يشهـد هذا القرن الذي نعيش بداياته في الوقت الحاضر قرن تعطيل الشعارات والقيم الوطنية (التي نشأنا عليها منذ نعومة أظفارنا وتعلـّمناها في المدارس والجامعات وترسـّخت في أنفسنا من خلال العمل في مؤسسات الدولة الرسمية في الماضي). هذا القرت الذي أنقلبت فيه المبادىء الوطنية رأسا على عقب من قبل بعض قادةالأحزاب العراقية فأصبحت الخيانات الوطنية والأنتهازيات السياسية والتحالف مع الأعداء دهاءا سياسيا عظيما يضرب فيها المثل وباتت اقصر الطريق لتحقيق الأهداف المستحيلة وغدت المنادات بالوطنية طرحا ساذجا و متخلـّفا وأصبح الألتزام بالدين (دقة قديمة)يجب تركها! وعلى أثرهذه التناقضات والمستجدات السياسية أنقلبت موازين الأمور جميعها لتترك بصماتها على طبيعة حياة العراقيين ومستقبلهم ومستقبل بلدهم.
فبينما ما زلنا- نحن تركمان العراق (والكثير من القوى العراقية الوطنية الخيّرة) نؤمن ايمانا عميقا بأن التحالف مع سلطات الدول الأوربية في المهجر والتي نعيش على أراضيها منذ عشرات السنين - والتي نحمل جنسيـّاتها وجوازات سفرها - يعد امرا غير أخلاقيا وغير شرعيا تجاه بلدنا العراق (الذي لم نتوقف لحظة عن التفكيـر به وبشعبنا ليل نهار) ..بل و نعتبره خيانة وطنية لاتغتفر لأدراكنا جيدا ان أوليات المصالح الغربية تأتي امام الأعتبارات الخاصة لبلدنا. لكننا نرى - وللأسف - أن التحالف مع الأجنبي وأعداء البلد أصبح مبعثا للمفخرة الوطنية بل و شعارا ووسيلة- لجأت لها بعض الأحزاب العراقية وبعض الأحزاب الكردية منها بالذات للعمل على تحقيق أهدافها، و أساسا وضمانة للحصول على بركة المستعمر ونعمه الكثيرة عليهم وما ظهر منها وما بطن. وأصبح بيع حلفاء الأمس وأبناء الجلدة الواحدة للأستعمار (عربونا) للحصول على رضاهم وبابا لفتح الرضا والأمتنان ونزول البركات الكثيرة والحصول على الأ متيازات السياسية التي ماكانت لتنزل لولا أن بيعوا في سوق الأنتهازية ولولا أن سحقت المبادىء الوطنية التي نشأنا عليها بالأحذية.
وأصبحت الأبتسامة الصفراء من مستر بريمر هي الوسيلة والهدف والشرف الرفيع لنيله من قبل بعض أعضاء مجلس الحكم مقابل الرضوخ والتوقيع على أوامره ونواهيه والهروب من سخطه وغضبه وأجتنابا لطرده من المجلس والتفريط بدولاراته الشهرية. وأصبحت التهاني القلبية وتبادل القبلات –كما رأيناها في الفضائيات بعيد توقيع الدستور المؤقت بين أعضاء ما يسمى بمجلس الحكم الأمريكي - علامة الرضا والقناعة والتهريج لولادة الدستور المشـّوه خلقيا من الزواج اللا شرعي القائم بين مجلس الحكم والأدارة الأمريكية المحتلة .
لقد شهد يوم الثامن من هذا الشهر وهو عيد الأم.... (ولا أعلم لم أختير هذا اليوم بالذات!!) التوقيع على قانون ادارة الدولة للمرحلة الأنتقالية (الدستور المؤقت) الذي املي على مجلس الصياغة المتشكل من أعضاء مجلس الحكم المعين أصلا من قبل سلطة الأحتلال املاءا والذي جاءا متناقضا مع مفاهيم الديمقراطية التي كنـّا وما زلنا نتأمل أن تتكرّم الأدارة الأمريكية علينا بكرمها الوفير لأنقاذ الشعب العراقي من عهود الدكتاتورية البغيضة. فلقـد تمخـّض الجبل مخاضه العسير فولد فاءرا(متهّـندسا وراثيا) حسب مواصفات الصهيونية العالمية.. حيث استبدلت بنود الدستور القديم (قرار رقم ٧٩۲ في ۱٦ تموز ۱٩٧۰) الواحد والستـّون والمعطـّـل باخرى أمريكية - كردية. فقد فرضت بنود غريبة عليه بحيث أصبح الدستور مهجـنّا لا يلا ئم مجتمعنا العراقي بتشكيلاته المختلفة ولا يتوافق مع طموحاتهم أبدا بل وقد يكون مصدرا للكثير من المشاكل الكبيرة والفتن التي ستندلع مستقبلا مما يؤكد الغايات المشبوهة التي وضع الدستور- بهيئته الحالية- من أجلها.
لقد كتب الدستور بشكل خاص غير قابل للنقض ويكون تعديل أي بند من بنوده (بعد ان كان التعديل بيد رأس السلطة فقط في عهد صدام حسين) بأكثرية ٧٥٪ من أعضاء الجمعية الوطنية وأجماع مجلس الرئاسة... مما يـّحتم اجراء أي تغيير الا بموافقة غالبية ٧٥٪ من أعضاء المجلس!! هذا أضافة الى ان السلطة التشريعية الأتحادية هي أعلى من السلطات التشريعية الأخرى (عدا المجلس الوطني الكردستاني وما حصل عليها من امتيازات وصلاحيات عالية لاتصـّدق ضمن العراق ككل وأكبر بكثير مما كان المراقبون يتوقعون حصول الأكراد عليها ضمن منطقة كردستان!!). بحيث أصبح العراق العظيم أشبه كردستان !
فالعراق يعد دولة عربية ضمن الجامعة العربية (حسب المادة الأولى من الدستور القديم) تحوّلت الى "دولة فيدرالية القوميتين" فقط: العربية والكردية. وتحول النظام الداخلي الى دولة الفيدرالية للمحافظات المتجاورة بحيث أصبحت للأكراد اليد الطولى في تمرير أي قرار أو أجهاضه حسب مصلحتهم حيث حصلوا على حق الفيتو على العملية الدستورية في العراق من قبل الأدارة الأمريكية استرضاءا لهم ولدورهم التحالفي مع الأمريكان والتزام بريمر الشخصي لهم و رغم انف المعارضين من القوى السياسية العراقية ورغما عن العراقيين جميعا!!. لذا فقد تم الغاء هوية العراق من هوية عربية الى دولة متعددة الأعراق مع تمييع دور الأقليات بشكل سافر امعانا بالأستخفاف بالتركمان بالذات وبعض الأقليات الأ ثنية كالكلدوآشوريين وغيرهم في بنود الدستور. وتلاشت أحلام التركمان في تثبيتهم في الدستور الجديد للدولة مقابل جملة واحدة هزيلة ومرنة في نفس الوقت ألا وهي "أن العراقييون سواسية أمام القانون بغض النظر عن أنتمائهم القومي أو العرقي أو الطائفي".
وتحـّول دين الدولة الرسمي من الأسلام (المادة الرابعة للدستور القديم : الأسلام دين الدولة...) الى "أن القوانين تستمد من الشريعة الأسلامية" ناهيكم عن الفيتو الخاص لمستر بريمر ضد مصادر التشريع وعلاقة الدين بالدولة!!
في الوقت الذي تبخـّرت أحلام القوى السياسية الشيعية في أقامة دولة شيعية في البلد أو تمثيل الأكثرية على الأقل وأخرجت المرجعية الشيعية وافرغت من دورها الوطني وتحولت الى قوة حزبية رمزية ليس الاّ . لقد كان هذا الأجراء متوقعا ومحسوبا من قبل الأدارة الأمريكية لتخوّفهم من أعادة تكرار التجربة الأيرانية من جديد في العراق! غير ان القوى الشيعية كانت تتأمل أمتيازات اكثر بكثير مما تحقـقت لهم ضمن بنود الدستور الجديد. والحالة نفسها صحيحة بالنسبة لتهميش أدوارالقوى السياسية والدينية والسنية!!!
بالنتيجة فالرابح الوحيد هناهو القوى الكردية والشعب الكردي فقط مع الأدارة الأمريكية ومن ورائهم من المنظـّرين الصهاينة الذين رسموا الأدوار والخطط رسما جيدا في البيت الأسود الأ مريكي وتل أبيب ونفـذّت كما يجب في العراق بأيدي الساسة الأكراد في المجلس (الموقر) والمتحالفين منهم مع سادتهم الأمريكان والخاسر هنا هو بقيةالشعب العراقي وبدون جدال.
ورغم مشاهدتنا لعلامات السخط والأمتعاظ على ملامح بعض أعضاء المجلس الذين لم يكن لهم لاحول ولا قوّة في وضع بنود هذا الدستور المشؤوم وأجبروا أجبارا على توقيعه (حيث حاولوا تغيير المنكر في قلوبهم فقط وبأضعف الأيمان) الاّ أن أوامر بريمر وأحلام القوة الكردية كانت الأقوى وبلا منازع....
هنيئا للفوز الكردي أبطال المسلسل الدرامي "محاربة الأرهاب وبناء الديمقراطية في العراق" للمخرج بول بريمر والمنتج السيد "بترول العراق" أما الكومبارس فهم "الشهداء العراقيين من ضحايا التفجيرات والغارات الجوية" والمتفرجون هم "شعوب العالم أجمع". فاليصفـّق المصفـّقون وليفرح الفائزون على مأساة العراق. فلقد تحقـقـّت ألأحلام الكردية بطريقتهم الخاصة في التعاون والتنسيق والتحالف مع أعداء العراق الأمريكان ولم يربح أحد من العراقيين ولا القوى الوطنية العراقية سواهم !!
ولايسعنا في غمرة هذه المآسي التي يعيشها الشعب العراقي الجريح سوى أن نذّكـره ونذكـّر أنفسنا بقول الله عز وجل: "الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" صدق الله العظيم (سورة آل عمران ۱٧۳).
أن المرحلة الراهنة التي يعيشها العراقيون بكافة شرائحة القومية والأجتماعية والسياسية والعسكرية وغيرها - وخاصة بعد صدور الدستور- تعد من أحلك وأصعب الفترات التي تمر على البلد حيث همّش (بضم الهاء) فيها القادة وأولي الأمر الوطنيين الخيـّرين والمثقفين من أصحاب القرار من العراقيين وفي داخل بلدهم - وأعتبروا (بضن الألف) من ضمن عامة الناس وأصبحوا تحت رحمة الأجنبي . وتقسـّم بلدهم رغما عنهم ولم تبق لهم سوى خيار رفض بنود الدستور جملة وتفصيلا والتي لاتعـّبر عن تطلعاتهم ولا تعكس الأهداف التي جاءت من أجلها أساطيل الأمريكان والبريطانيين لتحتل بلدنا.
فالأيام القادمة في العراق تعتبر حـبلى بوليد جديد آخر وقد تتفجـّر بالمفاجئات التي ستعكس سخط وأمتعاظ العراقيين للدستورالمؤقت والجدير بان يحمل أسما لامعا جديدا ألا وهو " الأ مريكردي" (الأمريكي الكردي) لكونه وضع من قبلهما ومن أجلهما فقط.