أنعكاسات فضائح أدارة التحالف ضد العراقيين على مستقبل الحكومة البريطانية
أن بريطانيا (دولة الأستعمار القديم) مازالت تعيش أمجاد الماضي عندما كانت فعلا "بريطانيا العظمى" لها مستعمراتها وقواعدها العسكرية في كل قارات العالم الخمسة، وحين كانت أساطيلها تجوب البحار والمحيطات لتتنقل من مستعمرة الى أخرى وتتجار في خيرات مستعمراتها تلك وثرواتها بل وحتى شعوب بعضها على شكل أرقاء وعبيد. ولكنها وبعدما فقدت العديد من نفوذها بفعل الثورات الشعبية لمستعمراتها تلك التي وقعت تحت سيطرتها وبفعل تنافس مصالح وأطماع الدول الأستعمارية الأخرى خسرت الكثير من واردتها المختلفة القادمة من تلكم المستعمرات. ويعترف بعض المثقفون من البريطانيين أنفسهم بأن التقدم الهائل الذي حصل في الغرب عموما وفي بريطانيا بالأخص أنـّما هو نتيجة الطاقة الهائلة للبترول العربي بشكل خاص والمعادن والثروات الطبيعية الأتية من دول أفريقيا الغنية بها و التي عليها شيـّدت المصانع والمفاعل والمختبرات العلمية والمؤسسات الأنتاجية عموما ووصلت الى ما وصلت اليه الآن من التقدم والرقي العلمي والطبي والتقني والعسكري وفي مجالات أخرى عديدة. وتعتبر بريطانيا أكبر دولة في العالم المالكة للحديد المستورد من مستعمراتها. ولكنـّها تتفرد كذلك و من دون جميع الدول الأوربية في سياستها الخاصة التي تتميز بالتبعية أو بالذيلية للسياسة الأمريكية ليست أنطلاقا من دوافع قومية محظة بل تنبع أساسا من دوافع أستعمارية واحلامها الكبيرة بأعادة أمجاد وعز الماضي لبريطانيا العظمى والشعور بالقوة وبالعظمة والكبرياء . وبهذا التوجه المتفرد تعـّرض الحكومة البريطانية نفسها الى أنتقادات كبيرة بدءا من الدول ألأوربية في الأتحاد الأوربي وأنتهاءا بالسياسيين البريطانيين المعتدلين من المعارضين أو من داخل الحكومة نفسها والشرائح الواعية من الشعب البريطاني الذي بدأ يدرك مغبة مخاطر لحاق بريطانيا وتبعيتها للسياسة الأمريكية في كل شيء وكأن بريطانيا أصبحت الولاية الواحدة والخمسين من الولايات المتحدة الأمريكية. وجاءت الخسائر بالأرواح التي لحقت بالجيش البريطاني نتيجة أحتلال العراق في آذار٢۰۰٣ وأعداد الجرحى والمعاقين لتؤجج الأنتقادات اللا ذعة والمستمرة لحكومة حزب العمال الحاكم برئاسة "توني بلير" وخطأ حكومته في تصديق اكاذيب المخابرات الأمريكية الخاصة بترسانة العراق من أسلحة التدمير الشامل وتهويل أمكانية تهديد العراق للعالم وخطورته من صنع قنبلة نووية في القريب ووهم علاقة النظام العراقي البائد بتنظيم القاعدة و الأرهاب الدولي وخطأ اللحاق با لقارب الأمريكي في غزوها للعراق رغم معارضة جموع كبيرة من الشعب البريطاني ومازالت. فبعد فشل الزيارات العديدة لوفود التفتيش الخاصة بالكشف عن أسلحة التدمير الشامل في العراق والمرسلة من قبل الأمم المتحدة التحقت بريطانيا بأمريكا بشكل أعمى كدولة حليفة بعد تصديق تلك الأكاذيب وأشتراكها وتحت المضلة الأمريكية مع العديد من الدول الأخرى في الحرب على العراق بحجة القضاء على الأرهاب وتدمير أسلحة التدمير الشامل للعراق - التي من الجدير أن تسمى بالحرب العالمية الرابعة (افتراضا أن الحرب السابقة(١٩٩١) التي حشّدت أمريكا أكثر من ثلاثين دولة في مواجهة العراق وحده لأخراجه من الكويت - كانت الحرب العالمية الثالثة).
ورغم قيام السيد توني بلير شخصيا بالأعتذار الرسمي من العراقيين وذويهم وأمره بالتحقيق الفوري بعد التأكد من صحة الصور المنشورة و تأكيده على أن البريطانيين جاءوا للعراق لأيقاف مثل هذه الجرائم لا القيام بها بأنفسهم الاّ أنه أصبح في موقف حرج جدا لايحسد عليه حيث تعالت أصوات قادة الأحزاب البريطانية المعارضة وأعضاء من حزب العمال الحاكم منادية بضرورة أستقالته بسبب فضائح القوات الأمريكية في سجن أبو غريب وأنتهاكات القوات البريطانية في البصرة والمحافظات الجنوبية من العراق ضد السجناء العراقيين!! هذه الأصوات تشير على الخطأ الكبير الذي أرتكبه "توني بلير" في حق بريطانيا كدولة وفي حق الشعب البريطاني بسبب انفراد حكومته- ومن دون الدول الأوربية الأخرى في الأتحاد الأوربي - بتأييدها المستمر للرئيس الأمريكي بوش في كل شيء وجعل السياسة البريطانية ذيلية للسياسة الأمريكية.
وبعد التحقيق في أصل الصور ومصادرها خرجت الصحف البريطانية –وكدفاع عن ماء وجه الحكومة وخصوصا الفوج الملكي المضلي- ملمّحة أن تلك الصور كانت مزّورة... وقدّمت بعض الأدلة الضعيفة جدا لم تقنع الناس بتاتا خصوصا بعد أن عرف الجميع بأعترافات ستة عسكريين بريطانيين شهدوا على تلك الأنتهاكات مؤكدين صحة وأصالة الصور تلك وكذلك دور بعضهم في تعذيب السجناء. ومن ناحية أخرى أعترف السيد "جيفري هون" وزير الدفاع البريطاني عن علمه المسبق بأعمال التعذيب والأنتهاكات ضد نزلاء سجن أبو غريب ولكنه لـم يعر أهتماما لتقرير الصليب الأحمر في وقته مما وضع سمعة الحكومة البريطانية في أحراج أكبر!!! ولكن المسئولين الكبار في المخابرات البريطانية أجبروا رئيس تحرير جريدة ديلي ميرور "السيد بيرس مورغان" بالأستقالة من منصبه والأعتذار الرسمي ثم أجبارهم له بالأعتراف بأن تلك الصور كانت مزّورة!!!. ففعل الأخير ما أمر به أن يفعل وخرجت عناوين الصحف في اليوم التالي وبأحرف كبيرة بما أرادت الدبلوماسية البريطانية (واضح أن سمعة الدولة والجيش البريطاني تأتي بالمرتبة الأولى قبل الأعتبارات الأخرى). ثم أغلق الموضوع تاركين الأستنتاج المبين للبريطانيين والناس أجمع الذين أنقسموا على أنفسهم بين مصدّق للأنتهاكات وأصالة الصور وهم الأكثرية وبين مكذّب لها وهم الأقلية العظمى!! والأخيرة تعترف بوقوع تلك الجرائم أستنادا الى أعترافات الجنود البريطانيين فعلا لكن تدعي بأن الصور قد زوّرت، والأنكى من ذلك تم أتّهـام جهات أسلامية معينة بتزوير تلك الصور!!!
ولكن المسألة لم تقف عند هذا الحد بل أخذت ابعادا أخرى حيث تزايد الضغط المباشر على رئيس الوزراء البريطاني بالأستقالة من منصبه بسبب تورط الحكومة البريطانية والجيش البريطاني مع الجيش الأمريكي في حرب باطلة قامت على أكاذيب أمريكية محضة والأصرار الشعبي والحكومي على سحب القوات البريطانية من العراق حفاظا على سمعة بريطانيا من جهة وحفاظا على أرواح القوات البريطانية من موت محقق في العراق من جهة أخرى. والأمر زاد حدة عندما تزايدت الأنتقادات المباشرة والتحدي على رئيس الوزراء البريطاني حيث قام أثنان من المواطنين البريطانيين النشطاء المحتجين في ١٩ مايس برمي (كبسولتين مطاطيتين) من طحين لوّن باللون البنفسجي (سميتا بقنابل طحينية) على رئيس الوزراء أثناء ألقائه خطابا في مجلس العموم البريطاني مما سبب أحراجا شخصيا كبيرا له ولحكومته. وعلى أثرها أنفض الأجتماع مباشرة وارتعب المسئولون خوفا من أن تكون الكبسولتين عوامل أحيائية (لميكروب الأنثراكس أو مادة الرسين السامة جدا التي تؤدي الى الوفاة خلال ٢٤-٣٦ ساعة من الأستعمال) وكلاهما تعتبران من أسلحة التدمير الشامل وكلاهما تستخدمان في الحروب الأحيائية!!!
وتتيجة هذه الضغوطات الشعبية والحكومية أدركت الحكومة البريطانية حجم خطاءها الجسيم ومدى خطورة الموقف الحرج الذي أوقعتهم أمريكا فيه وكذلك أدراكها أن أستمرارها في السياسة الذيلية لأمريكا من شأنها أحداث زوبعة سياسية تؤدي الى سقوط حكومة العمّال في الأنتخابات المقبلة التي ستبدا في العاشر من حزيران المقبل والتي بدأ الناخبون بالتصويت من الآن. وكبادرة أولى لتنازل بريطانيا عن موقفها الخاطىء والمساند لأمريكا أمرت بأرجاء أرسال ٣۰۰۰ من القوات البحرية الى العراق الى شهر أيلول القادم لمواجهة المليشيات المسلحة المؤيدة لمقتدى الصدر في النجف وهي أكثر المناطق الحساسة للأدارة التحالف بعد الفـّلوجة. جائت هذه الخطوة في وقت تعتبر فيه القوات الأمريكية في أمس الحاجة الى القوات البريطانية لأستلام الموقف لحصار مدينة النجف بعد سحب الحكومة الأسبانية قواتها المسلحة منها أثر سقوط حكومة رئيس الوزراء الأسباني" أزنار" في الشهر الماضي في أسبانيا. هذا علما بأن هنالك خلافا غير ظاهر في العمليات العسكرية حيث ترفض الأدارة البريطانية وضع قواتها تحت أمرة القيادة العسكرية ألأمريكية بسبب الفرق في ألتقنيات الحربية بين الجيشين. وهذه المسألة ليست واضحة للمراقبين لحد الآن من ناحية كونها عملية تكتيكية من أجل كسب أصوات ١۰۰ من البرلمانيين لصالح توني بلير الى حين نجاح العمال في الأنتخابات أم أنها موقف ثابت في سياسة بلير الجديدة التي من شأنها أحداث فجوة كبيرة بين البلدين رغم تصريحات مسئولي البلدين بأن أهدافهما في العراق هي أهداف مشتركة وغير قابلة للتغيير!!
وأخيرا وبعد هدوء عاصفة أرسال القوات العسكرية البريطانية الى النجف تلبية لأدارة بوش أعلن السيد بلير رغبته الشديدة وتمسكه بمبادئه ونظرته الى مستقبل بريطانيا في بقاءه في السلطة لقيادة حزب العمال والحكومة معا وتحديه لمعارضيه الذين يلّمحون تارة ويضغطون علية تارة أخرى بضرورة الأستقالة. أما بقاءه كرئيس للوزراء بعد الأنتخابات المقبلة فأن ذلك متروك للشعب البريطاني حسب قوله. ولكن سياسته الداخلية تعد من السياسات الناجحة من حيث توفير فرص عمل أكثر للمواطنين وتحسين ظروف الخدمات الصحية وتحسين ورفع مستوى التعليم تعد من أولويات سياسته التي نجح فيها طيلة مجيئه للسلطة منذ ثمان سنوات. لكن سمعته السياسة قد تأثرت تأثيرا سلبيا بسبب غزو العراق برفقة الأدارة الأمريكية وفي ظل غياب الدعم العالمي له وما تلاه من نتائج سلبية للأحتلال المسلّح. وتصريحاته الأخيرةالنابعة من نظرته للأمور تـّلمح بما معناه: المستقبل المشرق للعراق (حسب فلسفته الخاصة) وعندما ينتهى العمل في أنتخاب حكومة عراقية في يناير ٢۰۰٥ حيث تبدأ القوات البريطانية بالأنسحاب من العراق. وعبـّر كذلك عن ثقته الكاملة بأنتهاء هذه الزوبعة التي تكاد تسقطه مؤكدا عدم وجود فرق بين نظرته الشخصية والنظرة الأمريكية على مجريات الأمور الخاصة بالعراق عندما يسـّلم الحكم للعراقيين!! وفي رده على سؤال حول السخط الشعبي ضده وحول أرتمائه في حضن الأدارة الأمريكية للجمهوريين وحول العلاقة الحميمة التي تربطه مع الجناح اليميني بزعامة بوش والمسألة العراقية ونتائجها على حكومته أجاب : بأنه يشعر بارتياح كزعيم لحزب العمال من أنه يحارب التهديدات الأرهابية بكل جدية لضمان مجتمع عصري خال من التهديدات !! غير أنه تجـّنب الرد على سؤال حول افتقاره لأية خطة دبلوماسية حول حليفه القادم "جون كيري" المرشح الديمقراطي للولايات المتحدة الذي سيسقط جورج بوش في أنتخابات نوفمبر القادم... غير أنه ألمح بعدم أعتقاده حول جدية الشعب الأمريكي لأنتخاب "كيري" خلفا لجورج بوش.
ومهما حصل وسيحصل من متغيرات على الساحة البريطانية فأن أمريكا التي تقود العالم بلا منازع تبقى مستخـّفة بجميع القيم والمبادىء العالمية وبالأرادة الدولية بدأ بالأمم المتحدة وأنتهاءا بأصغر دولة على الكرة الأرضية، فأن لها القول الفصل في مستقبل العراق والعراقيين. وألأمم المتحدة صامته صموت الخرساء لا حول لها ولا قوة أمام الغطرسة الأمريكية المتواصلة. وبالأمس أصدرت الأرادة البريمرية – بدلا من الأمم المتحدة- فرمانا خاصا بتنسيب الدكتور أياد علآّوي رئيسا للوزراء للحكومة العراقية المقبلة. أن هذا الأجراء كان متوقعا من أدارة الأحتلال لتوفر الصفات النوعية التي يتصف بها "الدكتور أياد علاوي" أولها علاقته الطويلة بالمخابرات الأمريكية و(بعثيته السابقة) وعلمانيته و كونه من شيعة العراق . وهي أي هذه الصفات - حسب الفلسفة البريمرية - صفات توفيقية تجمع العديد من المواصفات الواجب توفرها لاسترضاء أكثرية العراقيين .
نتمنى للدكتور علاوي التوفيق في مسعاه لخدمة العراقيين جميعا بالعدل والمساوات ورفع الظلم عن المظلومين والدفاع عنهم وأعطاء كل ذي حق حقه والمحافظة على وحدة العراق أرضا وشعبا وأن يكون وجهه مبعث خير للجميع ونهاية للمأساتنا الطويلة.