليه. بمعنى آخر، نحن نشكل معاً وحدةً متمازجةً لا مجال للإنفصام ما بيننا. نحفر في بعضنا البعض، ونضيف في كل مرةٍ بالرجوع الى تلك الأزمان إرثاً جديداً ومزيداً من الحب.
(٣)
مكاني الأول كان في كركوك.
وكركوك، خارج مدينة ما، كانت بالنسبة لي كوناً يؤلف مفاتيح وأقفالاً، بحاراً عميقة القاع، وماكنة للحياة. ليل تجيء إليَّ نجومه لتفاتحني بأسرارها وبولائمها المضيئة، تجلب لي ملائكتها وتطلق أرواحها المبهمة لكي تحاورني وأحاورها.
أراها الآنَ بعيدة، في سفرٍ. أُحاول دوماً أن ألتحق بإحدى عرباتها الذهبية لكي أصلَ عرشها. مسافرة تطلب مني أن أراقبها من خلال الضباب، أو من خلال تراب العاصفة التي تحمل رمل الأرض وصخور الجبال.
لا أعرف بالضبط ماذا أحدَثَتْ المدينة ـ مكاني الأول ـ فيَّ، وذلك في السنوات الأولى من عمري، ولكنني أستنتج بأنها كانت سخية معي في تسيير الرؤى وفي إثارة الدهشة وفي طرح الأسئلة التي مَلأتُ بها نسيجي الطفولي آنذاك. لم أقف ممانعاً، أو مستنكراً، لما كانت تقدمه لي تلك المدينة. لم يكن لي اعتراضٌ على قسوتها أحياناً، وعلى اساطيرها التي تُهبطُ روحي من الخوف والوجل الى القاع . لم أستنكر براءة طفولتي أمام رجال يعصرون الحياة لكي يعيشوا فيبدون مثل عمالقة تكسرت عظامهم وعرقت وجوههم بالنار.
كنت مفتوحاً على كل شيء مثل بابٍ واسع دون رأي ومن غير محاكمة. وحينما كنت أكبر في العمر وتنهار أمامي أعمدة العالم والأسرة ومُثُل الممجتمعات وروابط العلاقة وقيم الجمال، كنت أحسّ بأن العالم شأنه هكذا لأستنبط منه سر العمر ومعنى الزمن.
ماذا استطيع أن أكتب عن مكاني الأول ـ كركوك، وقد كَبرتُ وأخذتُ أُحاكم الأشياء. تحوَّلتُ الى " رجلٍ فطنٍ راجح العقل ! " أتعامل مع قوانين العالم والمجتمع، ولا أقدر على أن أحيا خارج بؤرته المغناطيسية.
لم يعد لي، وأنا بعيد عن الطفولة ـ عن الحياة الأولى الحرة والمنفلة من قبضة التحديد، إلاّ الإمتثال للحلم وللوهم كي أدافع بهما عن نفسي وأطلق الهوى منّي ليتنقل هنا وهناك. يعود أحياناً الى مكاني الأول ويأخذني معه.
قد تبدو كركوك الآن اشبه بمدن اخرى كثيرة . بل يمكن مقارنتها والحط من شأنها، والبدء بأتهامها. لكنني لا أريد ذلك ولا أريد أن يلعب الوعي دوراً في المقارنة، لأن الوعيَ يملك مخالب المعرفة ويمزق بها الحلم والوهم الذي لا أتمكن الحياة من دونهما. ليس بوارد أن أحاكم مدينتي وأحاكم نفسي، ونحن بنية ممتزجة، ليس بوارد أن أحاكمـ (نا) وفق منظور عقلاني وأخلاقي، أو من خلال منظومة من الأفكار التي تريد التحديد والتغيير.
لا تريد الطفولة أن تُحَدَّدَ وتُنتَقَدَ وتُغيَّرَ. إنها تريد المواجهة والمعانقة والإكتناز بالحياة. أن تجمع الأسرار التي يطلقها المكان لتكون ذخيرة للعمر فيها غبطةٌ دائمة. ولذلك، أنا الآن، عندما أريد الإحاطة بكركوك، ربما أختزل التجربة الدينامية التي كانت تتفاعل آنذاك بيني وبينها. ولا يمكن استعادتها وتكرارها. وهل يمكن لرجل هاجر الطفولة وهُجِّرَ منها أن يعود إليها؟. مع ذلك فإن الكتابة عنها مغرية، ومحاولة للإقتراب منها.
(٤)
كركوك مدينة قديمة أُنشأت قبل التاريخ الميلادي بقرون، في سهل يتوسط الأراضي المتموجة التي يبدأ بها الشمال العراقي. كانت روح المدينة في قلعتها الترابية العالية الواسعة. أُقيمت داخل أسوارها الحارات والأماكن. بقايا أسوار القلعة ومداخلها القديمة لا زالت قائمة، تنزل منها بطرقات وسلالم عريضة الى كركوك التي أُضيفت إليها مع الزمن.
وتختصر المدينة العصور بحيث يمكن تأمل البابليين والكلدانيين والآشوريين، مثلما تتأمل الصفويين والعثمانيين والفرس. كل هذه الأرواح تعيش في المدينة القديمة وتحمل آثارها وأساطيرها. وعندما تزخ الأمطار على أطراف المدينة تظهر للعيان لقىً من خزفٍ قديم مهشم وتماثيل صغيرة هي تمائم تحدق، ربما، بنقاط السيطرة العثمانية على رؤوس بعض التلال المحيطة بكركوك. وثمة مخافر موّزعة بين الجبال المحيطة بالمدينة يمكن للمرء أن يتأمل الجنود العمالقة الذين هُزموا وجاعوا " في سفر بر " ودخلوا الأزقة منكسرين يتلمسون الصدقات لسدِّ رمقهم.
قلعة المدينة حاضرة. قلما يفكر قاطنوها بتحولات التاريخ. لقد أصبح هؤلاء جزءأ منها. بل هم يصعدون السلالم الى المرتفع الذي يضم آلآف البيوت والشوارع الضيقة وحاراتها المتسمة بصفتها الخاصة التي تجمع أسماء المهن والقوميات والأديان والطوائف، مثلما تجمع أسماء الأساطير والأنبياء والوليين. تصعد الى القلعة لتدخل " يدّي قزلر" ـ البنات السبع وحارة الحلوانيين والحجّارين والصفارين والبنائين، والى " بريادي " و "جقور "، الى حارة النصارى واليهود والعرب وعقد الأكراد. هذه الأقليات المتعايشة وتلك المهن المستمرة منذ قرون بنت ملامح مدينة عتيقة، ثمّ وسعتها لتُضفي عليها ملامح خاصة، قد لا توجد في غيرها من المدن.
عند أقدام القلعة يجري نهرها، ويسمّى بلعة أهلها" خاصه صو "، وهو نهر " العظيم" المتكون من فروع عديدة يغذيها بالمياه ثلج الجبال وسيول الأمطار المنحدرة من الشمال ومن الشرق الجبلي البعيد.
نهر كركوك ماردٌ وملاك في نفس الوقت. يهدر في الشتاء وفي بداية الربيع القصير ويجف في الصيف إلاّ من جداول صغيرة تسعى بين الحصى بماء رقراق. نهرُ أحمر المياه من جراء انجراف التراب الأحمر من الجبال. ويقف معظم الناس ليراقب غضب النهر في فيضانه وفي هديره الذي يُسمعُ في المدينة ويوقظ النيام. يقف الناس ليراقبوا عربدة النهر الذي يجرف معه كل شيء يصادفه في مسيرته البعيدة. يجلب جذوع الأشجار ويدحرج سقوف الأكواخ ويدفع في خضمه خرافاً وبغالاً وحيوانات أخرى، ولتصطدم أحياناً بأعمدة الجسر الحجري القديم الذي يفصل القلعة عن المدينة الجديدة. وكثيرا ما تؤشر الأيادي، والوجوه ساهمة، الى مهد طفل يتدحرج بين طيّات الماء الأحمر. وتفيض المياه في بعض الأعوام لتغطي الجسر الحجري تاركة خلفها، وهي تجف، غريناً أحمر يغطي الطرقات. وعندما يتصلب الغرين ويُفخَر بحرارة الشمس يكون مادة للرقيمات التي حفر عليها الأجداد كلماتهم وأساطيرهم وأسرارهم.
وكثيراً ما يعمّ الحزن على الناس لمصير آخرين كانوا في البعد حينما جرفت السيول بيوتهم وحاجياتهم ومصادر رزقهم، ويحتمل انها جرفت ناساً وأطفالاً لفتهم بخضمها الأحمر، ناقلة إياهم الى البحر البعيد.
يتعلم الناس في كركوك معنى المسافات والإمتدادات عبر النهر الذي يأتيهم من الجبال ويذهب بعيداً. ويعرفون بأن هناك أماكن وناساً يعيشون بعيداً عن مدينتهم، دون أن يسافروا أليهم. وهم بذلك يتعرفون على الحزن المجرد، غير المشخص. الحزن الذي يشارك أحزان الآخرين البعيدين عنهم؛ حزن من أصابتهم الكارثة هناك.
يستدعي هذا النهر دائماً بطوفانه تاريخ العراق القديم ويستحضره في الذاكرة. تاريخ غضب النهرين وفيضانهما، ذلك الذي دمّرَ إنجاز حضارات مختلفة رافقتها حروب وحريق وغزوات من الشمال ومن الجنوب، وضعت الإنسان العراقي وحيداً بين الماء والنار ودفعته لكي يقف ساكتاً أسير حزنه ينوح بعيداً عن محاولة تخليص نفسه مما يهدده من مصير محتوم.
قرأت ترنيمة أم تنعي وليدها الذي تحمله بين يديها وتعصره الى صدرها، ثم تقف عاجزة بين احتراق ستائر القصر وآثاثه. وكانت المياه أيضاً تقتحم القصر والجنود يتقاتلون ويسقطون موتى. قلت آنذاك، إثر قراءتي ترنيمة الأم : لِمَ تبكي بترنيمتها وتنعي وليدها عاجزة لا تتحرك وتهرب فتنقذ نفسها ووليدها من الفيضان ومن النار ومن اقتتال الجنود. قلتُ لماذا تكتفي بالبكاء والنواح، تجسِّد وتصوِّر بالكلمات ما يحيطها بالغناء الحزين، ولا تهرع لتخلّص وليدها من الموت ومن الكارثة.
لم اكن أعرف آنذاك، في يفاعتي، ما في الحزن والكمد من سرٍ يشل المرءَ عندما يسلم نفسه للقدر.هذا الذي يعيد مأساته ويكررها، مرة بعد اخرى، ويغلق كل الدروب فلا يبقى إلاّ إطلاق العاطفة الحزينة بالشعر وبالترنيمة السوداء. وبذلك يكون الموت مجرد رحيل لا مناص منها إلى أحضان القدر وهو لا يقتضي سوى طقوس مرافقة. وهل أعمق من الشعر ليعبّر عن وي الرحيل ويرافقه.
إِنه الماضي، ماضي كركوك، بقلعتها وبنهرها وبغرينها وبما تثيره في بحر الزمن فتضعنا قبالة الأجداد. الأجداد الذين يحتشدون في المدينة، يأتون إليها من كل صوب، كلٌّ يحمل حقيبة زمنه ليفتحها لمن يريد. يمضي في أطراف المدينة كلكامش وأنكيدو مثلما ينشغل أتونابشتم في بناء سفينته استعداداً للطوفان. تتخاصم خارج القلعة وداخلها آلهةٌ. يريد من هو في الأعماق " تموز " لكي يغطيه بالعتمة في الأرض السفلية. آلهةٌ تشحذ للأقوام وللرعية سيوفاً وعربات ودروعاً للحرب. وآلهة أُخرى سمحة تنحت على المسلة حروفاً تسلمتها من السماء، وآلهة تعبَّد الشوارع لمواكب النذور لتبارك بها المدينة.
(٦)
خارج كركوك القديمة، على الضفة الإُخرى من النهر العريض، تنتشر مناطق وحارات متباعدة، تفصل بينها بساتين وحدائق. والحدائق هذه عامرة بأشجار التوت والحمضيات والرمّان والسدر، وبشجيرات الكرم وحقول الورد وبصفوف الدفلى. بينما تحيط بمعظم البساتين وعلى أنهارها الصفصاف و أشجار الزيتون المعمرة التي تُسقط ثمارها الدهنية السوداء والبيضاء على الأرض لتترك بقعاً داكنة اللون على التراب. وثمة أيضاً حقول متفرقة لأشجار الزيتون متروكة منذ امد، يجني الناس من ثمارها دون رقيب. وتوحي البساتين المنتشرة خارج الأحياء السكنية المتراكمة البيوت بالريف الهاديء الذي يلتجيء إليه الناس هرباً من الضيق ومن جو الصيف الخانق.
وتبدو كركوك مدينة متفردة بأنهارها وبجداولهاالغفيرة. أينما تمضي يرافقك نهر أو جدول ويسير معك. تسبح في بعضها بطات تدهن ريشها، وتقترب منها العصافير والطيور غارسة مناقيرها الصغيرة في جداول الماء. وتدخل تلك الجداول الى كل بيت، ثم تخرج منه لتدخل بيوتاً اخرى. وتمضي في كثير من الأزقة والشوارع لتفضي أخيراً الى البساتين. وكنا نسمّي المدينة " مدينة السواقي ". أينما تذهب يكون بمقدورك أن تغمس قدميك في الماء البارد، وأن تغسل وجهك في حر الظهيرة. تلك الظهيرات الحارة التي تصعد فيها اللقالق والبواشق وطيور اخرى إلى كبد السماء متلمسة البرودة هناك.
كانت أنهار كركوك سمحة وسلسة، تُملأ بمائها الجرار والأواني، وتُرشّ به الأحواش وتُغسل قرميد البلاط ليأتي فيء الأشجار سميكاً مختلطاً برائحة التراب، بارداً في الأُمسيات.
تأتي المياه من شمال ومن غرب المدينة حيث تبدأ المرتفعات. وهي مياه جوفية، قبل أن تصل كركوك، تسير في سواق وأنهار تمشي تحت الأرض، باردة عذبة. وهناك آبار كثيرة على طول الممرات الجوفية. يمكنك ان تشاهد من فوهاتها القريبة من المدينة مياهاً رقراقة قريبة تسعى في باطن الأرض. ولأجل استمرارتدفّق وجريان الماء كانت تُكرى تلك الآبار على نحو دائم، بأن ينزل عمال مختصون بالكري الى تلك الآبار ليفتحوا مجرى الأنهار ويخلصونه من تراب ومن حصى الإنهيارات. ولدى اقتراب الأنهار الجوفية من شمال المدينة تتفجر في نهر متدفق يغذي الطواحين الكثيرة المنتشرة في المدينة، ويتفرع الى فروع عديدة تسقي البساتين والبيوت.
يذهب الاطفال واليافعون، بوجل كبير الى فوهات تلك الابار ليرموا فيها حجراً ولتتطاير من داخلها رفوف حمام وحشي وقطا وزرازير وخفافيش لاذت ببرودة المياه والظل وقت الظهيرة في عمق تلك الاٌبار. وقد ترافقت دوماً زيارة تلك الابار بشعور الخوف والخطيئة من جراء الشائعات والاساطير التي تقول بأن الآبارَ شغفة بأبتلاع الاطفال.
أفق كركوك الشمالي أحمر في الليل، وعندما تتراكم الغيوم هناك يتوسع اللون الاحمر. ذلك ان احتراق الغاز الفائض من آبار النفط ومن فوهات متعددة يلوِّن أفق المدينة فيكون قانياً في ظلام الليل. وعلى مقربةٍ من تلك الفوهات النارية تشتعل ألسنة لهب صغيرة في مساحة من الارض تبدو مثل اسماك حمراء صغيرة تتراقص فوق التراب. وتنتقل ألسنة اللهب هنا وهناك في المساحة التي توجد فيها. ينطفيء بعضها هنا ليظهر هناك، وهكذا يتراقص اللهب باستمرار. هذه النار الازلية تسمـّى منذ القدم بـ " بابا كركر". وظاهرة ألسنة اللهب النارية موجودة قبل ان تقوم المدينة بقلعتها وذلك من جراء انبعاث الغاز من تحت الارض حيث يحترق بمجرد تلامسه مع الهواء. ومن المحتمل أنها كانت الدليل الأول لأكتشاف الغاز والنفط في المدينة .
لا يعرف الناس هذه الظاهرة، لذلك ينظرون إليها بقداسة معيـّنة. وتشيع زيارة الناس والتجمع حول النار الأزلية جواً عتيقاً يعود بالمرء الى اجيال سحيقة، فيما يثير لدى البعض طقوساً اشبه بطقوس اكتشاف النارً وبأجواء عبَدَ تها. وامام النار الازلية يقف الناس بخشوع، وينوي كل فردٍ نيّته ويُبطن مطلبه من النار، وينذر النذور بنبشِ التراب لعل هذا النبش يطلق له لساناً صغيراً من اللهب فيتحقق مراده. هكذا هم، أناسٌ يخلون الى نفوسهم، وبخشوع تام يسرّون عن نواياهم للنار: ما إذا يعود الغائب، أو تحظى البنت الباكر بحبيبها، أو تحبل المرأة ويأتي حملها ذكراًَ. إنه مكان يتوحد فيه الفرد مع أفكاره وعواطفه ويمارس التأمل مع نواياه بكثير من الخصوصية والقدسية.
(٧)
كانت كركوك، قبل ظهورالنفط فيها والبدء بأستخراجه، مدينة سمحة لم تسجَّل فيها حوادث عنفٍ غير معهود. وما عدا في الاساطير والحكايات لم تسفك الدماء أو تخرَّب العوائل بحياكة المؤامرات. ولا يتذكر أحد بأن سجن المدينة كان يضم اكثر من عشرة اشخاص سرعان ما يخلى سبيلهم ويعتذرون لمن أساءوا إليهم. لقد اقتنع سكان المدينة بما رزقهم الله، وهم في الغالب حرفيون وكسبة. وكانت البيوتات الكبيرة المالكة تفتح أبوابها للآخرين وتجود على الفقراء. روح من التضامن والتكافل الاجتماعي تسود بين شرائح المجتمع غير المتناحر. ربما كان الكل يعرف الكل. وتمضي الحياة هادئة قنوعة.
وتتناغم الحياة فجأة كل اربعاء لتوقظ بهجة إستثنائية عند الناس. وما يسمى بـ"الاربعاء الاحمر" مناسبة لخروج الناس إلى ضواحي المدينة وعلى مُتكأ التلال المغطاة بالعشب وبشقائق النعمان وبسنابل الحشائش والورود البرية. تراهم يمضون الى هناك بسلالهم وبأوانيهم وبعدّة الشاي والسماور. يفرشون الابسطة الملونة ليستمتعوا بالطبيعة وبالرفقة الجماعية، وليعمّقوا معرفتهم بألاخر.
كانت اكثر المناطق ازدحاماًَ هي التلال العالية على خاصرة المدينة الشمالية، التي كنا نسمّيها " تانكيلار" جبال الخزانات، المحاطة باللبلاب وبورود عباد الشمس وبمتسلقات الليف.
(٨)
لكن المدينة أخذت فجأة بالتحول فتبدلت معالمها كما لو أن مساً من الجنون أصابها لمّا شرعت شركة النفط " آي. بي. سي" بالعمل على استخراج تلك المادة السائلة السوداء من جوف الارض.
جاءت الشاحنات الطويلة تحمل أنابيب عملاقة وتنفث دخاناً يجعل الناس يفركون عيونهم ويعطسون. وارتفعت أبراج حديدية بينما بدأت الحفارات تغرز أسنانها الحديدية بألارض، والجرافات تدفع التراب دفعة واحدة بقدر مايدفعه عشرات الرجال. وأقتـطِعت مساحات مستوية من الارض قامت عليها صفوف من الخزانات المطلية بالدهان الفضي يُمنع الاقتراب منها. وظهرت وجوه بيضاء ترتدي قبعات معدنية وتعمل بسراويل قصيرة في ربط الانابيب ودفعها بحفارات عملاقة الى باطن الارض. سُوّرت أماكن واسعة بالأسلاك . وبدأ حراس مسلحون بالعصي يحرسون تلك الملكيات قبل ان يتحولوا الى شرطة رسميين. كما شُيِّدت محطة لسكة حديد تمضي الى مراكز استخراج النفط، تنقل عرباتها العمال الذين يزداد عددهم باضطراد، وهم يأتون الى المدينة من أماكن بعيدة، يتزاحمون على العمل.
كان سكان المدينة يرصدون ما يحدث بنوع من الدهشة الممزوجة بالخوف والقلق. ويتلمّسون التغيير الحاصل ويسمعون ضجة الحياة اليومية الجديدة التي تكسر الهدوء الذي استمرّ دهراً. وظهر في المدينة عمال من أبنائها يشار إليهم بملابسهم الزرقاء وبأحذيتهم الجلدية الطويلة. ولكن العمال المهاجرين من أماكن أُخرى الى المدينة كانوا الأبرز بين المشتغلين الجدد في شركة النفط، وهم يعودون الى اكواخهم في أطراف المدينة، أو الى غرفٍ استأجروها في الأحياء الفقيرة.
هكذا تبدّلت معالم المدينة وتغيَّرت خارطتها الهندسية بآلاف البيوت التي شُيّدت فيما بعد على أراض جديدة . خُرِّب بعض البساتين وقُطعت أشجار الزيتون بينما أُهملت بساتين اخرى لتباع كقطع أراض للبناء الذي أخذ يتوسع بشكل مضطرد. وأصبح بعض الأماكن محاطاً ومحاصراً وممنوعاً من الوصول إليه. بينما شيّدت أماكن خاصة للموظفين الإنجليز ولخبراء النفط من الموظفين المرموقين بشوارع واسعة وبدور مبنية بالطابوق المفخور وبنباتات مشذبة تقوم بمحاذات شوارع واسعة نظيفة تحمل أسماء وأرقاماً وحروفاً انجليزية. وظهرت حافلات خضراء خاصة وُضِعت في خدمة عوائل الإنجليز.
وفي خضم جنون المدينة باستخراج النفط وارتفاع الأبراج الحديدية وازدياد فوهات الأنابيب التي يحترق بها الغاز بدا الأفق الشمالي للمدينة يحمرّ ويزداد احمراره كل يوم. بينما تكاثر الغرباء في الطرقات وفي المقاهي، وأخذ نمط الحياة يتحوَّل شيئاً فشيئاً، والقلق يعمّ الناس فتأتي أفكارٌ متناقضة تحرم الكثير من النوم الهاديء.
لم يكن القلق والدهشة فقط هي التي عمّت سكان المدينة، بل جاء الخوف والوجل من اختلال إيقاع الحياة السابقة. وأصبح التساؤل عن المصير وعن الأسرة وعن الصداقة والأخلاق موضع توجّس.
كل صباح ترى عمال النفط ـ هذه الظاهرة الجديدة ـ يخرجون من اماكن مبيتهم مبكرين، قبل شروق الشمس. يتجه بعضهم صوب القطار الذي ينتظر في المحطة، ويعلن مرات عديدة بصفيره الحاد عن انتظاره وعن موعد مغادرته المرتقبة، متوعداً العمال بتركهم إن تأخروا في الوصول. وكان عمال آخرون يسعون في الشوارع ويعبرون البساتين الى اماكن عملهم حيث الماكنات والمحدلات والجرافات وأدوات العمل ليشرعوا بالكد ويكسبوا رزقهم. كان العمال في جميع الحالات يمضون متعبين مخدرين بوجوه شاحبة وعيون ثقيلة الأجفان من شحة النوم، وهم يقضون يومهم حتى غروب الشمس ليعودوا بذات القطار الذي ينفث الدخان ويعطس ويطلق البخار الأبيض. حينئدٍ تزدحم الطرقات مجدداً بهؤلاء الكائنات عندما تؤذن الشركة بنفيرها اليومي انتهاء العمل. كلٌّ يحمل صرّةَ طعامه الفارغة ويسعى كشبح الى بيته وقد حلَّ الليل.
أصبح للمدينة وقتٌ محدد يتلائم مع صفير القطار المتكرر في الفجر، الذي يعلو على صوت المؤذن، ومع نفير الشركة الذي يغطي المدينة مساءً لدى الغروب مثل عويل طويل. هكذا أصبحت كركوك مختلفة بالزمن المعلن دوماً، وبالأصوات الهادرة من المكائن والشاحنات ومن المطارق العملاقة. واكتسى بعض شوارعها وساحاتها بالنفط الأسود. وبينما يحاول الكثير من سكان المدينة أن يستوعب ما يحدث ويطلب التآلف معه . و يتساءل البعض ممن جذوره في الماضي : أية مدينة أصبحت تلك التي قبعت في التاريخ طويلاً، وهل تتواصل مع الزمن بقلعتها وبقطع نقودها القديمة وآثار جرارها وسكنى آلهتها. وكيف سيحدق مواطنو بابل وآشور وأكد بعيونهم الواسعة المزدانة بالتأمل وبالصبر وباستكناء الأساطير والملاحم الى مدينتهم الجديدة التي أصبح النفط يمضي في شرايينها بدل جداول الماء الصافي وعوضاً عن مواكب النذور المسيَّرَة للآلهة.
(١٠)
حلَّ المساء، و يرتدي المساءُ دوماً غلالة من الحزن. كان التوتر يسود الحارة التي نسكن فيها، والقلق العميق ظاهرٌ على الوجوه. هناك أخبار عن محاصرة الشرطة لعمال النفط المضربين منذ أيام. يأتي احدهم ليخبر العوائل في الحارة. تخرج النساء بعباءاتهن، يدلفن هذا البيت أو يمضين الى غير هدف. القلب هناك مع الأبناء والأزواج . ولأن القلب ينبيء بالكارثة هذا المساء، فقد جاء الصراخ والعويل ونحيب النسوة عندما حدثت الكارثة. رأيت النساء بعباءاتهن المتطايرة السوداء يركضن دون وجهة محددة، يبحثن عن شيء ما. يلطمن الخدود ويشقن صدورهن كما يحدث عندما يموت شخص قريب. وتيقنتُ من حلول الكارثة. كارثة جماعية من خلال مظاهر الحزن الجماعي. ثمّ سرعان ما ظهر رجال مرتعبون يتراكضون مثل طريدة تخلصت من فخاخ نصبت لها. تحدّث بعضهم، في غياب تام، عن القتل وعن هجوم الشرطة عليهم غيلة وغدراً. رأيت ملابس ممزقة وبعضها ملطخ بالدم. يقف واحد منهم ليصرخ في البيوت وفي الناس الذين فتحوا الأبواب ليشاهدوا ما يحدث. ويأتي آخر مذعوراً لكي يقتحم باباً ويختفي في الدار. وقد سرت شائعة تقول إن الشرطة تلاحق العمال الى بيوتهم.
كان الأمر بالنسبة لي آنذاك تهويماً داخل الكارثة وانا اشعر بالرعب ذلك المساء. لم أعرف التفاصيل ولم أُدرك طبيعة المواجهة وأسبابها بين العمال وبين شركة النفط. وعرفت فيما بعد انه كُسِرَ إضراب عمال " كاور باغي ". وهو أول إضراب منظم يخوضه عمال النفط من اجل مطاليبهم. كان هؤلاء العمال قد امتنعوا عن العمل وتجمعوا منذ أيام في حقل واسع لأشجار الزيتون يدعى " كاور باغي " ـ بستان النصارى، يقع عند مرتفعٍ يتناثر عليه عدد من القبور. وقد استدرجتهم الشرطة ووعدتهم بدراسة مطاليبهم، لكنها ما فتأت أن هجمت عليهم من المرتفع وهي راكبة الخيول مطلقة النيران عليهم، وحاصرتهم من الجانب المفتوح، خارج حقل الزيتون. قوات اخرى جاءت في شاحنات خضراء نزلت وصوبت عليهم نيران بنادقها.
لم تكن مجرد إشاعة ما تناقله الناس من وحشية الهجوم والقتل. ولكن عَمَلَ الضمير الجماعي لقاطني كركوك على تأليف كتاب شفاهي يصف المشهد ووقائع المواجهة بتفاصيل دقيقة، ويضع صوراً قابلة للتخيل عن ثقوب في صدر العمال وعن برك الدم تحت أشجار الزيتون وعن قطع الأعضاء.
وجاءت الأساطير فيما بعد مقترنة بالحدث لتصف القتلى بأوصاف الأولياء والقديسين و ينبغي دفنهم في الموقع نفسه على تلّة " دامر باش "ـ الرأس الحديدي . ومن المؤكد بأن القبر الذي سيضمهم هناك في أعلى التلة سيكون رحيماً بهم. وحينما ستنطبق الأرض على الجثامين ثلاث مرات ليخلص حليب الأم من الأُنوف سيتم ذلك برفق وبرأفة وحنان فلا يحس أُولئك الموتى بالعذاب، وستذهب أرواحهم بعد ذلك الىالراحة الأبدية. ولربما تجول بين أشجار الزيتون بعيدة عن حقول النفط.
وعندما قُطِعَت أشجار الزيتون بعد سنوات وجرفت الأراضي لتُبنى عليها مدرسة ابتدائية، قيل أن الخوف الذي استمرعقوداً كان الدافع الحقيقي للتغيير في المنطقة بغية مسح آثار الدماء التي كانت تبرز للعيان كلما نزل المطر وغسل التراب في حقل الزيتون. بيد أن أرواح القتلى مازالت تجول هناك ليلاً وتنزل أحياناً من فوق التلة لتدخل صفوف الطلبة. ويفاجأ الصغار صباحاً بجملة مكتوبة على سبورتهم: " ذكرى كاور باغي في القلوب ".
(١١)
لم يكن النفط قد غيَّر مدينة كركوك على هذا النحو المجنون إلاّبعد استخراجه المكثًَف وحفر مئات الآبار من قبل شركة نفط العراق " آي. بي. سي.". وقبل ذلك كانت تطفو كميات منه على نحو طبيعي فوق مياه معدنية، تخرج من باطن الأرض وتشكل بُركاً متفرقة. ويقول المسنون بأن العثمانيين قد استعملوه ثم منحوا حق تسويقه لعوائل من المدينة. ولم يكن التسويق في الواقع إلاً نقل النفط الأسود الخام بما تجود به تلك البرك والأنهار وبيعه للناس.
كان الناس يذهبون الىتلك البرك وهم يقطعون مسافات طويلة للإستحمام في مياهها المعدنية، أو لملء بضع قوارير تفيدهم في علاج أوجاع المعدة و بعض القروح والجروح. وكان البعض يلتهم قليلاً من التراب الحامض متذوقاً به طعم السمّاق معتقداً بأنه ينهي ألم الأسنان أو يعالج انتفاخ المعدة. على أية حال كان العمل الدؤوب يتم من قبل باعة محترفين يذهبون في قوافل من الدواب، تُعَلّق الأجراس في أعناقها، ليغرفوا من النفط الأسود بطاساتهم المعدنية ويملأوا براميلهم المحمّلة على البغال ثم يعودوا بها الى المدينة. هكذا عاشت كركوك في توفير طاقتها. ولقرون طويلة أُضيئت اللمبات المعدنية في البيوت من ذلك النفط، وحُرقت الأخشاب وسُخِّنت الحمامات. وكان أحياناً يضاء به مفترقات الطرق عندما تحظى المدينة بحاكم عادل.
وكثيراً ما أحالت التأملات بخصوص النفط وغرفه من تلك البرك الواقعة بين التلال الداكنة برائحتها الحادة، مثل البيض الفاسد، أحالت الذاكرة الجماعية الى ناس قدامى وافدين من عصور مختلفة غسلوا أيديهم بتلك المادة السوداء، وتركوا لنا جراراً مكسورة ونقوشاً على لوحات طينية تظهر أحياناً في تراب القلعة أو في أطراف المدينة لتعلن عن أرواح تجوب. أرواح أجداد يحنون علينا بكثير من العطف والقلق. ويقولون لنا : أُتركوا أشارة منكم للزمن الآتي . ولكن ما الذي يمكن أن يُترَكَ غير أبراج النفط وخزّاناتها البيضاء، وغير تلك الأنابيب التي تخرج من المدينة وتمضي الى كلّ صوب.
(١٢)
كان علي عربتلي واحداً من أولئك الناس الذين ينقلون النفط الأسود على دوابهم ويوزّعونه على البيوت. منشغلاً بالماضي منتقداً الحاضر، كان يقول: ما أقوم به، في هذا الطين الأسود، قام به آباؤنا منذ آلاف السنين. وكان يردّد دائماً بأن عمله لا يعدو سوى أن يكون من عمل الحمير، وبأنه قد كبرَ ولا يستطيع ببضعة براميل من النفط ان يعيل عائلته الكبيرة العدد. ويبدو أن علي عربتلي فكَّر ليل نهار ليطوِّر وسيلة نقله للنفط. وتمكن في نهاية المطاف إبان الحرب الثانية، وفي نهايتها تقريباً، أن يربط عربة مسطحة تمشي على عجلتين تجرها دابته المتعبة. هكذا أصبح بوسعه تحميل العربة بعدد أكبر من البراميل. ولم يبدُ، بوجهه النحيل والحزين، قادراً على تغيير سحنته سواء غَضِبَ أو فرح أو اشمأز من شيء. ولم يعبأ في خضم الحرب، وقد وصل بعض مظاهرها ونتائجها الى كركوك، بما يمرُّ به من جنود الإنجليز، ومن وحدات السيخ والكوركا الهنود. كما انه لم يكن ليعير اي اهتمام بوجود الثكنة العسكرية الطينية التي بنيت على سفح التلة، التي يمرُّ بها ويشاهد فيها رجالاً غريبي الهيئة ذوي عمامات ضخمة مجدولة ولحى معقودة بشواربهم. ولم يفكر مطلقاً بأن يستبدل دابته المتعبة ببغل قوي من وحدة البغال العسكرية القادرة على حمل مدفع ثقيل بعجلاته.
ولكن مع انتهاء الحرب وبدء استئناف استخراج النفط منع الإنجليز، وهم السادة الجدد، الناس من غرف النفط الأسود. فأنكفأ علي عربتلي في الدار وقلق بشدة على مصير أسرته الكبيرة العدد. إستطال وجهه وأطلق لحيته. كان كبيراً في السن بطيء الحركة لا يقوى على العمل في البناء، وهو القطاع المزدهر. وعمل سكان المحلة على إقناع الحاج شكور بأن يعطيه حانوتً صغيراً علَّه يتمكن من إعالة عائلته. وأخذ علي عربتلي في الحانوت الصغير المعتم الشبيه بجحر الدببة الجريحة يبيع اللبن والسكر والشاي والسكاكر وألواحاً من الورق الملوَّن. كان يأتي الى الحانوت ويعود منه بعربته المنبسطة، وهو لا يقوي على المشي. ينزل منها بصعوبة، يشد دابته الى جذع شجرة متيبسة أمام الحانوت. وأخذ يمسك الناس ليتحاور معهم، بل ليشكوا لهم همومه. وكان حواره الدائمي، سواء مع الآخرين أو مع نفسه، هو ندب الحظ وسرد مظاهر الخراب في الأنفس، وكيل الإتهام والشتائم لشركة النفط.
وفي كلّ مرة كنت أذهب إليه لشراء البصل أو الملح كان يوقفني ويقول لي:" مازلتَ صغيراً يا بني، تبصر الآن حياة تختلف كلياً عن الحياة التي عشناها. كانت حياتنا سمحة ترفل بالرحمة ". ثم يستمر بشفقة وقد أطرق برأسه : " ياإلهي، ما الذي ينتظركم بعد سنوات ... خراب وخراب. ربما تمتد تلك النيران المشتعلة من النفط الى بيوتكم".
ـ إحذروا من تلك الأنابيب اللعينة. اشعلوا النيران فيها.
وفي ظهيرة ما سمعت ولولة النساء وبكاء الأطفال، وعندما خرجتُ من بابنا الكبير رأيت عائلة علي عربتلي، بناتاً وذكوراً وأحفاداً، يبكون مع أمهاتهم التي طينت شعرها وهم يقودون العربة المسطحة وعليها جثة علي عربتلي مسجّاة تغطيها ملاءة من الخيش، وقد فاضت روحه الىباريها في ركن من حانوته بين البصل وصحن اللبن الكبير الذي يبقبق من جراء حرارة الصيف التي حمَّضته.
(١٣)
نبأ الموت أوسع انتشاراً في كركوك من أي نبأ آخر. ربما بسبب الإحساس الخفي بأنه موتهم المرتقب أيضاً، وهم يقفون قبالته بهذه المناسبة بجزع وبوجل. ويحدق بعضهم في الوجه الشاحب مثل الليمون متخيلاً صورته المقبلة. ولكي يعتادوا عليه يذهبون الى الميِّت. يأكلون من طعامه، ويتحدثون عنه كما لو كان حاضراً يجلس بينهم. بينما النساء، على عكس الرجال الذين يتظاهرون برباطة الجأش وبالصلابة، يلطمن ويشقن الصدور ويمزجن تعاستهن وشقائهن بهذا الرحيل. وتأتي "العدّادة" لتصف محاسن من رحل، فتثير مزيداً من النحيب. وفي ذلك المشهد، وفي كمد ممثله، تضفي العدّادة صفاتاً لم يتصف بها الميت وسيرة حياة لم يعشها في الواقع.
لكنها ساعة الوداع ليتخيل كلٌ مصيره ويفتح جروحه أمام قبره الخاص به، ويشعر بأن التراب الثقيل يملأ عينيه، وسوف تأتي فيالق من الديدان الى وليمتها على هذا البدن الجميل.
وأنا أتحدث عن الموت، أخافه حقاً. وأرى مع مرور الأعوام حكمة الزمن عندما يوهن الجسد. ونحن نكتشف الضعف والوهن نحس بأن الجسد لم يعد مثلما كان، قادراً على الحركة الطليقة، أو متمكناً من التلقائية التي اتصفنا بها في عمر الشباب. إنه الموت غير المعلن الذي يهدم فينا الحياة جزءاً فجزءاً. لم ارَ في حياتي جسداً يوارى تحت التراب. وقد تحاشيت ذلك وهربت منه دوماً كي لا أرى عائلتي وأصدقائي الذين تلامست معهم وعشقت دفئهم يرحلون فأكون شاهداً على دخولهم الى شق في التراب، ثقيل هو عليهم، لايستطيعون النهوض منه.
ولربما ـ وأنا أكتب عن الموت ـ أريد أن أعتاد عليه وأن أحاول تطهير نفسي من إثم وداع الذين أحببتهم دون أن أقبـِّلهم من جبينهم عندما بردت أجسادهم ودخلوا تلك المتاهة التي لم يخرج منها أحد حتى الآن. وقد يكون هذا الإلحاح في الكتابة عن الموت ضرباً من وهم المواجهة وخداعاً منّي بتمثل حقيقته القاسية.
(۱٤)
بين حين وآخر كان رجلٌ وسيم يأتي الى الدار الملاصقة لدارنا. نشاهدهُ، نحن الصبية، فنكف عن لعبنا في الزقاق و نتأمله يخطو بهدوء ويدخل الدار. هو غريب بالنسبة لنا، لا يسكن الحارة التي نسكن فيها. لم نكن نتساءل من أين أتى، ومن هو، وأين يعيش. ولم نكن نعرف أيضاً أي صلة تربطه بالضابط العسكري الذي يقطن الدار المجاورة لنا. كان رجلاً حسن الهندام يتسم بالرصانة والهدوء، يحيّي من يصادفه بكبرياء ويمضي دون أن يتحاور معه. يدخل الدار في الغالب بمفتاح في جيبه، من غير أن يكون الضابط في الدار.
هرعنا ذلك المساء الى الدار الملاصقة لدارنا عندما علا الصراخ وركض الناس الى هناك. كانت الأبواب قد تُركت مفتوحة والناس يسعون الى مصدر الصراخ، بينما يتحدث البعض عن سماع صوت إطلاقةٍ نارية. وصلتُ الى هناك ودخلتُ الزحمة. شاهدتُ من بين أجساد الرجال المتدافعين رجلاً يبكي بحرقة وينوح وهو ممزق القميص، يكشف عن صدر ابيض، يلوّح بيده ويقاوم للإنفلات من قبضات الرجال الذين يمنعون اندفاعه من مدخل الدار الى الحوش، وهو يقول:
ـ أتركوني لكي أرى أخي، حبيبي.
وبقوة هائلة يتخلص ويفلت من الطوق ليقتحم حاجزاً خشبياً أصفر اللون يستر مشهد الحوش، فيكسره ويحطمه بغضب نائحاً:
ـ يا إلهي إنها خطيئة. كيف ولماذا يقتل نفسه؟.
ـ إنها خطيئة لا يغفرها الله.
واستطاع الرجل أن يفلت من الزحام ويدخل باحة الحوش ثمّ الى الحديقة
كنت قد تسللتُ ووقفتُ على أنقاض الحاجز الأصفر المهشَّم وتمكنتُ أن أرى أخاه الضابط مضرجاً بدمه فاقداً الحياة يتكيء على ساعده الأيمن ملقياً على الأرض بملابسه العسكرية والنجوم الذهبية تلتمع على كتفيه، بينما يجهش الأخ بالنحيب معانقاً الرأس المدمّى، متسائلاً:
ـ لماذا، لماذا...
كان الرجال قد تركوه هناك ليطفيء غليله من البكاء، وهم يعرفون حزن الأخ على أخيه.
لست أدري لمَ تعلّق في ذهني طويلاً ذلك اللون الأصفر للحاجز الخشبي المهشم وملابس الضابط القريبة من الصفرة ولمعان النجمات الذهبية الصفراء فوق كتف العسكري النائم على الأرض، يبدو كما لو سيستيقظ ليغسل الدم عن صدغه المفتت ويمحي اللون الأصفر من المسرح الحزين.
كنت كلما أتذكر الضابط المسجى والملطخ بالدم أخاف الموت وأتخيل لونه الأصفر، بل أعتقد مخففاً من وقعه، بأنه مجرد غياب مؤقت ورحيل الى مكان آخر. مثل سفر صديق، أنتظر عودته في وقت ما.
كان الضابط يعيش وحيداً في الدار المجاورة لنا، وهي دار واسعة مبنية من الحجر، يمرّ بها نهر بنيت حافته بالصخر. نهرٌ يخترق حديقة واسعة مزروعة بأشجار الرمان والبرتقال والتوت. تمتد على النهر مساحة عريضة تظللها عريشة كرم عتيق يقوم على أرضية من البلاط المفخور، يتوسطها حوض ماء بنافورة صغيرة. وثمة كراسي حيث سقط الضابط ببدلتة الرسمية الصفراء برصاص مسدسه.
كان الضابط فتياً يرتدي البيجاما في أُمسيات حديقته. ونحن نتلصص عليه نصعد جدار الحديقة لنقطف ليمونة او رماناً. وعندما تضجّ شجرة الرمان بالورود الحمراء نقطفها ثم نسحقها بأصابعنا لنلوّن بها خدودنا كالنساء.
يأتي الضابط كل مساء في الغالب راكباً حصانه المبقّع برفقة سائسه، ويدق الحصانان بقوائمهما تراب وحصى الزقاق. يتوفز حصان الضابط أحياناً فيرفع رأسه بكبرياءٍ وبغضب، ثم يضرب سنابكه بالأرض ليشد الضابط اللجام ويضغط بساقيه على البطن وهو يرتدي حذاء لمّاعاً طويل الرقبة. وفي الحركة المتوفزة للحصان يتأرجح الضابط فيتماسك. تتأرجح قطعة القماش الملحقة خلف قبعته السميكة المبللة بالعرق. وحينما يصلان الدار يترجل الضابط أولاً بخيلاء ثم يبدأ الجندي المرافق بربط الحصانين الى قطعة حديد معدنية مثبتة أمام الباب.
كان خيلاء وكبرياء الضابط مظهراً مفتعلاً لسكان المحلة، لأنه كان رجلاً من غير أهلٍ في المنطقة ومن غير صديق. يجلس وحيداً قبالة حوض الماء في حديقته ليتأمل ويحدق أمامه طويلاً حتى يحل الظلام. يمكث في أحايين كثيرة حتى الفجر، من غير مصباح يُضيء له الدار. لم يكن الضابط متزوجاً، ولم تربطه مودةٌ ظاهرة بأخيه الذي انتحب عند رأسه المثقوب.
ولكن، ما الذي حدى بهذا الضابط أن يطلق قطعة حديد على صدغه. لم تكن آنذاك حروب مشتعلة خسر فيها لينهي حياته على هذا النحو، بسبب من عذاب الضمير أومن جراء كرامةٍ مثلومة. أليس الله وحده مسؤول عن الأرواح، يرسلُ مندوبيه ليخرجونها من الأبدان، وهم يمسكون من حانت منيته من الخلف دون أن يتبين الضحية شكل وجوههم.
كيف يمكن ان يهدم رجلٌ صرحاً مشيّداً بطلقة واحدة. وأي سر يكمن في الإنسان لأن يأتي بنفسه إلى نهايته، دون أن يكون للنجوم على الكتف وللدار الواسعة وللحصان المبقع أي دور بالحياة وأي ردع لشجرة الموت التي لا تفتأ تثمر في روحه الحردة.
(۱٥)
عندما أكتب عن الموت، الحقيقة الأزلية الوحيدة التي نحملها معنا، نواجهه، ونؤسسه منذ بدء وعينا بالحياة، لكي نعتاد عليه ونرضى به. نغلف إياه بكثير من الوهم وبكثير من القبول والمحاججة والتذرع بمنطق الزوال، مستعيدين الإرث وسيرة الأجداد مقرّين بحقيقة انتهاء الأشياء، معترفين بمنطق الزمن الذي يمضي ويضع حداً نهائياً لكل حياة. ننظر الى المقابر، ونتأمل تاريخ الأُسر لكي نقتنع بأن النهاية هناك. نهايتنا نحن.
هذا الموت الذي لم ينجُ منه أحد منذ الأزل، وقد حيكت بسببه ومن أجله الأساطير والملاحم، وهي تبدو ناقصة لأنه لم يعد أحدٌ من الموت ليخبرنا ما هو الموت.
وإني أرى اليومَ، كلما أعود الى كركوك المكان الأول، أرى بضمن ما أرى وجوهاً اختفت وأشخاصاً رحلوا. ولكنهم في الإستعادة ما زالوا هناك. وطالما بمقدوري تجريد الزمن، واختصار أكثر من خمسة عقود تستحضر ليَ المكان، تبرز لديّ قوة الأشياء فيكون بمستطاعي أن أرى: ها هم أولئك معي في الغرفة التي أنا فيها، وأنا قادر على أن أحاور تلك المخلوقات التي تأتي إلى وليمتي اليومية؛ فوق منضدتي وفي مطبخي الذي أطل من نافذته الى كثافة ظلام الليل. أنا فرحٌ بصداقتي لهم، وأعرف ذلك الغنى الذي منحوني إيّاه. مخلوقاتي الصغيرة التي أدرت معها وبها حروبي الليلية التي أنتصِرُ بها وأمرِّغ بالوحل من سيَّجَ البلاد ووضَعَ حراساً ومخبرين على الحدود. مخلوقاتي التي أبعثها لتكشف لي سر المعابر والطرقات التي طالما قادتني ووضعتني في مكاني الأول، لأِِراه بكراً كما كان وبعيداً عن الخراب.
(١٦)
أغلقُ عيني لأرى " قره حسن " يوصد باب حانوته الفارغ ـ بيته المضيء بفانوس عكر الزجاج، يحمل معه منضدة غسل الموتى المتكئة على حائط حانوته، ويذهب ليغسل جثة علي عربتلي.
كان قره حسن في خلوته، عندما لا يُكلّف بغسل جثة ما، يتخذ طريقه في زقاقه الضيّق. يخطو فيه كالنائم ليصل في الظهيرة الحارة الى بستان يغذيه نهرٌ يترك في جانب من البستان مياهاً ضحلة تعلوها أعشاب وورود برية. يتظلل هناك تحت أشجار الصفصاف ويراقب اللقالق تخوض في المياه وتتصيّد الضفادع والأسماك الصغيرة. ويعرف الجميع خلوة قره حسن، فيذهبون إليه في البستان عندما يغيب عن حانوته ومنضدة الغسل ما زالت متكئة هناك. جاء اليوم أحدهم ليخبره عن رحيل علي عربتلي. لم يقل " إنا لله وإنا أليه راجعون" بل غمغم فقط: " سأكون هناك في المساء.
يتدفق نهر واسع آتياً من الطاحونة القريبة جارياً أمام حانوت قره حسن، وهو يجلس صباحاً ليغسل يديه ووجهه دون أن يتوضأ. لم يجرأ أحد أن يسأله عن امتناعه عن الصلاة، مع أنه يسمع كل يوم خمس مرات الآذان من الجامع القريب منه، ويقع حانوته الصغيرالذي يعيش فيه على النهر.
أنه مخلوق متوحد، لو لم يكن غسّالاً للموتى لأُعتبر متصوفاً يسبر معراج السماء، لكنه متوحد يشعل فانوسه في الليل ليتخلل الضوء من خصاصة الباب الخشبي للحانوت، ويُسمع صوت "بريموس" ـه وهو يعد حساء العدس أو اللفت.
وتتكيء دوماً منضدة غسل الموتى، حائلة اللون أشبه بالرماد، أمام حانوته.
كلما كنت، أو كنا، نفتقد تلك المنضدة من أمام الحانوت نعرف بأنها نُقلت الى بيت ما لتسجّى عليها جثة شخص ما، ينشغل بها قره حسن ؛ يمددها ويقلبها ويصب الماء عليها لتنقل من ثمّ الى المقبرة.
كنت أبتعد عن قره حسن وأتوجس منه. أشمُّ فيه رائحة الموتى، أخالها رائحة مزيجة من العفن ومن أغطية قديمة عُطرت بالقرنفل وببعض البخور والكافور الذي يُدهَن به الموتى. وحينما كنت أمرّ بحانوته أتوجس ثانية من الزقاق الضيّق، خاصة عند حلول المساء، وأتخيل الحانوتَ مملوءاً بالأشباح وبمخلوقات غريبة الهيئة هي صنو الموت، بينما هو يتحدث إليها طوال الليل. وربما يأكل معها حساء اللفت الذي أعدهُ للعشاء، منتظراً الصباح ليحمل منضدته على كتفه ذاهباً الى شخص آخر ودّع الحياة.
ويتحدث بعض الناس عن قره حسن، المقل في الكلام، بأنه يعرف بمجرد النظر الى الآخرين متى تحين ساعتهم. لكنه لم يفصح مرّةً لأحد عن تلك المعرفة. وقد أشيعت حوله أقاويل متناقلة تفسر عزلته ووحدته وصمته، بالأخص في ليالي الشتاء الباردة الطويلة، بأنه يتحدث مع أشباح هي ملائكة وشياطين يأتون اليه فيسرّون له أحياناً بأسماء تحدد له مهمة الغد، ويسلمونه قائمة بأسماء أُولئك الذين سيموتون.
لم يكن قرة حسن يتجاوز في حديث يُجبر عليه حدود الكلام الذي لا يشف منه فضح مبعوثي الله، أولئك الذين يأتون لقبض الأرواح. وعندما يُسأل عنهم يقول على مضض بأنهم كثرٌ ومتباينو السحنات، منهم مَن يتسم بجمال بنت من بنات " الكرج" ومنهم مَن هو أقبح من عبيد البصرة. ويقول : ان مَنْ ينتظر الموت يرتعب من قابض الروح عندما يقف قبالته ويحدق في عينيه. ولكن رحمة بجلال الموت قضي على هؤلاء بأن يأتوا خفافاً من الخلف ويمسكوا من شعر مَن ينتظر الموت دون أن يكون بمستطاعة التحديق في وجهوههم. ويُسهم قره حسن في حديث واثق، مع مَن يجبره على التوقف للحديث على قارعة الطريق، قائلاً بأن الموتى يُحاسبون ويُساءلون في القبر، وعليهم أن لا يكذبوا في الإجابة على الأسئلة، لأن أي كذب ينطقه لسانهم أمام الملائكة غير مجدٍ. ومن يكذب بلسانه تتحرك يده لتقول: " حسناً أنا اليد سرقت بهذا". وكنا نحن الصبية والمراهقين ندير الحديث وجهة أخرى لنسأل : " وأي عضوٍ سيتحرك في مَن زنى ليقول: " أنا الـ ...".
يقع حانوت قره حس في نهاية منحدر ضيق تقوم على قمته طاحونة مائية لسحق الحبوب، يُسمع صوت جاروشتها الحجرية عن بعد. وتُرى أحياناً في فسحة مدخلها الطحّان وقد بدا أبيض مكسوّاً بالطحين. وتبدو مفارقة تلك المقارنة بين رجل المطحنة المكسو بالبياض وبين قره حسن الأسود الذي لا تتبين ملامحه عندما يحل المساء ويعكس سواد وجهه آخر خيط من الشمس الغاربة. صحيح أن قره حسن هو الرجل الأسود الوحيد في المدينة ألا انه لم يُسمَّ عبداً، ولم يحظ بنظرات مستهجنة وغريبة من قبل الآخرين. أما تسميته بـ " حسن الأسود " فجاءت لمجرد تمييزه عن غيره من الناس الذين يحملون نفس الإسم الأول. وكان الرجل قد جاء الى المدينة منذ وقت طويل، وهو مطلوب طالما هناك مَن يموت. ويغطي بعض القلق حياة من يفكر بأن قره حسن سيغلق حانوته وسيغادر المدينة. ولكن القلق الأكبر لدى الرجال ناجم عن التفكير في موته، حين لا احد يتكفل بمهمته ويقوم بعمله، خاصة انه لم يدرب خلفاً له.
لم يكن قره حسن ليعبأ كثيراً بمن سيموت وبمن سيبقى على قيد الحياة. ولم يتمنَ قط أن يغسل مَن ظلم الناس، أو مَن حجب عن المعوزين صدقة. غير انني سمعت بأن قره حسن، وهو يمرّ بمحاذات دار نيازي بيك سامعاً إياه يصرخ ويلعن الأنبياء والأولياء والناس محتجاً على الله، كشأنه كل يوم، معترضاً على موته الوشيك قال بحسم :
ـ حسناً سأغسل هذا الرجل الخرف اللئيم عاجلاً أم آجلاً.
(۱٧)
كان نيازي بيك رجلاً عجوزاً يقعى في الدار الواسعة التي يملكها مع ولديه وبنته. عمل موظفاً في الحكومة إبان الإحتلال العثماني وتقلد منصباً هاماً آنذاك. ثم استمر في وظائف اخرى بعد الإستقلال. إلاّ أن منصبه الأول منحه الإسم الذي نادوه به دائماً. كان يقرن بنيازي بيك تسمية " دوز مديري " ـ مدير الملح، وكان في وقته منصباً رفيعاً. وقد جمع ثروة كبيرة استعلى بها على الناس ولكنه عُرِفَ ببخله الشديد. ويروى عنه انه مرة واحدة فقط أوصلته الى بيته عربة تجرّها الخيول، وعندما نزل منها طلب الحوذي أجرته وحددها، فصاح نيازي بيك غاضباً : " إنها سعر شاحنة من الملح أيها الحقير "، ثمّ هوى بـ " باسطونـ" ـه وشجَّ رأس الحوذي.
لم تكن أسرته الصغيرة لتختلط بسكان الحارة. وربما فاتها أو سيفوتها قطار الزواج . توفيت زوجته منذ وقت طويل، وقد شاخ هو بحيث لا يقوى على الخروج والمشي في الزقاق، بينما كان قبل سنوات يدق الأرض بباسطونه ـ عكازه الملوكي وينظر الى الناس والى البيوت الطينية القميئة نظرة احتقار شديد. أما الآن فلم يعد باستطاعته إلا المشي الوئيد متكئاً على عكازات يغادر بها غرفته الى باحة الدار لينام على سريره الوسخ طوال ليالي الصيف، ثمّ يعود بنفس المشقة متعكزاً الى غرفته، متلافياً شمس النهار المحرقة.
كنا نسمع نيازي بيك وهو يجعر بصوته ويرفع عقيرته بكلمات مبهمة، ثم يلعن بلغة تركية سليمة. وفي أحايين كثيرة يجادل ويطرح أسئلة، كما لو أنه يتحدث ويخاصم الأشباح وهي تحيط به، ثم يجدف ويلعن الأنبياء والقديسين. وقد أطلق بوضعه وبحواراته الكثير من الشائعات. كانوا يقولون بأنه مريض في البدن مرضاً لا براء منه يؤذيه ويسحق تحمّله. يلفظ كل يوم أنفاسه الأخيرة، لكنه سرعان ما يستردها ليبدأ مجدداً بلفظ انفاسه. وهكذا دوما يقترب من الموت ثم يعود منه ليأتي الموت إليه مجدداً وليقف على رأسه. إنه لا يموت لأن عزرائيل أو الشيطان لا يجرؤان على الإقتراب منه، لخرفه ولكونه وسخاً ملوثاُ بالخراء، غير قادر على الجلوس في دورة المياه.
وثمة أقاويل تفسّر وضعه وتقول بأن الحكمة الإلهية قضت بأن يعاني الموت، وبأن يقاسي الحياة، وهو قصاص منه لأنه قتل زوجته الجميلة بديعة خاتون بعد أن اكتشف خيانتها في سفراته الطويلة مشرفاً على أماكن الملح . ويؤكدون ذلك التباين الشديد بين الإبنين وبين البنت، حيث البنت على عكس سُمرة الولدين تشع بياضاً وهي مسترسلة الشعر وذات عيون خضراء.
لقد اختفت أو ماتت بديعة خاتون، زوجة نيازي بيك، بعد سنوات من تبيّن ملامح طفلتها في السادسة من العمر، وبعد ان شعَّ لون عينيها الخضراوين. ومن المحتمل أن يكون عذابات نيازي بيك طويلاً وعميقاً، وهو يداوي جروح الخيانة ويراكم الغضب والحقد تجاه زوجته، الى ان غابت، أو غثيِّبت، عندما أنهت البنت العقد الأول من عمرها.
ولأن الناس لم يدخلوا من الباب الواسع لدار نيازي بيك، ولم يساهموا في العزاء أو في الذهاب الى المقبرة، تكاثرت الأقاويل والأحاديث عن الموت المبهم والغريب. وقيل أن الجثة لم تصل المقبرة أصلاً وهي وديعة في ركن من أركان الحديقة، تحت شجرة الخوخ التي تعاكس نيازي وتزهر كل ربيع فتغطي بزهورها المكان، ليتسنى في يوم ما نقل الرفات الى أنقرة البعيدة. ولكن القتل ذاته أطلق العنان للتخيلات.
قرر نيازي بيك فجأة أن يحبس زوجته الجميلة في غرفة الحدائقي الذي طرده منذ مدة طويلة. أخذ يجوّعها. يرمي لها كل مساء كسرة من خبز يابس وجرّة صغيرة من ماء النهر الملوث. يدخل عليها ويضربها بالسوط، وهي تنحلُ يوماً بعد يوم، ويتغيّر صوتها الى نأمة مكتومة، هكذا الى أن فاضت روحها مع الأيام. ويؤكد البعض انه سمع أحياناً عويلاً خافتاً مكتوماً يصدر من الحديقة ليلاً.
على خلاف هذا الموت البطيء، جاء نيازي بيك بزوجته الى الحمام، وكان قد أشعل الـ " بريموس " فملأ صوته المكان. أوصد الباب عليها. مسكها من ذراعها أولاً، ثم مزق ثيابها وبصق في وجهها وفي أُنوثتها، وفتح فمها ثمً سكب في بلعومها قنينة من الزرنيخ. أخذت الزوجة الجميلة تتلوى ويحترق جوفها. وبدأت تقيء دماً وتقذف أحشاءها وهو يوثقها ويمنعها من الحركة ومن الصراخ . سقطت الزوجة على بلاط الحمام. رفست مرات ملطخة بالدم الأزرق وبقطع من أمعائها لتموت، وليستحيل لونها الأبيض الى لون الحبر.
قالت النساء: على الأرجح، إن بديعة خاتون، المرأة الجميلة، كانت تذوي يوماً بعد يوم قبل أن يشاع عن موتها بالزرنيخ. وذلك، بالتأكيد، من جراء سمّ بطيء التأثير كان يسقيها به نيازي في قهوة الصباح. وتؤكد النسوة بأنهن شاهدن بديعة خاتون مرتين قبل أن تختفي. في المرة الأولى كانت أمام الباب، تشتري عسلاً من أكراد نزلوا المدينة من الجبل، بدت نحيلة وقد اكتسى وجهها بصفرة الموت. وفي المرة الثانية والأخيرة بدت فيها جلداً على عظم، مزرقة الوجه يتناثر شعرها كالعشب اليابس، وهي لا تقوى على فتح الباب الواسع لدارتهم. إذاً هكذا يفعل السم بالإنسان. ونيازي بيك، هذا الشيطان الرجيم الذي يكفر كل مساء، لا يتردد بحقده مطلقاً في أن يسقي السم لأي كائن يكرهه. ويستدلون على ذلك من تلصص الأطفال الذين شاهدوا في حوض حديقة نيازي بيك أسماكاً حمراء ميتة تطوف على الماء. ومهما يكن فقد مكث نيازي وحيداً وقد شاخ. نسمع صوته الهادر يطلع من الحديقة، حيث سريره الوسخ، متجاوزا الأشجار والجدران، يُسمِعُ الناس لعناته. كان لايزال يجادل ويجدّ ف في الرب: لماذا يأخذ روحه ويترك كل هؤلاء الناس. ثم يصف الناس بأرذل الصفات. يناديهم ويسمّيهم بأسمائهم واحدا واحداً.
كنا نعتقد بأن نيازي بيك يرى الله بصورة ما ليخاطبه عياناً. وعندما كنا نتسلق عمود الكهرباء الملاصقة لحديقة داره ونتلصص من خلال أغصان الأشجار، لانبصرالله ولا نرى كتلة النور هناك. لقد حجب الله وجهه عن الجميع. بينما كنا نرى نيازي بيك يتقلب على سريره ويسعل حتى الإختناق، ثمّ يجأر لاعناً الدنيا والحياة
ـ لا، لا أريد أن اموت.
ـ لا أريد أن أرحل من هذه الدنيا.
ويمشي قره حسن لصق الجدار عندما تكون مهمته قد انتهت في الحارة، حاملاً منضدته، يسمع الصوت العالي للعجوز، وهو متأكد من أنه سيغسل نيازي بيك عاجلاً أم آجلاً، كما قال مرة. يضعه فوق منضدته. يقلّبه. يغسلهُ. لكنه سوف لا يعطره بالكافور.