(مبدأ المواطنة لدى تركمان العراق ومعاناتهم مع السلطات العراقية (الجزء الثاني
في الحقيقة تعود بدايات هجرة العوائل التركمانية ومغادرتها لمدينة كركوك – قلب التركمان النابض – الى بغداد الى نهاية الخمسينات في فترة المد الأحمر وبالأخص بعد أحداث مجازر كركوك البشعة في تموز 1959 التي أستشهد فيها الكثير من المواطنين التركمان الأبرياء على أيدي الشيوعيين العراقيين بعضهم من الفئات الكردية من مؤيدي عبد الكريم قاسم (١). ثم قام هؤلاء بنشر أشاعات أستفزازية في صفوف التركمان تتضمن التهديد والوعيد بأحتمالية تكرار هذه المجازر في السنوات القادمة. ولم تكن بدايات الهجرة بارزة للعيان بل كانت على شكل حالات خاصة تتضمن قيام بعض التركمان بشراء أو تأجير متجر أو منزل في احدى أحياء أو مناطق بغداد الواسعة ثم تنتقل وتلتحق العائلة بشكل كامل لرب الأسرة تحت عدة ذرائع منها التجارة أو التعليم أو نقل الوظيفة الخ... ألاّ أن الستينات وبداية السبعينات شهدت خروج آلاف العوائل التركمانية وبشكل علني وهجرتها الى المحافظات الأخرى وأخص منها بغداد.
والسبب الثاني في هجرتهم هو أنه أشيعت قيام البعض من كل من العرب والأكراد بأتهام التركمان بــ(الطورانية) ولصق هذه التهمة بهم وتضخيمها وجعلها عقدة فيهم.. يجب التخلص منها!. وقد لاحقت هذه التهمة ومازالت الكثيرين من دعاة القومية التركمانية بل بكل من يرفع صوته منهم دفاعا عن حقوقهم المشروعة بغية الأساءة أليهم لتشتيتهم والأ نتقاص من وطنيتهم وحتى تخوينهم من قبل الخصوم والكارهين لهم في محاولة لصهرهم في المجتمع العراقي. أما سر ومنشأ هذه التهمة الباطلة فيعود الى أعقاب أنتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وبدايات نشوء الدولة العراقية في 1920 هو الأستعمار البريطاني نفسه. فقد أشاع الأستعمار البريطاني في تركيا فكرة أن الأقليات التركية التي ظلت خارج الحدود الدولية لتركيا أي في الأقطار المجاورة لها كالعراق ، وسوريا وأيران والأردن وشمل ذلك أيضا أتراك شمال أفريقيا أن من شأن هؤلاء خلق مشاكل سياسية لتركيا الفتية قد تؤدي الى عرقلة نموها!!. ومازالت هذه الفكرة رائجة ولحد الآن في أوساط السياسيين الأتراك بحيث يحاول البعض - وللأسف- تجنّـب التعرض لها في مناقشاتهم الرسمية. ويستغلها الأوربيون في أستخدامها أحيانا لنغـز تركيا بها والتلميح لها من مغبة التورط بالدفاع عن أتراك العراق وتهديدها بعدم قبول عضويتها في الأتحاد الأوربي الذي تحاول تركيا جاهدة الأنضمام له بأي ثمن.
وهذا أيضا أحد الأسباب الكامنة في التجاهل المتعمد من قبل المجتمع الدولي لحقوق التركمان في العراق وأثارة العرب والحكومات العربية ضدهم. ومنذ ذلك الحين أصبحت تهمة (الطورانية) طبخة جاهزة وهاجس أجهزة الأمن والمخابرات لجميع الحكومات التي وصلت الى سدة الحكم في العراق (٢). والجدير بالذكر أن جميع تلك الحكومات فشلت فشلا ذريعا في أثبات وجود تنظيم طوراني في صفوف تركمان العراق لسبب بسيط جدا هو عدم وجود مثل هذا التنظيم أساسا في صفوف المجتمع التركماني. أما سبب كره الأستعمار البريطاني للشعوب (الطورانية) أي التراك والتركمان والمغول والتتار وغيرهم ... فهو أن هذه الشعوب تمتلك صفات عسكرية استثنائية ومقدرة على الحكم والأدارة الأنجاز مما هيأت لها الأستيلاء على القسم الأعظم من العالم بقيادة جنكيز خان وخلفاءه (١۲١۰ – ١٢٦٠) ومن قبل السلاجقة والتركمان وأخيرا الأتراك العثمانيين الذين وطدوا حكمهم بأسم الأسلام زهاء ستة قرون في أرجاء واسعة من العالم . فتأريخ الأتراك تأريخ حافل بالعنفوان العسكري والسياسي على أرجاء واسعة من العالم مما حمـّل أعداءهم الى ضمر الحقد لهم الى الأبد والخشية من تكرار عودتهم الى مسرح العالم من جديد. ولما كان التركمان جزء من ذلك التأريخ المجيد فلابد للأستعمار والحكومات العراقية بضمنها الأحزاب والحركات القومية الأخرى في العراق أن تتأثر بهذه الأفكار العنصرية بغية محاربة التركمان وقمعـهم بشكل مستمر.
والسبب الرابع هو تواجدهم وتركزهم في كركوك الغنية بالبترول يعني حوزتهم على مراكز أقتصادية وتجارية لعصب الحياة في العراق أثار حفيظة الحكومات وتخوفهم من أن يمسكوا بزمام الأمور و يتحولوا الى قوة سياسية في مستقبل البلد. فكان لابد من تشتيتهم وبعثرتهم في أطراف العراق لكي يتفرقوا وتضعف قوتهم ويذوبوا في المجتمع العراقي ثم لا تقوم لهم قائمة.
ومما يثير أشمئزاز التركمان صدور بعض القرارات من قبل (مجلس قيادة الثورة) للنظام البائد بتشجيع العرب الزواج من نساء التركمان مقابل قطعة أرض سكنية في كركوك ومبالغ نقدية على شكل مكافئات تصل الى عشرة آلاف دينار (عندما كان الدينار العراقي يعادل 3.3$ دولار أمريكي)!! وكذلك قرارات خاصة بضرورة أستحصال موافقة الأستخبارات العسكرية عند زواج الضابط التركماني (المطـّوع فقط ثم شمل الأحتياط فيما بعد) من تركمانية وبعكسه فأن القرار يتضمن المحاكمات الخاصة وعقوبة السجن للضابط وطرده من الخدمة العسكرية. وكاتب هذه المقالة كاد أن يقع ضحية القرار العنصري المجحف هذا والوقوع في المصيدة أثناء أجراءات التسجيل في السجلات الخاصة عند المحكمة الشرعية في كركوك في تموز 1983 حيث كان التركيز على فقرة القومية وضرورة أستحصال الموافقات ألستخباراتية المطلوبة قبل المثول أمام القاضي لولا أخراجي لهويتي المدنية وأنكار هويتي العسكرية أمام القاضي!!!
ومن الجدير بالذكر أن تزواج التركمان (من كلا الجنسين) مع القوميتين (العربية والكردية) كان ومازال سببا قويا في تناقص نفوس التركمان في العراق بشكل مستمر وذلك بسبب تسـّلط القومية العربية على أعتبار العراق بلد عربي واللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلد وبالنتيجة طغيانها على القومية التركمانية. والحالة هذه تتخذ شكلا مشابها مع الأكراد حيث الأعتزاز العالي للأكراد بقوميتهم وبلغتهم الكردية مما ينهي المطاف بهذا الزواج أن يكون الأطفال أما عربا أو كردا ويختفي التركمان أختفاءا كاملا حتى في السجلات الرسمية نتيجة ذوبانهم بهما كذوبان السكر في الماء الحار. ولما كان تعريف معنى القومية أنها "الشعور بالأنتماء الى قوم يتكلمون لغة ما" فالنتيجة كانت لصالح العرب والأكراد حيث مصالحما الواضحة في كلا الحالتين وللأسباب أعلاه.
والأجراءات التعسفية اللا أنسانية الخاصة في نقل العوائل التركمانية الى بغداد والمحافظات الجنوبية والرمادي يعتبر سببا آخرا في ضياع التركمان وأنخفاض نفوسهم الى أدنى المستويات. فقد عايشت شخصيا بعض العوائل والأسر التركمانية النقية والمعروفة أبا عن جد في كركوك ...فبعد هجرتهم الى بغداد ولد لهم أبناء لا يتكلمون التركمانية نهائيا. وعندما تسألهم ما قوميتك؟ فيردون بأنها عربية!! ولا غرابة في ذلك فأن البيئة والمجتمع الذي ينشأ فيهما الأطفال تؤثران على طبيعة تكوين شخصية الطفل حيث تعتبر اللغة جزءا منها. هذا ناهيكم عن أستحالة الأنتقال المعاكس للتركمان من بغداد الى كركوك الاّ بموافقات خاصة من قبل القيادة!!
وفي أيام الدراسة الجامعية في بغداد ... في بدايات السبعينات كنا نحن شباب التركمان تحت المراقبة المستمرة من قبل طلبة الأتحاد الوطني وكانت الأعين تراقبنا حتى عند جلوسنا في النادي وقت الغداء أو في جلسات عادية عند اللقاء مع بعض زملاءنا الآخرين. والمراقبة كانت تشـتد عندما نطيل الجلوس معا( وكأنـنا مجتمعون للتخطيط في أنقلاب ضد الحكومة!) وكانت المضايقات والأنتقادات العنصرية اللاذعة جاهزة من قبل زملاءنا العرب عندما نتكلم باللغة التركمانية فيما بيننا حيث كانوا يعلقـّون مباشرة: "ها شباب... بدأت العنصريات؟!". وكانت الغاية واضحة لسياسة حزب البعث في العراق حيث النطق باللغة التركمانية بالنسبة لهؤلاء كان جريمة نتهم عليها، و كانت بالنتيجة محاولات شخصية موجهة لزرع عقدة "التركمانية" في نفوسنا بغية التخلص منها... هذا ناهيك عن ملىء أستملرات الجرد المستمرة والتأكيدات على حقل القومية وجعلها عقدة مستديمة فينا. ومن مساوىء القدر أن بعض الشباب من الذين تعرضـّوا الى الأنتقادات العنصرية المستمرة أما أنزووا بعيدين عن الآخرين أو لجأ الآخرون الى التجاهل أو التنكر لقوميته والتنصـّل عنها وأعتبرها عقدة يجب التخلص منها!!. أما الذين قاوموها وصبروا على هذه الأنتقادات والمحاربات والمضايقات فقد كانوا تحت المراقبة والمحاولات المستمرة من قبل الطلبة الحزبيين حتى أعلان الولاء للحزب على الأقل!
ومن مساوىء القدر أيضا أن الفكر العربي الذي أنتهجه حزب البعث العربي الأشتراكي كان ينص وعلى لسان مؤسسه ميشيل عفلق بـ"أن كل من نطق العربية فهو عربي!!". لذا وحسب هذه الفكرة فأن التركماني والكردي والكلدوأشوري أصبحوا (أوتوماتيكيا) عربا حالما تكلموا بالعربية في بلدهم!!
والواضح أن المفاهيم القومية (أية قومية كانت) المجردة من مبادىء الدين الحنيف أو البعيدة عنه تتحول الى مفاهيم عنصرية خبيثة بحتة ... وبالنتيجة تعتبر أفكارا علمانية صريحة وبالأخص عندما يدعي القومي بأنه أفضل من غيره من الأقوام الأخرى ويحاول السيطرة عليه لألغاءه . وهذه الممارسات والأفكار الخاطئة شجعـّها وغذّاهـا أعداء الأسلام من المستعمرين والماسونيين وتيقـّنوا مبكرا بأنها خير وسيلة لزرع الفتن العرقية والتمايز القومي العنصري وللأيقاع فيما بين العراقيين في أحقاد عنصرية وفي عداء وأقتتال وحروب لكي ينخر الواحد بأخيه بغية تفكيك الشعب العراقي مستقبلا... وهذا ما حصل فعلا فيما بعد.
و قد سجـل التأريخ مواقف مشينة لقيادي النظام البائد وأخص منهم كل من "علي حسن المجيد" و "عزت الدوري" و اللذان كان يؤكدان وفي مناسبات عديدة (أن التركمان يجب أن يمحوا من خارطة العراق في غضون خمسة وعشرين سنة!!!) وفعلا هكذا كانت سياسة الحزب والأجراءات التعسفية العنصرية التي مورست ضد التركمان حيث كانت جميعها تصب في هذا النهج اللا أنساني. فالمعروف عن الأنظمة الديكتاتورية أن الولاء للقيادة هو الروح بالنسبة للأنسان والمجتمع فبه يستمران في الحياة ومن دونه لا حياة لهما وفي هذه الأنظمة يتحول المجتمع الى مجتمع قطيعي!
والشبكة العنكبوتية (٣) التي أنتهجها النظام من خلال الصراعات الداخلية الأثنية والقومية والمذهبية فيما بين أفراد الشعب الواحد وفـّرت للنظام بعض الأستقرار النسبي لكنه كان سببا في دمار البلد وهجرة العقول وهروب الكفاءات العلمية الى خارج الوطن.
فبعض العوائل التركمانية هاجرت الى تركيا هربا من جحيم التمايز العنصري بين أفراد البلد الواحد للعيش بأمان بعيدا عن المشاكل السياسية التي تفوق قدرتهم الذاتية. ومازالت هناك الآلاف المؤلفة من التركمان في مدن تركيا وعلى أمتداد أراضيها الواسعة يتطـّلعون للعودة الى بلدهم للعيش بأمان واستقـرار عندما يؤمـّنون على مستقبل أجيالهم القادمة من الضياع بين أمواج العنصريات البغيضة ومحاولات الطغيان من قبل الأعراق الأخرى الهاضمة لحقوقهم في بلدهم.
فالتركمان كانوا ومازالوا يعتـّزون بقوميتهم لكن بدون تعنصر، وهم كانوا ومازالوا أيضا جزء لا يتجزأ وعنصرا رئيسيا من العناصر المؤلفة للشعب العراقي، شاركوهم سـّرائهم وضرّائهم وأراقوا دمائهم في حروبه وحركاته الوطنية والتحررية ولكنهم لم يحصلوا على أعتراف لحد الآن ليتناسب مع نفوسهم العالية و التي يجب أن تظهر بعدالة في عملية الأحصاء القادمة، وأسهاماتهم الجليلة في حياة العراق السياسية والأجتماعية والعسكرية والثقافية. والتركمان يرفضون أيضا الوصاية من الآخرين ويرفضون كذلك عمليات الأنصهار تحت أية ذريعة كانت ويطالبون الضمائر الحية (أن كانت ماتزال فيها الحياة) بأنصافهم وضمان حقوقهم المشروعة ضمن البلد الواحد أن كان ساسة العراق الجدد يفهمون معنى الديمقراطية وحقوق الأنسان.
و للحديث تكملة....
المصادر:
۱). زياد كوبرلو "كركوك ليست كردية" مقالة في مجلة الأخاء (ٌارداشلق) العدد17 يناير-مايس ٢۰۰٣م.
۲). عزيز قادر صمانجي "التأريخ السياسي لتركمان العراق" دار الساقي – لبنان ١٩٩٩م.
۳). دائرة حفظ وتوثيق تراث التركمان " الشهداء التركمان صفحات نت التأريخ السياسي المعاصر لتركمان العراق" ١٩٧٩-١٩٩١م الجزء الأول ، دار الدليل للصحافة والنشر ١٩٩٩م.