كانت كركوك منذ الأزل وما زالت مركز استقطاب القوى الخارجية والداخلية لما تمتلكه من خزين أحتياطي هائل من البترول والكبريت أضافة الى خصوبة أراضيها الزراعية بسبب خلو تربتها من الأملاح ، أضافة الى طيبة أهلها وأنفتاحهم على الآخرين مما جلبت المصائب المتنوعة تلو الأخرى لها و لشعبها التركماني.
فعلى المستوى العالمي كانت الدول الغربية بشركاتها الضخمة ومازالت تسعى للحصول على امتيازات خاصة في العمل في تصفية البترول العراقي والحصول على حصة الأسد في الصفقات التجارية التي تعقد بين الدولة العراقية والشركات ألأجنبية التي كانت تتنافس فيما بينها وتطمع دائما للحصول على حق التنقيب والتصفية والتكرار والتسويق. أما على المستوى الداخلي فقد كان الكثير من العراقيين بمحتلف مؤهلاتهم العلمية والتقنية( وحتى العمال الغير ماهرين) وبمختلف توجهاتهم السياسية والعرقية يسعون للتوظف في شركة نفط كركوك ويتنافسون بينهم ولايترددون في نقل سكناهم وعوائلهم و قيد نفوسهم للسكن والعيش في كركوك - المدينة الجميلة بأحياءها ذات الطابع الخاص بأهلها وبهوائها الجميل المعتدل و بسبب موقعها الجغرافي بين الجزء الشمالي البارد والجزء الوسط الحار وكونها معبرا بين الأثنين. فكنا نرى فيها مختلف الملل والطوائف ومن كل المحافظات لكن رغم ذلك كان الطابع التركماني هو الطاغي على المدينة لكون الأغلبية الساحقة هم التركمان والدليل على ذلك تعلّم هؤلاء الموظفون اللغة التركمانية نتيجة الأختلاط بتلك الأكثرية فتعلموا لغة أهل المدينة. وقام آخرون بالتصاهر والزواج من أهالي مدينة كركوك بسبب تعلّقهم بها وكمبرر للبقاء فيها. وكنـّا - ونحن أطفال مدارس حين ذاك - لانستطيع التمييز بيننا وبين الأطفال الذين ولدوا فيها أو جاءوا أليها وتعـلّموا لغة أهل المدينة وأتقنوها مثلنا- بسبب ظروف عمل ذويهم في شركة نفط العراق (أسم مجمـّع البترول في كركوك).
ولبساطتنا لم نكن في حينها ندرك السياسات والمخططات العنصرية ولا الأستعلاء أو الطغيان القومي و لا الخطط الشيطانية وألأساليب الملتوية الخاصة في تغيير الجغرافية البشرية لمدينة كركوك حينما كان غيرنا يتحالف مع الأعداء و يعمل ويهندس في الظلام لتحقيق هذه الأهداف. فلم يكتف هؤلاء بالتنقل الى كركوك للعيش والعمل فيها للأسباب أعلاه بل تعرّضت كركوك الى موجات من الغضب والقهر السلطوي لتغيير طابعها التركماني قسرا من خلال نزوح موجات من العوائل العربية والكردية فيها وقيام السلطات الحكومية بأستقدام العوائل العربية من الجنوب وأسكانهم فيها وطرد العوائل التركمانية وتهجيرها منها ونقل أرباب العوائل الى المحافظات الجنوبية وبغداد بالذات. بينما كانت الحكومة تشـّجع زواج العرب منهم حيث كانت هنالك مكافأة لكل عربي قدره ۱٠٠٠ دينار (٣٣٠٠ دولار أمريكي) عند الزواج من فتاة تركمانية وكانت المكافأءات أكبرللضباط وأعضاء الحزب!!! وهذه الحقائق مثبتـّة في رسائل وخطابات رسمية صدرت عن مجلس قيادة الثورة والشعب العراقي أدرى بها جيدا. هذا ناهيك عن تطبيق قرار تصحيح القومية القسري المطبـٌّق على التركمان في السنوات الأخيرة قبل سقوط النظام.
وكنتيجة لهذه الأجراءات العنصرية واللا أنسانية بحق التركمان أنخفضت النسبة الحقيقية للتركمان على المستوى الرسمي اللافت للنظر - لا على المستوى الحقيقي . حيث أن الشعور القومي الأنساني العميق للتركمان بقي محبوسا في النفس البشرية تنتظر الفرج للتنفيس والخروج من الأسر الذي طال كثيرا مما أثـّر فيهم أكبر الأثـر.
ولكن ما أن أنجلى الضغط العربي السلطوي من قبل النظام البعثي حتى أدركنا أننا ما زلنا نواجه ضغطا قوميا عنصريا آخرا برز بعد سقوط بغداد واندحار السلطة البعثية . فقد أحتلت المدينة التركمانية من قبل قوات مسلّحة كردية (البيشمركة) المدفوعين من قبل الحزبين الكرديين الرئيسيين ونزوح أمواج من العوائل الكردية التي لم تر كركوك في حياتها قط ، ولا هي تستطيع التحدث باللغة التركمانية و لا النطق بكلمتين تركمانيتين أبدا بدعوى أنهم من أهالي كركوك الذين هجـّروا الى الشمال نتيجة سياسة التعريب الصدامية!!
ولا يمكن نكران أن القـلّة القليلة من تلك العوائل كانوا من سكنة كركوك قبل التهجير لكن المصيبة بالأكثرية الغرباء الذين حار المسئولين الأكراد في توطينهم في المدينة فسكنوا الخيم وغرف معسكر منظمات الطلائع المنتشرة فيها تمهيدا لتوفير منازل لهم بعد طرد العوائل العربية المستوطنة فيها.
ومن الملفت للنظر أن الأحزاب السياسية الكردية تقوم في الوقت الحاضربتطبيق نفس السياسة الصهيونية التي مورست في الأربعينات مع أهالي فلسطين العرب بعرض مبالغ عالية (وبالدولارات) تسيل لها اللعاب مستغلة الظروف المادية والنفسية الصعبة لأهالي كركوك لبيع بيوتهم وأراضيهم والخروج من كركوك. أضف الى قيام الأفراد المسلحون في ممارسة بعض الأنتهاكات المسلحة على مقراتهم الحزبية وأغتيال قادتهم وممثليهم وخلق جو من الفوضى الأمني واللا أستقرار لأ فزاع التركمان وأجبارهم على ترك مدينتهم والنزوح الى أماكن أخرى بغية الأستحواذ على ما يستطيعون من البيوت والأراضي السكنية للعوائل الكردية القادمون الى كركوك ضمن سياسة تغيير الواقع الجغرافي والقومي للمدن التركمانية تمهيدا لتكريدها.
لقد عان التركمان الحرمان من حقوقهم القومية طيلة أكثر من خمسة عقود من الأستغلال والقهر ومحو الهوية القومية والتعريب ومصادرة الحقوق الأنسانية على يد السلطات التي توالت على حكم العراق منذ ۱٩٥٨ ولحد ٢٠٠٣. ثم ختمها مجلس الحكم الأنتقالي الموقر بأنكار آخر لحقوقهم ضمن الدستور المؤقت الذي لاقى أستنكارا عراقيا عارما وعلى مستوى عال حال صدوره . فالتركمان و هم أهالي كركوك وأصحابها الحقيقيون أحتاروا في أمرهم!!! فالجميع يحاول أنكار وجودهم وحقوقهم في العراق والنيل منهم وقهرهم والأخلال بحقوقهم الأنسانية علما بأن مطالبنا غير تعجيزية - كمطالب الأكراد في الأنفصال وتقسيم العراق . فمطالب التركمان لا تتعدى الحقوق القومية والثقافية المشروعة ضمن سيادة العراق ووحدة أراضيه وتثبيت ذلك في الدستور الوطني وعدم المساس في الطابع الديموغرافي التركماني لمدننا التركمانية.
وفي غمرة الأدّعات الكردية المستمرة - و منذ سقوط النظام ولحد الآن- حول عائدية كركوك الى ما يسمى بكردستان ومحاولاتهم البائسة المستمية في تغيير وافعها القومي أجرى حزب الخضر يوم ۲۲\٠۱\٢٠٠٤ أستفتاءا من خلال الأنترنيت حول قومية مدينة كركوك بتوجيه سؤال واحد وصريح جدا وهو:
"هل تعتقد أن مدينة كركوك هي مدينة تركمانية أم كردية أم عربية؟؟
ورغم قيام الأعلام الكردي بأستنفار الأكراد في الداخل والخارج واستنجادهم للتصويت على كردية كركوك الاّ أن النتيجة جائت مخيّـبة لهم وسقط بذلك القناع الكردي وزيف الأدعاءات الكاذبة وعلى المستوى العالمي في عائدية مدينة كركوك للمناطق الكردية . أشترك في أدلاء الرأي ٥٧٤٠ شخصا فجاءت نسب الأستبيان كما يلي
هذه النتائج
موثقة في موقع الأنترنيت
(http://english.aljazeera.net)
تركمانية ٢٥٩٨ صوت مكونا نسبة ٤٥.٣٪.
كردية ۲٠۷۸ صوت مكونا نسبة ٣٦.۲٪.
عربية ۱٦۱ صوت مكونا نسبة ٢.٨٪.
مدينة حب وتآخي للجميع ۹٠٣ صوت مكونا ما نسبته ۱٥.۷٪.
ورغم كون مجموع عدد المساهمين في الأستفتاء قليل نسبيا الاّ أنه أفرز دلالات وحقائق عن تركمانية كركوك لايمكن تجاهلها ولاغض النظر عنها ولايمكن الأستخفاف بها مستقبلا. جاءت هذه النتائج ضربة مباشرة على فم القيادات الكردية الجاهلية التي مابرحت من أدعاءاتها المستمرة بأضفاء الصبغة الكردية عليها.
لقد نجح الأكراد في تكريد أربيل (وهي الأخرى مدينة ذات الأغلبية التركمانية 60٪) - عندما كان الأعلام التركماني في سباته العميق في العهد البعثي (تجنبا لبطشه العادل الذي لم يكن يرحم أحدا دون تمييز) حين أستثمرت القوى الكردية الوضع السياسي آنذاك بأستغلال سيطرتهم على المنطقة الشمالية تحت حماية الأمم المتحدة وخط اللاطيران (خط عرض 36)، وغياب السيطرة المركزية عن الشمال من جهة أخرى. وقد يقع بعض اللوم على القوى التركمانية في عدم الوقوف بحزم ضد عملية تكريد أربيل وأسباب ذلك معروفة لدينا أيضا. ولموضوع الطابع القومي والتوزيع الجغرافي لمدينة أربيل ومستقبلها شأن آخر لطرحها في حينه. غير أن الحال يختلف تماما الآن ولايمكن بأي حال من الأحوال أن يفلح الأكراد في مسعاهم في الأستحواذ على كركوك وسرقتها من أهلها هذه المرة.
ليس لنا أي علم بعد أين بات الأعلام العربي والصحافة الحرة لكشف الحقائق العامة عن وضع العراق عامة والتركمان خاصة للدفاع عنهم وأنصافهم. ولا نعلم لحد الآن أين تقوقعت القوى المناهضة للتمييز العنصري والمنظمات الأنسانية العالمية المنادية للسلام والأمن وحقوق الأنسان ولماذا عميت بصيرتها من سماع وقراءة ما يدور في حق تركمان العراق من أنتهاكات يومية متكررة على أيدي المحتلين والمتحالفين معهم من القوى الأنفصالية ضد شعب أعزل جـّرد من السلاح بعد أن جـّرد من حقوقه الأنسانية في بلده!!.