صدر مؤخرا في العراق خمسة دواوين شعرية جديدةكدلالة على أن الابداع الشعري رغم ظروف الحصار لازال حالة تشغل حيزا مهما من اهتمامات الشعراء التركمان الذين يحتلون مواقعهم في خارطة الشعر العراقي. ولعل هذه الاشارة تحمل أهمية تستحق الدراسة خاصة اذا علمنا انديوانين من الدواوين الخمسة قد تم طبعهما في هذا الزمن الصعب علىالنفقة الخاصة.
ديوان (رؤيا ـ الحلم) هو للشاعر البصير حسن كوره (۱٩۲٤ ـ ۱٩٩٥) الذي ولد بقضاء طوزخورماتو. وعلى الرغممن فقدانه لنعمة البصر، واصل الحياة بتفاؤل حيث اصبح التفاؤل وحب العمل والحياة الصفة الطاغيةلقصائده الشعرية. لم يكتف بأن يكون أحد فرسان الشعر التركماني الكلاسيكي بل نهل العلم حتى نهاية حياته فتعلم العربية والفارسية وتشبعت روحه بإبداعات الحضارة العراقية. عزم على إتقان اللغة الإنكليزية من خلال لقائه بالعاملين في شركة النفط. وقد طور معرفته باللغة الإنكليزية إلى درجة أن طلبة المرحلة الثانوية كانوا يقصدونه ليشرح لهم ما غمض عليهم من قواعدها. تعرف على مثقفين عراقيين مثل عبدالرزاق الحسني وعباس العزاوي وعلي الوردي إلى جانب شخصيات سياسية بارزة مثل نوري السعيد الذي كان معجبا بطلاوة حديثه وسلاسة اسلوبه مع مخاطبيه. عبرت قصائده دائما عن روحه الاشراقية المتفائلة وعن الهموم الوطنيةوالإنسانية.
لتذبل الأزهار وتسحق الورود
فآمالي لن تذبل لأن للقلب ينتظر يومه الموعود
ها قد مرت الليالي وبات انبلاج الشفق وشيكا
تغرب آلامنا لو أشرقت الشمس
وسيكون ذلك اليوم ربيعا آخر لنا
أما ديوان ( بو منيم خويرات كيوليم ـ رباعيات قلب) للشاعر فاروق فائق كوبرلو، وهو من مواليد (التون كوبري)۱٩٥۳، فيضم رباعيات هي بمثابة نوافذ يطل الشاعر منها إلى ضفاف الإنسانية الواسعة. والشاعر يسير في خطابه الشعري على ضوء الفنار الذي أضاءه مؤسس الشعر التركماني العراقي (نسيمي ۱۳٦٩ ـ ۱٤۱٧) وسار فيه من بعده أمير الشعر التركماني (فضولي البغدادي ۱٤٩٦ ـ ۱٥٥٦)، حيث يعتبر الشاعر تلميذا وفيا لأساتذته وهو ما يميز ديوانهالذي يؤسس فيه خطابه الشعري المفتوح على الهموم والأحزانالإنسانية و ينجح أيما نجاح في توظيف التراث الشعري التقليديفي معالجة قضايا معاصرة وهموم إنسانية نبيلة.
تحول قلبي إلى كربلاء
ينهمر الدم من كل مكان فيه
كماالدم
من جثمان الشهيد
فارقت عيني فجأة
مثل حلم سكران
انهمرت من السماء
مثل شذى الربيع
حفرتني مثل ناي
كي تسمع شجوني
ها قد فرغ الكأس
وأقفرت غرفتي
أما الديوان الثالث فهو عن حياة وشعر عمر آغا ترجيللي (۱٨٨٨ـ ۱٩٥٤) الذي تشبه حياته حياة أولئك المغامرين الأسطوريين الذين كان موقعهم دائما إلى جانب الفقراء. عاش الشاعر في بلدة ترجيل التركمانية التي تقع بين كركوك وبلدة ليلان. احتل مكانه بمسدسه الذي كان يحتفظ بها دائماوشعره إلى جانب الفقراء الذين جعل قضاياهم وهمومهم محور حياته وشعره في نفس الوقت. كان في حياته مثل أولئك الأبطال الأسطوريين الذين عاشوا لهدف نبيل. سكن مع عائلته في أطراف السليمانية وأطلق على القرية التي قام بإنشائها اسم (بريادي) تيمنا بالحي العتيد الذي كان يسكنه أجداده في كركوك ثم عاد بعد سنوات إلى بلدته (ترجيل). اشتهر بكراهيته للإنكليز وكان يملك أراض شاسعة تمتد من ترجيل إلى حي (بريادي) بكركوك إلا أنه اضطر إلى بيعها بعد أن أراد الإنكليز الاستيلاء عليها، انتقاما من موقفه الرافض لهم. وقد ظل يحتفظ بمشاعر العداء الذي انعكس على شعره ضد الإنكليز حتى نهاية حياته.
نيران بابا كركر
حجرها من الجوهر الأسود
تمتدكينبوع من الذهبإلى ما لانهاية
وقد أشرف على إعداد الديوان كل من الكاتبين بهجت مردان وأحمد قوشجي أوغلو، وكتب المقدمة لها مولود طه قاياجي. وقد أغنى الكتاب الثلاثة المكتبة التركمانية في العراق سابقا بإصدارات قيمة في مجال الشعر والنقد والتراث.
أماديوان ( كوياشلاريم ـدموعي) الصادر عن مديرية الثقافة التركمانية أيضا للشاعر د. جوبان حيدرالذي يعمل كأستاذ لمادة اللغة التركية في كلية اللغات بجامعة بغداد فهو يطل في كل قصائد ديوانهمننافذة يزاوج ويرادف همومه ومشاعره الفياضة بشكل متواصل تجاه من يحب وتجاه أمهوبين إحساسه كشاعر تجاه القدس والقضية الفلسطينية. حيث ترانيم أمه تذكره بترانيم الأمهاتالفلسطينيات مثلما تذكره طفلته بأطفال فلسطين:
أمي
أمي العزيزة
ترنيمتك
ترنيمة
الأمهات في القدس
حتى في أيام العيد، وهو يقبل يد أمه، يعقد صلة مباشرة مع الاحتفال بالعيد في القدس حيث الأحزان والاحتلال والغدر والقمع الصهيوني.
في القدس
يبكي الهلال، تبكي الشمس
تنتحب " قبة الصخرة "
في ذلك اليوم
تصبر الأمهات بجلد
وتبكي السماء
البيت الحرام يرتدي السواد
حزنا على القدس
أما ديوان الشاعر محمد مردان (بو آقشام دا سني ئوزله ديم ـ افتقدتك أيضا هذا المساء) الصادر عن مديرية الثقافة التركمانية، فيضم رحلة نابضة بالمشاعر المشرقة إلى حيث مرابع الطفولة وصفاء العلاقات الإنسانية في أحياء مدينته الحبيبة كركوك " بريادي، قورية مصلى، عرفة " متنقلا بينها في مطاف طويل بدأ منذ أعماله الشعرية الأولى. أن حب المكان الذي هو كركوك دائما، وحب الزمان والذي هو طفولة الشاعر وصباه يعتبر إحدى سمات محمد مردان الشعرية، وهي الصفة التي تميز شاعريته عن بقية الشعراء حيث الحب حالة ملازمة للشاعر الذي يشرك مدينته وأحيائها كشهود على مشاعره وانفعالاته وأحاسيسه العاطفية وتوقه إلى أيام الطفولة والصبا والحب.
كل عام
وأنت بخير يا كركوك
الليلة يرفع الجميع نخبك
حينما تودع الساعة
منتصف الليل
مدي يديك
واحضني أولادك
حذرينا من
أمواج بلا قرار
والطاعون الذي يحاصرنا
أشعلي شمعا بلا حساب
نهر"خاصه " يمتد بلا ضفاف
أحجاره تحلم بأصابع الماء
في الصحو
أينما توجهت فأنت هناك
في الشرق
في الغرب
في الشمال
في الجنوب
تلتمع عيناك في الجهة الخامسة
يؤمن العشاق
إن فراق الحبيب
هو رديف الموت
الموت في أحضانك
حياة دائمة
تيقني أنت أيضا
من ذلك يا كركوك
إن قافلة الشعراء التركمان الذين رفدوا وأثروا الشعر العراقي منذ قرون يواصلون بصمت وتواضع، وضع توقيع انتمائهم إلى أرض الوطن حضارة وشعبا في قصائد تفتح ذراعيها للإنسان والحب وللإشراق والتفاؤل حتى في زمن الحصار.
الطلسم
نصرت مردان
”هذه الدنيا لا تستحق إلا عفطة ! “
هذه هي الفلسفة التي تختصر رؤيته للحياة. فهو لا يهمه أن يكون ملكا أو صعلوكا في هذه المدينة. يكفيه أن يحس بآدميته، أن يقول احبك لمن يحب، وأن يلعن من يكره لسابع ظهر.
كان يشعر بأنه يمشي لوحده في الشارع، يكفيه فخرا أنه نشوان، ومن حقه أن يفلسف الحياة في هذه الساعة التي خرج بها من الحانة كما يريد.
الدنيا باب للظلم والغدر والخديعة …كن يقظا كي لا تلدغ من جحر مرتين. لكنه لدغ من نفس الجحر آلاف المرات، لصفاء سريرته، بل لسذاجته. لأيمانه بأن الأزرق ازرق، وليس بينهما طيف من الألوان. قضى سنوات من عمره ليتعلم هذه البديهية البسيطة.
كان كبر على احترام كل شيء. الحمام لأنه حمل الرسائل إلى المسلمين ضد كفار قريش. والنحل لأنه يصنع العسل للبشر، والفراشة لأنها مملكة الألوان. . العسكري يحترم لأنه يحمي البلد، صوروا له دروب الحياة مفروشة بالورود، وقالوا له إن العسكر عماد الدولة وسندها.
لكنه تنبه إلى هشاشة عالمه هذا ووهمه أثناء الحرب. انتبه أن ما قالوه إنما هو وهم وخيال، وان الحياة صراع ديكة، وصراع اكباش، والشطارة أن تتعلم كيف تمسك النرد بين إصبعيك ليأتي دائما (دوشيش) دائما (دو شيش) تعلم ذلك حينما رأى معلم الرياضة سعدون، وهو ينهال عليه ضربا، بينما يتودد إلى ابن عسكري في الصف بمنتهى الرقة قائلا بوجه بشوش:
- باسل، لا تنسى سلم على بابا.
وكأنه ليس ذلك المخلوق الشرس، الذي يملأ الصف رعبا. كان عليه أن يتعلم الخسة وهو يشاهد زوج أخته دنيا، الذي (حفيت أقدامه) لكي يتزوجها وهو يتركها مباشرة دون كلمة وداع، ويبعث لها ورقة الطلاق بعد أن تم استئصال ثديها الأيمن عقب استفحال جرثومة السرطان فيه. . وأن يرى صديق طفولته موفق، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيه في قاطع (سوسنكرد) كطائر جريح. .
قالوا له، الدنيا دار للامتحان. . عرف دناءة هذا العالم، حينما ألقت سهام، بنفسها بين ذراعي أول رجل بعد مقتل موفق في الجبهة. . عرف أن الشيوخ، ليسوا أبواب النصح والزهد كما أوهموه، بعد أن شاهد جارهم البقال الحاج شاكر، وهو يغوي فتاة صغيرة بالسكاكر، و يستدرجها إلى الدكان ثم يغلق بابه في عز الظهيرة.
" هيكوا. . ليكوا " لعبة سرية كانت جارتهم (أم فضيلة) قد علمته إياها، وكانت تنتهي وهي تلقمه شفتيها الظامئتين. . أو بالأحرى تتناول شفتيه الصغيرتين في فمها الواسع. . " هيكوا. . ليكوا " التي لا يعرف معناها، ولا من أية لغة أتت. هل اخترعها هندي بائس، أشعلته الرغبة. . ؟ " هيكوا. . ليكوا " هكذا هي الحياة بكل بساطة : أخذ ورد. بيع وشراء، بذل وعطاء. . وتوقف حينما تذكر معلمهم الاستاذ نجدت، وهو يردد بحماس له و لأصدقائه في الصف " الحياة بذل وعطاء دون انتظار لنتيجة "، حتى رأى جثته تتمرجح على أشجار الكالبتوس في ظهيرة ۱٤ تموز قرب ساحة (القشلة) في كركوك.
ماله الليلة هل أصابه الجنون، فيحاول أن يختصر الدروس التي تصور تناقضات حياته، كشريط سينمائي يفوق تناقضاته أعتى الأفلام الهندية !. . تلك الدروس التي استخلصها من الحياة، بل من هذه الدنيا ال-. . لأول مرة لم يرغب أن يكمل العبارة التي تعود مؤخرا أن يرددها دائما بمناسبة أو بدون مناسبة. .
تأمل النجوم البراقة، وتنفس بعمق الهواء المنعش. هذا الهواء الذي يتنفسه، لا يتنفسه الآن كل أصدقائه الذين رحلوا. . نامق بعد أن أصابته الجلطة القلبية بعد أن وجد زوجته تخونه مع أقرب أصدقائه، وفاء وهي تلد وليدها الأول، عصمت الذي لم يحترم في حياته غير الخمرة، وهو يقع ضحية السرطان، سلطان، الذي سقط في الحمام استعدادا لقضاء سهرة غير بريئة مدعمة بالفياغرا، موفق في الجبهة الإيرانية، سمير في حرب الخليج، عادل في حرب الشمال. لو كانوا أحياء الآن لكانوا يعيشون تحت هذه السماء الصافية. .
" كل دقة في قلبي بتسلم عليك " ضحك على المبالغة التي في هذه الأغنية التي طالما يرددها وهو يتذكر صوت (نازك) المخملي. كم ستكون الجملة مضحكة لو ترجمت إلى لغة أخرى. اللغة الإنكليزية مثلا والتي تفكره دائما بمدرسه صبري في مرحلة المتوسطة، والذي كان يفتخر بحفظه العديد من مقاطع من مسرحية (هاملت) و(عطيل). . كان يرددها بين الطلبة الأغبياء التي لا يفقهون شيئا، محاولين إخفاء ضحكاتهم، بينما هو يتبختر في الصف منتفخا، وكأنه ديك يتهادى كبرياء أمام منافسيه من أبناء جنسه. وكان الأستاذ يرى أن الإنكليزية لغة حضارة. . وكان يقول ساخرا:
- حتى شكسبير العظيم قلبوه إلى عربي رغما عن أنفه، جعلوه شيخ زبير ! وقالوا أنه عربي سافر إلى انكلترة وفتح الله عليه فتعلم لغتها كأهلها. يا لدهاء العرب ! شكسبير العظيم (يقولها بالإنكليزية) تحول إلى شيخ زبير !
الخمر حرام ! لكنه حينما تناولها استطاع أن يقول للكلب كلب، وأن يقول للجميل، شكرا. استطاع أن يتحدى، وأن يقول للرفيق أبو ثائر (طز)، فقضى شهرا في الاعتقال، ثم أطلقوا سراحه، حين لم يجدوا تهمة يلصقونها به.
- هل تدعى خليل؟
التفت إلى مصدر الصوت فلم يجد إلى جانبه أحدا. انتبه إلى ظل صغير، يمشي حثيثا ملاصقا لظله. وجد كلبا صغيرا يمشي إلى جانبه. أراد أن يرفسه ليطرده بعيدا عنه، لكنه توقف فجأة ما ذنب هذا المخلوق البائس الذي وجد الأمان قربه ليرفسه، وهو الذي شبع ضربا ورفسا بالتأكيد من أطفال كل الأحياء التي مر بها ؟ داعب الكلب الشريد بحنو، رغم أنه يخاف الكلاب في ساعات الصحوة. سأله الكلب وهو يهز ذيله :
- ألا تدعى خليل !
ارتعب حينما لاحظ أن الكلب يكلمه، التفت حواليه مستغربا أن يعرف كلب شريد اسمه. وغمغم " اللعنة!. . ها قد أصبح كل شيء يكلمني، حتى الكلاب كالعادة بعد الكأس السابعة ! ثم قال محاسبا نفسه " من قال لك أنت تشرب، إلى هذا الحد يا حيوان ؟"
كان الكلب وظله يتابعانه بإصرار. أراد أن يتأكد من الكلب الشريد هو الذي يكلمه، جلس على حافة الرصيف، تحت عمود الكهرباء. وقف الكلب أيضا، أمامه وهو يهز له ذيله بمودة.
- هل أنت الذي تحدثني؟
قال الكلب بمودة، وهو يحس بالارتياح لأنه انتبه أن خليلا قد عرف من هو محدثه:
- أجل، أجل. . انه أنا. لكن قل لي هل تدعى خليل؟
أحس انه يعيش ليلة فريدة، ساحرة في غرابتها وسرياليتها: مدينة نائمة حتى النخاع، وكلب يسأله عن اسمه. كيف يتسنى له أن يعيش في هذه المدينة العابسة نهارا، مثل هذه اللحظات التي لا تصدق في ليلة انفلتت فيها كل مشاعره الحميمة من مساماتها. قال ضاحكا:
- أجل اسمي خليل. كيف خمنت ذلك؟
اخذ الكلب يهز ذيله بشدة من الانشراح والانبساط.
- حمدا لله. أخيرا وجدتك. منذ سنوات وأنا أتجول في أزقة المدينة وأحيائها، وأسأل كل من يقذفوني بالحجارة، أو الذي يتصدق علي بقطعة عظم : هل تدعى خليل ؟. . سنوات وأنا أسأل هذا السؤال في قيظ الصيف، وصقيع البرد دون أن يفهمني أحد. . أسأله في الليل والنهار. أسأل الصبي والشيخ دون ملل نفس السؤال:هل تدعى خليل؟
نفث نفسا من سيكارته في وجه الليل الذي احتضن نسيمه الدخان، وألقت به بعيدا. كان يعيش ليلة فريدة، ملتقيا فيها لأول مرة بكلب ناطق، معذب مثل إنسان بائس. فكر وظل ابتسامه سكرى ترتسم على شقتيه، لو أنه حدث يوم غد أصدقاءه عن هذه الليلة الغرائبية، هل سيصدقونه؟ مستحيل بل أنهم سيتهمونه مسبقا، بأن كل ما رأه هو من بركات الكأس السابعة، التي وحدها كفلت له أن يكون أول إنسان يلتقي بكلب شريد ناطق !. . أراد أن يستمر في استنطاق الكلب الظريف.
- اخبرني يا صاحبي ماذا تريد مني؟
- ادري انك تستغرب من أن يتحدث إليك كلب بلغة البشر. لا تستغرب، أنا لست بكلب بل كنت إنسانا مثلك.
أحس انه يعيش في طقوس قصة خرافية شبيهة بتلك الموجودة في قصص ألف ليلة وليلة. كلب يدعي أنه كان انسانا مثله، ويشاطره همومه!
استعذب الاستمرار بدوره في القصة الغرائبية.
- وكيف تحولت إلى كلب؟
بدا حزن دفين في عين الكلب. وبدأ يروي قصته :
- كنت ابن اكبر تجار كركوك، أحببت فتاة خلبت لبي. أحبتني هي أيضا، واترعتني من كؤوس الحب والغرام فترة طويلة. المشكلة أن والدها كان شرطيا، اشتهر في المدينة بشراسته التي لا مثيل لها. كنت مستعدا لقبول كل صنوف العذاب والهوان والسجن من اجل حبيبتي. لكن هذا الرجل الشرير، بدلا من ذلك استدعاني إلى بيته، واستغربت هدوءه معي. وكان يجلس معه في البيت شيخ وقور. قال لي، اسمع يا بني، أنا على استعداد لتزويجك ابنتي، فأنت من عائلة مرموقة. . وظل يطيل الحديث معي. في خلال حديثه كان الشيخ يشعل البخور، ويردد كلمات مبهمة. فجأة أحسست بالأرض تميد بي، وبوالد حبيبتي يرفسني، ملقيا إياي خارج البيت. كان يبدو وكأنه اصبح عملاقا في نظري. لكنني رغم ذلك سمعت الشيخ يقول له:
- حولته إلى كلب. سيهيم في الطرقات لن يفهمه أحد إلا من يدعى خليل، ولن يعود إلى حاله إلا بعد يردد ذاك الرجل:
سبع سبعات
سبن سباع
والسبع ما ظلو
صباع..
قهقة ضاحكا. كان في أوج انتشائه ومرحه. وكان مصرا أن يعيش هذه الليلة الفريدة حتى نهايتها.
- هل ستعود إلى حالتك لو نطقت بهذه الكلمات المضحكة ؟
بدت اللهفة والرجاء على الكلب، الذي اخذ يتمسح به بانكسار:
- هذا ما قاله الساحر الشرير. إنها كلمات الطلسم الذي سيعيدني بعد سنوات العذاب إلى أهلي وأحبائي.
- غالي والطلب رخيص يا صاحبي الطيب :
سبع سبعات
سبن سباع
والسبع ما ظلو
صباع..
أحس بالأرض تميد به. لم يعد يرى الكلب، بل وجد إلى جانبه شابا يبدو طويلا كالعملاق. يقول له :
- شكرا لك يا خليل.
ثم ينطلق كالريح لا يلوي على شيء، بينما بقي هو يعوي في شوارع كركوك حتى الصباح !
أسماك – ل
أسماك
صالح مصطفى
لو حكت الأسماك الناجية من شباك الصيادين
الذي جرى لهن لأبناء جلدتهن
لكان الصيادون الآن يأكلون التراب بسبب بطالتهم.
لكن بني الأسماك هؤلاء يبدون حقودين
أو بلا عقول
و ألا بماذا نفسر صمتهم ؟
لا أدري .
ربما لا لغة لهم كي يفهموا الآخرين
هذا ليس بعذر
فهناك لغة الإشارات بديلا.
لغة الإشارات تتطلب وسائلا كالأيدي
و العيون و الحواجب التي فوقها
و هؤلاء لا أيادي لهم
و حتى الحواجب لا يملكون.
فقط ، لبعض الكبار منهم عدة شعيرات على جوانب أفواههم
لا تنفع سوى للعمل كشرطة .
أسماك
صالح مصطفى
لو حكت الأسماك الناجية من شباك الصيادين
الذي جرى لهن لأبناء جلدتهن
لكان الصيادون الآن يأكلون التراب بسبب بطالتهم.
لكن بني الأسماك هؤلاء يبدون حقودين
أو بلا عقول
و ألا بماذا نفسر صمتهم ؟
لا أدري .
ربما لا لغة لهم كي يفهموا الآخرين
هذا ليس بعذر
فهناك لغة الإشارات بديلا.
لغة الإشارات تتطلب وسائلا كالأيدي
و العيون و الحواجب التي فوقها
و هؤلاء لا أيادي لهم
و حتى الحواجب لا يملكون.
فقط ، لبعض الكبار منهم عدة شعيرات على جوانب أفواههم
لا تنفع سوى للعمل كشرطة .
اصدارات جديدة توسع فضاءات الشعر التركماني العراقي
نصرت مردان
صدر مؤخرا في العراق خمسة دواوين شعرية جديدةكدلالة على أن الابداع الشعري رغم ظروف الحصار لازال حالة تشغل حيزا مهما من اهتمامات الشعراء التركمان الذين يحتلون مواقعهم في خارطة الشعر العراقي. ولعل هذه الاشارة تحمل أهمية تستحق الدراسة خاصة اذا علمنا انديوانين من الدواوين الخمسة قد تم طبعهما في هذا الزمن الصعب علىالنفقة الخاصة.
ديوان (رؤيا ـ الحلم) هو للشاعر البصير حسن كوره (۱٩۲٤ ـ ۱٩٩٥) الذي ولد بقضاء طوزخورماتو. وعلى الرغممن فقدانه لنعمة البصر، واصل الحياة بتفاؤل حيث اصبح التفاؤل وحب العمل والحياة الصفة الطاغيةلقصائده الشعرية. لم يكتف بأن يكون أحد فرسان الشعر التركماني الكلاسيكي بل نهل العلم حتى نهاية حياته فتعلم العربية والفارسية وتشبعت روحه بإبداعات الحضارة العراقية. عزم على إتقان اللغة الإنكليزية من خلال لقائه بالعاملين في شركة النفط. وقد طور معرفته باللغة الإنكليزية إلى درجة أن طلبة المرحلة الثانوية كانوا يقصدونه ليشرح لهم ما غمض عليهم من قواعدها. تعرف على مثقفين عراقيين مثل عبدالرزاق الحسني وعباس العزاوي وعلي الوردي إلى جانب شخصيات سياسية بارزة مثل نوري السعيد الذي كان معجبا بطلاوة حديثه وسلاسة اسلوبه مع مخاطبيه. عبرت قصائده دائما عن روحه الاشراقية المتفائلة وعن الهموم الوطنيةوالإنسانية.
لتذبل الأزهار وتسحق الورود
فآمالي لن تذبل لأن للقلب ينتظر يومه الموعود
ها قد مرت الليالي وبات انبلاج الشفق وشيكا
تغرب آلامنا لو أشرقت الشمس
وسيكون ذلك اليوم ربيعا آخر لنا
أما ديوان ( بو منيم خويرات كيوليم ـ رباعيات قلب) للشاعر فاروق فائق كوبرلو، وهو من مواليد (التون كوبري)۱٩٥۳، فيضم رباعيات هي بمثابة نوافذ يطل الشاعر منها إلى ضفاف الإنسانية الواسعة. والشاعر يسير في خطابه الشعري على ضوء الفنار الذي أضاءه مؤسس الشعر التركماني العراقي (نسيمي ۱۳٦٩ ـ ۱٤۱٧) وسار فيه من بعده أمير الشعر التركماني (فضولي البغدادي ۱٤٩٦ ـ ۱٥٥٦)، حيث يعتبر الشاعر تلميذا وفيا لأساتذته وهو ما يميز ديوانهالذي يؤسس فيه خطابه الشعري المفتوح على الهموم والأحزانالإنسانية و ينجح أيما نجاح في توظيف التراث الشعري التقليديفي معالجة قضايا معاصرة وهموم إنسانية نبيلة.
تحول قلبي إلى كربلاء
ينهمر الدم من كل مكان فيه
كماالدم
من جثمان الشهيد
فارقت عيني فجأة
مثل حلم سكران
انهمرت من السماء
مثل شذى الربيع
حفرتني مثل ناي
كي تسمع شجوني
ها قد فرغ الكأس
وأقفرت غرفتي
أما الديوان الثالث فهو عن حياة وشعر عمر آغا ترجيللي (۱٨٨٨ـ ۱٩٥٤) الذي تشبه حياته حياة أولئك المغامرين الأسطوريين الذين كان موقعهم دائما إلى جانب الفقراء. عاش الشاعر في بلدة ترجيل التركمانية التي تقع بين كركوك وبلدة ليلان. احتل مكانه بمسدسه الذي كان يحتفظ بها دائماوشعره إلى جانب الفقراء الذين جعل قضاياهم وهمومهم محور حياته وشعره في نفس الوقت. كان في حياته مثل أولئك الأبطال الأسطوريين الذين عاشوا لهدف نبيل. سكن مع عائلته في أطراف السليمانية وأطلق على القرية التي قام بإنشائها اسم (بريادي) تيمنا بالحي العتيد الذي كان يسكنه أجداده في كركوك ثم عاد بعد سنوات إلى بلدته (ترجيل). اشتهر بكراهيته للإنكليز وكان يملك أراض شاسعة تمتد من ترجيل إلى حي (بريادي) بكركوك إلا أنه اضطر إلى بيعها بعد أن أراد الإنكليز الاستيلاء عليها، انتقاما من موقفه الرافض لهم. وقد ظل يحتفظ بمشاعر العداء الذي انعكس على شعره ضد الإنكليز حتى نهاية حياته.
نيران بابا كركر
حجرها من الجوهر الأسود
تمتدكينبوع من الذهبإلى ما لانهاية
وقد أشرف على إعداد الديوان كل من الكاتبين بهجت مردان وأحمد قوشجي أوغلو، وكتب المقدمة لها مولود طه قاياجي. وقد أغنى الكتاب الثلاثة المكتبة التركمانية في العراق سابقا بإصدارات قيمة في مجال الشعر والنقد والتراث.
أماديوان ( كوياشلاريم ـدموعي) الصادر عن مديرية الثقافة التركمانية أيضا للشاعر د. جوبان حيدرالذي يعمل كأستاذ لمادة اللغة التركية في كلية اللغات بجامعة بغداد فهو يطل في كل قصائد ديوانهمننافذة يزاوج ويرادف همومه ومشاعره الفياضة بشكل متواصل تجاه من يحب وتجاه أمهوبين إحساسه كشاعر تجاه القدس والقضية الفلسطينية. حيث ترانيم أمه تذكره بترانيم الأمهاتالفلسطينيات مثلما تذكره طفلته بأطفال فلسطين :
أمي
أمي العزيزة
ترنيمتك
ترنيمة
الأمهات في القدس
حتى في أيام العيد، وهو يقبل يد أمه، يعقد صلة مباشرة مع الاحتفال بالعيد في القدس حيث الأحزان والاحتلال والغدر والقمع الصهيوني.
في القدس
يبكي الهلال، تبكي الشمس
تنتحب " قبة الصخرة "
في ذلك اليوم
تصبر الأمهات بجلد
وتبكي السماء
البيت الحرام يرتدي السواد
حزنا على القدس
أما ديوان الشاعر محمد مردان (بو آقشام دا سني ئوزله ديم ـ افتقدتك أيضا هذا المساء) الصادر عن مديرية الثقافة التركمانية، فيضم رحلة نابضة بالمشاعر المشرقة إلى حيث مرابع الطفولة وصفاء العلاقات الإنسانية في أحياء مدينته الحبيبة كركوك " بريادي، قورية مصلى، عرفة " متنقلا بينها في مطاف طويل بدأ منذ أعماله الشعرية الأولى. أن حب المكان الذي هو كركوك دائما، وحب الزمان والذي هو طفولة الشاعر وصباه يعتبر إحدى سمات محمد مردان الشعرية، وهي الصفة التي تميز شاعريته عن بقية الشعراء حيث الحب حالة ملازمة للشاعر الذي يشرك مدينته وأحيائها كشهود على مشاعره وانفعالاته وأحاسيسه العاطفية وتوقه إلى أيام الطفولة والصبا والحب.
كل عام
وأنت بخير يا كركوك
الليلة يرفع الجميع نخبك
حينما تودع الساعة
منتصف الليل
مدي يديك
واحضني أولادك
حذرينا من
أمواج بلا قرار
والطاعون الذي يحاصرنا
أشعلي شمعا بلا حساب
نهر"خاصه " يمتد بلا ضفاف
أحجاره تحلم بأصابع الماء
في الصحو
أينما توجهت فأنت هناك
في الشرق
في الغرب
في الشمال
في الجنوب
تلتمع عيناك في الجهة الخامسة
يؤمن العشاق
إن فراق الحبيب
هو رديف الموت
الموت في أحضانك
حياة دائمة
تيقني أنت أيضا
من ذلك يا كركوك
إن قافلة الشعراء التركمان الذين رفدوا وأثروا الشعر العراقي منذ قرون يواصلون بصمت وتواضع، وضع توقيع انتمائهم إلى أرض الوطن حضارة وشعبا في قصائد تفتح ذراعيها للإنسان والحب وللإشراق والتفاؤل حتى في زمن الحصار.
جليل القيسي، حارسُ المدينة
قصيدة الشاعر العراقي مؤيد الراوي
1
رَأيتَ,
ما لم نرَ:
(في مِحْجَريكَ عينان ِمن عقيق)
أبصَرتنا، نَرحَلُ بريح ٍ خفيفةٍ تضربُ قلوعنا .
آملينَ الدَهْشةَ، نَحمِلُ جمرَ ما سيأتي،
وأنتَ بنَفْس الحريق الذي شَبَّ،
مَكَثْتَ
لِسَفينَة ٍ
تُبحِرُ
مِنَ
الماضي
تنتظرُ لها ماء الطوَفان .
شاخِصاً في الزمان ِ، تُرَتّبُ تاريخهُ
تضعُ هذا الشخصَ هنا
وذاكَ الشخصَ هناك
لا لِمَوَدّةٍ، و إنّما الأرواحُ هكذا،
تَتَخاصَمُ
وتتصالحُ
بَعدَ كلّ غمْر ٍ، فتأتي السفيتةُ جانحة ً
تبدأ برَتقِ قعرها
مثلما تُهَذّبُ بالكلماتِ طفلاً يتعلمُ الكلام،
ثمّ تنحَتُ من الصلصال سِفْراً
للبقاءِ، وسِفراً للرحيل
لأنّكَ
تَوَهّمتَ
وَ رأيتَ
ها نَحنُ هنا
أمامنا أقفاصٌ طافِحَة ٌ بالوَهمِ،
نداريها بالنوم الطويل
لنوهِمَ الوَهْمَ
وَنحَمّلُ أيامناعلى فراشاتٍ تَموتْ .
نحنُ هنا، مُقنّعونَ بالرضى،
في غُرَفٍ مُقفلةٍ
نفتحُ أحياناً، في خدَرِ الوهم، أبواباً على الليل ِ
لعَلّ من يأتي سَيُدْهِشنا،
بيدِهِ مسحاة ٌ يُقَلّبُ الصدور
أو يَحْمِلُ لنا عُيوناً، جاءَ بها من الماضي،
نرى بها
وجوهَنا
في شِحَّةِ الفانوسِ
نَرمي النَردَ ونقامر، مثل لصوص ٍ، على مَن سَيأتي .
وماذا سيأتي في المنام ؟
طائرٌ أو صَيّاد طائر
أو ربما عَرّافٌ
يسردُ سيرتنا الموجزة
ويقترحُ أن نذهبَ
معَ المُهَرّبينَ
إلى تلكَ البلاد .
ها نحن أصبحنا مُفلسينِ من الوَهم
لأننا
كَرّرنا ما رأينا
والأيّام كانت الأيام، تّنزَعُ جلودها كالأفاعي
لِيَمْضي بنا الوقتُ
بطيئا
ونحن
ننتظرُ
ريحاً أخرى تنشِرٌ لنا القلوع
2
رَأيْتَ
ما لم نرَ:
(في مِحجَرَيكَ مرجان ٌ يَشِفّ عن رؤى، فيُنذِرُ عن جحيم ٍ يتكوّن)
على جَبينِكَ المعروقِ من التتبّعِ وَشمٌ لدهشةِ الطائراتِ، تُحِبّ الحريقَ
وهيَ تحَلّق . توَسّعُ المدى وتوَسّعها، ثمّ تُعَمِّقُ للموتى قبورهم؛
جُنودٌ يَربحونَ الحَربَ
وجنودٌ يخسرون:
رهانُ مُضاربٍ على قِناع ٍ قديم .
دهشَة ٌ في العينين الكليلتينِ، حينما
يُفَسَّر الموتُ ــ برضى الضمير ِ ــ
دَعابة ً
أو لعبَة مقامر ٍ
تنبعثُ غيمة ٌ كالزعفران
تُغطّي القرى
وَتُفَسّخُ الأشجارَ
لِتُعلِنَ الناسَ إضمامة وقودٍ من فحَمْ.
أقوى منَ الإلهِ انتحال الأنبياء.
أعلى من السماءِ طموح الأدعياء.
يأتونَ مثلَ راءٍ مُزَيَّفٍ، راهنَ
على القوَّةِ
ولم يخسر الرهان .
رأيتَ
كُلاً في مَخبَأهِ
ووَجهُكَ مُكرَّرٌ في غرفةِ النوايا حتى تعَكرتْ.
الرأسُ مغمضُ العينين ِ
لِئلا ترى
كائنات من شقوق السقفِ تدعوكَ الى الوليمة
بأكفّها السكاكين.
راقَبْتَ الأفاعيَ تقتاتُ على الأطفال ِ
مُتسللة ً إلى المهدِ الذي تهدْهدهُ
وتعبث في الرمادِ المتبقي أمامكَ .
3
رأيتَ
ما لم نرَ:
(في وسْع ِ عينيكَ زُمُرّدٌ ويغطّي حاجبيكَ الذَهَبْ)
هوَ التنبؤُ بما سيأتي:
قدَرٌ يحمِلُ ألغازاً، تفَكِكُ أنتَ أسرارها،
وتداوي الناسَ ــ منسوخينَ منَ الخوفِ ــ
تُضمّدهم في الأسِرّةِ:
جُثثٌ تخَشّبتْ وجَفّتْ منذ عَهْدٍ
يَفعَلُ الحَطّابُ بها ما يريد.
مِبْضَعكَ في القلبِ نِواحٌ
وأبوابكَ إليهم مُضَيَّعة المفاتيح.
هكذا المدنُ والطرقُ والسماءُ والطعامُ مُفْسَدَةٌ
والماءُ الذي يغسلُ الخطايا
يَسكُبُ تعويذةً للخلاصْ،
لكنّهُ دُعاءٌ بِلُغةٍ مُبهَمَةٍ
يَتَحَدّثُ بها الشيطان .
تَعرفُ إن الحريقَ الذي سيأتي
يَجيءُ بَعدَهُ الطوَفان،
وتراهُ الأنَ ثِماراً فاسِدَةً:
تَرى بعَينَيكَ الأوْبِئَة َ واقِفة ً
راع ٍ يقودُ رَعِيّتهِ إلى الذئاب
وكلّ بابٍ موصَدَة دونهُ على دعاءِ الصلاة،
ومن يُصَلّي الفجرَ
يَخافُ غِياب الزمن.
4
رأيتَ
ما لم نرَ:
رَأيتَ في الضغينةِ حقولاً لا تتعافى
وفي بذورِ الشّرِ
يَكبرُ الأطفالُ.
يَدٌ من المجهولِ تَمْنَعهم، وأنتَ تعود إليهم عجوزاً من الكهوف،
على ظهركَ المنحني تحملُ كنوزاً
جَمَعتها من السماء ــ
حينما تخاصمَت الآلهة ُ رَمَتْكَ بالهدايا؛
أسفارٌ لمواعيدٍ لا تتحقق
وتداولٌ لِدَعوَة الإثم
يُبَيّنُ لكَ ما في الليل من إضاءات
تشغلكَ الكتابة ُ على الطين،
تأتيكَ وتنهضُ منها السماواتُ، والأنهارُ تفيض.
سماؤكَ رمادِيّة ٌ، ونَهركَ المرتجى طافِحٌ بالجثث
تخوض في لغةٍ أخرى وأنتَ مُتنقّلٌ في الماضي
تمسك بخوفٍ
أصابِعَكَ التبْحَتُ عن الكتابةِ: عِظامٌ ليست لكَ
تختبيءُ في عشبِ الصيفِ مثل طير ٍ مذعور
وأصابع غيركَ على الفأسِ موشومة ٌ
تخفي نيتها وتنزلُ على الرقبة.
فِخاخٌ هيَ اللغة،
والكلمات التي تنحتها مُكرّرة
ينصبها صيّادٌ مُحِبٌ للطيور
وأنت قد خبِرتَ
الكلماتَ
هيَ
مُجَرّدُ كلمات،
تمضي بها الى الممالكِ القديمةِ
ثمّ ترجعها، الى الأرض، بالحكمةِ التي لا تجدي.
لكنَ الأرضَ، كما ترى، أرضٌ
وهكذا العناصر الأخرى
لا تتغيّر.
هكذا
الخليقة ُهِيَ
لا تحَرَّفُ
و لا تضيَّعُ بالكلمات
5
رأيتَ
ما لم نرَ:
(مدينة من حَجَر ٍ يفيض كلّ عام نهرها ثمّ يَجفُّ . محروسة ٌ بهذا الإدمان وبتقادم الزمن)
الى صَحْن ِ داركَ الصخري لجأت ملائكةٌ،
نسِيَها اللهُ أو أهمَلها لِحِكمَةٍ
أخلتْ قلعَة َ " كركوكَ " للجنودِ
يَعقِدونَ صفقة ً مَعَ التاريخ، يأخذون مخالِبَه.
يَعبرونَ جسرَ المدينةِ الحجري، ليوصدوا أبوابَ " شاطرلو"
مَدخل الجَنّةِ مُغلقٌ
وفي رأسِكَ يَضيعُ ألَقُ المكان .
ترى جنوداً يلبسونَ دروعَ الماضي
يبنونَ القلاعَ
ثمّ يُهَدّمونَ أسوارَها
مُثقّلينَ بالحديدِ ــ تتلصص عليهم ــ يَحرثونَ حدائِقَ " ألماز"
وفي الفجر، خوفاً من الذئاب، يَصرخ الموتى على تلّة " دامر باش"
فتحمل لهم رفشاً ليهربَ اللصوص.
بعيداَ تتخفى عن "صاري كهية " وتحوم حولَ " عَرَفَه " المسوّر بالأخضر:
أماكنٌ لكَ
تحتفظُ بها، وتحفظها لنا كسوار الذاكرة.
غرباء جاء وا كخيال المآتى ؛ عابرو الصحارى ومُهَرّبو الجبال
يخلطونَ الرملَ بالثلج
يطبخونَ على نار ٍ هادرة
يَتخيّلونَ المُدنَ دَعْوَة وليمةٍ
تعطيهم الحجرَ ومنعطفَ الطريق،
لكنّ المدينة مبهمة ٌ
ولها روحٌ تحْرِسها الآلهة ُ
تخفي عنكَ نهوضها، وفي الأسرار ِ ميراثٌ
يُغني العُمرَ
وَيَقي المدينة
6
رأيتَ
ما لم نرَ:
من زمان ٍ يولدُهذا الطاعون هنا،
وكان هذا الحريقُ دوماً
ذريعَة ً للتطهّر
فأرَدتَ أن تأتي إلينا
هارباً
برداءٍ
وبمسوحِ
قِدّيس
غافِلاً بأنّ اليُتْمَ بين اليتامىعواءٌ
ينبعِث من نهش الكلاب
7
رأيتَ
ما لم نرَ:
(فصولاً مُقفرة ً، لا وردة تشعُّ في الذاكرة)
يعيدها الأمواتُ من زمان ٍ رماداً، أو
وجوهاً مُبهمة ً تنمحي، كما الأشباحُ؛
بحمى مريضٍ أو مَعْتوهٍ بماض ٍ
ينسجُ أطيافاً لِمؤونةٍ في المجاعة
جئناكَ صباحا، وفي أيدينا مرافئ للسفر
(كلّ بحر كانَ حديقة لزهورنا الذابلة)
جِئناكَ غرقى بالكحول مساءً
ثمّ هادنّاكَ بالحوارات وقت الظهيرة
نحمِلُ ناراً تُوَشّحُ بها غِبطتكَ الأليفة
فارس الوقتِ أسميناكَ،
وخيولكَ الخيال
أنتَ هنا، صَحوَة ٌ مُرتجى
وأنتَ هناكَ، بالتذَكر ِ،
زؤادَة ٌ في أكياسِنا . ونحنُ، كما ترى،
نُقلِّبُ السيرة َونعودُ إليكَ خفيَة ً
لِنأكلَ معاً فطورَ الصباح .
مِنْ زمان ٍ نخافُ معاً
أن يأتيَ الماضي، حاضراً أمامنا،
ثقيلاً نمسكهُ،
ثمّ نفحَصهُ،
غيْمَة من حديد
فتصبَحُ الفصولُ أمامنا مُقفِرَة ً.
8
رأيتَ
ما لم نرَ:
يَمضي الزمانُ بكَ كقطار ٍ عتيق،
يُسَيّرهُ اللهُ لكَ بطيئاً
لحكمَةٍ في الموتِ
أو لِنداءٍ من القيامة .
أيّامٌ يُلوّثُ دخانها العُمْرَ، ويوشيهِ بالسواد
مثل راياتِ الخطيئة؛
تُشجِّعُ الضرْبَ وتشقّ الصدور .
هيَ عُتْمَة ٌ إذا،ً
وأنتَ في الظلمَةِ تفتحُ الضوءَ للمشهَد:
ممثلونَ بأقنعةٍ، وحكواتيٌ تحتَ عباءتِهِ ضباع
يَجعَلُ الناسَ في الليل يطوفونَ
وعشاؤهم في صُحون ٍ من الدم.
ها نحنُ نرى
وأنتَ، أيضاً، ترى
في الضوءِ العَكِر ِ طقوصاً بأعراس ٍ مُلفّقةٍ تقام؛
خِرَقُ أعلامٍ يباركها اللهُ
مَعْقودَة ٌ سارياتها بالتعاويذِ لِوَجهٍ يتكرر
ماثلٌ بالتفويض يباركُ الجموعَ
فيَعودُ الطبّالونَ، هكذا، من البهجةِ
مُتْعَبينَ
غائبين
قادتْ مَزاميرُهم الناسَ الى البحر غرقى
9
رأيتَ
ما لم نرَ:
(في عينيكَ الدامِعَتينِ حيرة المعرفة)
الدمُ يوغِلُ في المدينةِ
يغسلونَ بهِ الأمواتَ
ويرتدونَ الكفنَ، بُردَة ً مُهَلهَلة ً من بياض .
البِلادُ مُسَوّرَة ٌ
والروحُ فاسِدَةٌ،
وأنتَ، في وليمَتكَ المستمرةِ ساحِرٌ
وحارس للمدينةِ
تُحضِرُنا في غفلةٍ من المحاصرينَ
تحكي لنا عَنِ الخَطايا
وعَنِ العِقابِ،
ماثلٌ كفأس ٍ
مكتوبٌ على الجبينِ
منذ الأزلْ
برلين / شباط 2003
(١) جليل القيسي قاص وكاتب مسرحي ولد في كركوك، شمال العراق . صدرت مجموعته القصصية الآولى " صهيل المارة حول العالم " في نهاية الستينيات، عن دار النهار اللبنانية، طبعت بملامح الحداثة للجيل آنذاك. عاش القيسي مع مجموعة كركوك التي غادرت العراق فيما بعد لمواقفها من الإبداع والحرية المضيقة عليهما تحت نظام البعث في العراق . وقد اتهمت بالتنكر للتاريخ العربي والتراث القومي (كذا) وقمعت مواقفها الليبرالية من الثقافة . وقد آثر القيسي، فيما بعد، مع اشتداد الحملة الإنزواء والصمت والبقاء في مدينته كركوك، شبه منقطع عن العالم وعن أصدقاء الشباب الذين هاجروا ورحلورا الى المنفى، على رأسهم أنور الغساني وسركون بولص وجان دمّو وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي . وطوال عقود، بسبب الدكتاتورية البعثية في العراق، لم يتم بينه وبينهم اللقاء أو حتى تبادل الرسائل . وأسقط جدار ثقيل ليحول دون المودة والحب القديم بين القيسي وخلية كركوك الثقافية.
(٢) شاطرلو، الماز، دامر باش، صاري كهيه، عرفه: أسماء قديمة لمحلات واماكن ومناطق في مدينة كركوك . وتشير أيضا الى جذورتركمانية . وقد قام النظام البعثي، وعلى نحو منظم، بتغيير هذه الأسماء، وبإجراءات أخرى في نطاق حملة تعريب المدينة .
بدايات الشعر التركماني العراقي في أرض الرافدين
عماد الدين نسيمي، مؤسس الشعر التركماني العراق
نصرت مردان
ان جهود بعض المثقفين مؤخراً في التعريف بالثقافة التركمانية العراقية، باعتبارها جزءا هاماً من موزائيك الثقافات الأثنية في العراق، تبقى بحاجة إلى التواصل، خاصة؛وأنهاتهدف في نهاية الأمر إلى تعزيز الانتماء للهوية العراقية الوطنية، وإلىاعتبار منجزات هذه الثقافة رافداً من روافد الثقافة العراقية المعاصرة.
فقدمت الحضارة العراقية على مر العصور، الكثير من المبدعين والنوابغ في مختلف المجالات الفكرية والثقافية. ويكمن سر هذه الديمومة الإبداعية في التنوع الثقافي العجيب الذي ظلت تستقبلهأرض الرافدين، وتذيبه في مياه نهريها الخالدين. ومن هذه الينابيع التي لاتزال تنساب، وتسقي حتى الثقافاتالتي خارج العراق، هي الثقافة التركمانية التي للأسف لم تأخذ حظها من التعريف والتحليل الذي تستحقه من المثقفين العراقيين و العرب. علماً أن تركمان العراق يعتبرون من طليعة و مؤسسي الأدب الناطق بالتركية منذ منتصف القرن الرابع عشر.
منذ ذلك التاريخ يواصل تركمان العراق عطاءهم الثر في كافة المجالات الثقافية والأدبية، لتأسيس ثقافة إنسانية معاصرة وأصيلة قائمة على تراثهم الشعري والثقافي الموروث والمتواصل منذ قرون عديدة على هدى أسلافهم الذين خدموا الثقافة والأدب والفكر الإنساني.
إلا أن ما يدعو إلى الأسف حقاً هو عدم إيصال مساهماتهم في الفكر والثقافة على مر العصور إلى المثقف العراقي خاصة والمثقف العربي عامة بالشكل المطلوب، رغم كونهم جزءاً لا يتجزأ من تاريخ العراق وشعبه.
إن خصوصية الروح العراقية جعلت الأدب التركماني يتميز، ويبرز في جميع البلدان والمناطق الناطقة بالتركية في أواسط آسيا وتركية وأذربيجان والبلقان. حيث قدم تركمان العراق لهذه المناطق الناطقة بالتركية اثنين من أهم وأبرز شعرائهم هما: سيد عماد الدين نسيمي (۱۳٧۰ ـ ۱٤۱٧)، و فضولي البغدادي (۱٤٩٤ ـ ۱٥٥٦).
عماد الدين نسيمي، مؤسس الشعر التركماني
يعتبر الشاعر عمادالدين نسيمي (۱۳٧۰ ـ۱٤۱٧)المولود بمنطقة ـ نسيم ـ بضواحي بغداد، المؤسس الحقيقي للشعر التركماني ومن أكبر الشعراء في تاريخ ادب الشعوب الناطقة بالتركية إلى جانب كونه شخصية بارزة في الفكر الإسلامي وخاصة في الدول الناطقة بالتركية. كما تكشف قصائده التي كتبها باللهجة التركمانية (وهو أول شاعر يكتب قصائده بها في القرن الرابع عشر) إطلاعه الموسوعي على معارف عصره. ويعتبر نسيمي في الوقت ذاته داعية وشخصية قيادية في المذهب(الحروفي) وهو مذهب صوفي ينادي بوحدة الوجود تعظم وتقدس الحروف والأرقام وتركيب الحروف في الكلمات. وتعتبر (الحروفية) الكون مظهراً للوجود المطلق. حيث الدنيا راسخة في علم الكون، وهذا الرسوخ يُعتبر تجلياً للكائنات، وتتأسس أحكام الحروفية على الحروف الثمانية والعشرين في العربية مضافاً إليها أربعة حروف إضافية (اللام ألف) التي تُقرأ عند بسطها أي كتابتها كما تُقرأ أربعة حروف إضافية هي (لام، ألف، ميم، فاء)وبذلك يصل عدد الحروف إلى إثنين وثلاثين حرفاً. على أثر انتشار الحروفية انتقل نسيمي من العراق إلى أذربيجان ومنطقة الأناضول لنشر المذهب الحروفي. وقد ترك الحروفيون في القرن الخامس عشر الميلادي اللغة الفارسية، وبدءوا باستعمال اللغة التركية، حيث كتب نسيمي في هذه الفترة ديواناً مع رسالة (مقدمة الحقائق) شرح فيه تفاصيل المعتقدات الحروفية. كما أثارت قصائده باللهجة التركمانية (وهي خليط من لهجة الأناضول واللهجة الأذربيجانية)أصداء واسعة في صفوف المتصوفة والأوساط الدينية. حيث دعا فيها نسيمي الإنسان إلى معرفة ذاته، على اعتبار إن أسرار الكون وأسرار الخليقة تتجلى فيه.
في الميثولوجيا الشرقية، يمتلك الملك جمشيد الأسطوري كأساً إذا إمتلأت بالشراب ظهر فيها كل ما يحدث في الكون، وكان نسيمي كثيراً ما يطلق عل عقل الإنسان أسم كأس جمشيد.
روح الإله تكمن فيك
وأنت خمرة في كأس جمشيد
إستعمل نسيمي أنماطاً شعرية سائدة في الشعر العربي والفارسي كالغزل والرباعية والمثنوي. وقد تمكن من أن يكون أول شاعر عراقي ينظم باللهجة التركمانية قصائد تضاهي ما هو مكتوب في الشعر العربي والفارسي الكلاسيكي مضيفاً إليها نفحات شعرية تعبر إن إيمانه بالمعتقدات الحروفية.
في وجهك أظهر الحق اليوم
الحروف جميعها برهاناً على أنه أنت
توحد العاشق والمعشوق
وزال الفرق بين اللاء والنعم
ظل نسيمي طوال حياته متأثرا لمصير المتصوف الكبير الحلاج مرددا ذكره باحترام وتقدير بالغين. غير مدرك أن القدر يخفي له مصيرا شبيهاً بمصير الحلاج.
أقول دوماً ((أنا الحق)) لأني بالحق منصور
من ذا الذي يتناساني وشهرتي تعم الآفاق
قبلة الصادقين أنا، وعاشق المعشوقين
السماء السابعة أنا، وناصر المظلومين
أنا موسى إذ أناجي الحق دوماً
يتجلى قلبي أبداً في طور سيناء
أترع كأس الوحدة منذ الأزل
منذ الخليقة أنا نشوان ومخمور
أنى توجهت عيناي هناك أبصر المحبوب
تأخذني البهجة وأفرج الكرب بالكرب
شاهد الحبيب أنا والكون والأفلاك
النطق الرباني أنا في كل اللغات
كياني مرآة للكون والآفاق
أنا صورة الرب، المستور عن البشر
جوهر نسيمي أنا، كاشف الأسرار
مجنون أنا ومتوله،
أُنظر لي كم أنا ظاهر.
يستعمل نسيمي ضمير المتكلم (أنا) في قصائده ليس تعبيراً عن ذاته بل للدلالة على الإنسان بمعناه العام.
اضطر نسيمي إلى مغادرة باكو بعد مقتل فضل الله مؤسس الطريقة الحروفية على يد ميران شاه بن تيمورلنك في ۱۳٩٤ م متوجهاً إلى الأناضول حيث اتصل بالحاج بكتاش ولي (مؤسس الطريقة البكتاشية وهي إحدى الطرق العلوية بتركية) حيث وجد استقبالا حارا من مريديه. ويقال إنهم تأثروا بأفكاره الحروفية التي بدأ بنشرها في الأناضول. ويبدو تأثيره واضحاً من خلال هذه الأبيات
للحاج بكتاش ولي:
ليس الزهد في الجبة والعمامة
النار ليست في الحرائق والجحيم
كل ما تريد كامن في ذاتك
لا في القدس ومكة والحج
ولايزال نسيمي إلى يومنا هذا يحظى بمكانة محترمة بين البكتاشيين والعلويين في تركيا حيث يترنمون بقصائده في طقوسهم الخاصة التي ترتل فيها القصائد وتغنى على آلة الساز.
أضطر نسيمي بعد تزايد نشاطاته بين البكتاشيين المعادين لسلطة الدولة العثمانية وخوفه من انتقام السلطان مراد الرابع إلى الانتقال إلى مدينة حلب، حيث أخذ يواصل فيها نشاطاته الحروفية.
لبست لباس الملامة من تلقاء ذاتي
ماهم الناس إن حطمت على صخرة قارورة الحياء
أصعد السماء أحياناً وأرقب الكون
ماهم الناس لو نزلت ورآني الآخرون
أذهب أحياناً إلى المدرسة لأقرأ من اجل الحق
ماهم الناس إن ذهبت إلى الحانة وشربت حتى الثمالة
قالوا عن شراب الحب إنه حرام
ماهم الناس إن ملأت الكأس وشربت
يصليالزهاد في محراب المسجد
ماهم الناس لو كان محرابي عتبة الأحباب
قالوا لنسيمي هل أنت راض عن الحبيبة
ماهم الناس إن رضيت او لم أرض، هي حبيبتي أنا
تعرض نسيمي في حلب إلى مضايقات وتأمر من قبل أعدائه. حيث قام أحد المتآمرين بتمزيق صفحة من القران الكريم ووضعها في خرقته دون علمه. وعندما مثل بعد الوشاية به أمام القاضي الذي قال له (ما الحكم في اليد التي تعبث بالقران؟) فكان جوابه تقطع. وهنا قال له القاضي: (هاقد أفتيت لنفسك).
أُتهم بالزندقة، وحكم عليه بسلخ جلده حياً. وعندما بدؤا بالسلخ، شحب وجهه، فقال له القاضي ساخراً: ((إذا كنت الحق كما تدعي فلماذا بدأ وجهك بالشحوب؟)) فرد عليه نسيمي قائلاً: ((الشمس تشحب دائماً عند المغيب لتشرق من جديد))
إن رمت رؤية وجهي
إحتجت لعين ترى الحق
وهل لعين كليلة
أن تبصر البهاء في وجه الحق؟
ومادمنا بصدد ذكر جزء هام من بدايات الشعر التركماني، فأن موضوعنا لن يتكامل دون تأكيدعلى الدور فالهام للشاعر فضولي البغدادي.
رسالة من تحت الباب
الدكتور ايدن عباس بياتلى
تلاقينا. . في خضم الف و الف
تسالمنا. . الما بكف
وسالته. . كيف الصحة و كيف
وقد مضت من العمر خمسون و نيف
ولكن. . لم يبت بحرف
حسبوها شرارة ثورة
مسخوها تقاريرا. .
زورا و هترا
وكذلك عنونوا الملف
وقرعوها. . طبولا و دف
و ها اتلقى سياط السنة تتقيء التهم
و مناجل استفهام تنسل للنهم
تستجوبني. . وصداء الانياب وعيدها
تستجوبني. . والزعفران نقيعها
تستجوبني. . سالت من؟
واسال من !!
هل الضمير المبكم
المستتر خلف اول قطرة دم بن ادم
ام المتوهمين خلف مزمار دجال
بالشحوب ملثم
هل. . وهل. . في الف سوءال
وكان الحال مبهم
ياسائلي. . انا لم اساءل نكرة
في قبع حماية تقذف الملأ بالحمم
بل جرحا
من وسط البارود و الوشم
ياسائلي. . انت فرد من المسؤولين. . و النعم
ولك عنوان ولون ورقم
شاءنك يهتف (نعم، نعم(
والاوتار على نفس النغم
والشعب يلهث بالف لا. .
وتطحنه اضراس لن و. . لم
وصدقت المستندات
وحرفت (المعلومة) والعملات
وصفرت المخازن
وصفقت الاقداح
وتطابق المجهز و المستلم
والعويل معول يضرب في اليم
لفائف الشجب تحتقر نفسها
والجرح يستغيث في بحر دم
والاستنكار العقيم كالبصق في المراة
والبراءات تدمع جما في جم
و من خلف لثام ٣٦ تبرق اعين
تقول لا. .
لانريد ان نتكلم
وكفانا خطابات السقم
لانريد ان نتكلم
والمناصب تعاني من صمم
لانريد ان نسمع
والصراحة تتلعثم
لانريد ان نقراء
وقد استبيحت الاوراق
وخصي القلم
لانعرف ايا من ابوابنا نطرق
إلا ونجد خلفه خشبات
نعم. . خشبات ولكن. .
بمدلول منتظم !
هذه قطعة استعلامات
وتلكم. .
استعلاءات وحشو وحشم
وكل قطعة، صنيعة، وصبغة وعلم
وعودها. . تفوهات
وعودها. . لاتلبث غرغرة فم
والوطنيات. . سوق جم
في جراب الحناجر (تترمرم)
دون دسم الولائم لاموقع لها
لافي الاعراب ولافي العجم
انامل من هذه الغلاصم مطلبا؟!
ام نسال، كيف منها مطالبنا تسلم.
مطالبنا. . . إنسان يحلم
بالعزة والعفة والكرم
ندان بها. . ونرجم
مطالبنا. . يجترها نقاش اصحاب الكروش
بالشم والضم ترفع. .
رفع النعوش
والفعل منصوب. . كالضم
نتلوى تحت جثامه ضوار نبتة شاحبة
نستقي المرارة، وترسم سحقة الألم
واي الم
لم يبق منا غير جلد للكي وعظم محطم
والصحوة منه. . من عدم الى عدم
فقد اغتيلت الشمس برايات العتم
والايادي تكبل بعضها
والمذياع ينخره زيف الزعم
اهدافنا. . اهدافنا. .
اهدافنا. . استهدفت في ثوب عرسها
اللافتات كفن والحفل ماتم
وسيفنا. . واسفاه بغمده يتلثم
ونخطوا نحو الهاوية
ونقول. . نتقدم!!
ليس لنا غير شيخ (بريل)
ويوم نهجه يتعمم
نقراء ونتعلم
نقراء ونتعلم. . ونعلم
ان للحرية باب ولكن. .
سمسمه قد تسمم
والديمقراطية البتراء
بتراب السجون تتيمم
والاعياد ثكالى ويتامى ومقابر وعلقم
لا. . لانريد
لانريد اي شيء
واي عسى ولعل تنضحه القمم
حتى وان نفخ في الصور وقامت الامم
فكذلك يعودون،
ويعاودون الغدر والكذب دون حياء او ندم
ليت شعري. . قبل نفخ الروح في تلكم الرمم
هل نفحت في ارواحهم شيء من ذمم
ساءلوني امانة
واساءلكم وفاء. . بل شفاء
من النرجسية والنجومية
وتجارة المبادئ والقيم
(عبد الوهاب البياتــي و (نار الشعر التي لا تخبو
نصرت مردان
إن ثراء التجربة و الإبداع الشعريين الذي يمثله باقتدار متميز عبد الوهاب البياتي، يعكس بوضوح لا يقبل الشك الحالة المتقدمة التي وصل إليها الشعر العربي المعاصر. إن الحالة الشعرية التي يمثلها البياتي تعكس أن الشعر العربي ليس في أزمة في أيدي فرسانها الحقيقيين. كما أن الحالة الصحية المتميزة في شعر البياتي تكشف من جانب آخر أقصى درجات الصحوة التي يعيشها الشعر في عصرنا. و ما تواصل الترحاب الذي يقابل به البياتي و شعره حتى بعد وفاته في مختلف لغات العالم إلا دليل ساطع لا يرقى إليه أدنى شك في أن البياتي من الشعراء القلة الذين يمتلكون معرفة سر الإبداع الشعري، وكثف دهاليزه للتعبير عن أصالة التجربة الإنسانية و نقائها و فرادتها في مفردات شعرية تجد صداها المتميز في بقاع شتى من العالم.
عبد الوهاب البياتي
بهذه القناعة الأصيلة و الشهادة التي أؤمن كامل الأيمان،عشت عام ١٩٧٦ تجربة ترجمة نصوص البياتي الشعرية إلى اللغة التركية خلال سنوات دراستي في تركيا. و رغم امتلاكي لناصية هذه اللغة إلا إنني حرصت ان تكون هذه التجربة في حجم الاحترام الذي أكنه لشعر البياتي. اتفقت مع الشاعر التركي توركاي كوننج (وهو احد شعراء حركة التجديد الثانية التي تعتبر أهم تيار شعري حداثوي في الشعر التركي المعاصر) حيث انبهر تماما من خلال إطلاعه على مسودات ترجمتي بلغة البياتي الشعرية، و وافق ان نعمل معا لصياغة النصوص المترجمة من قبلي شعريا. كنا نلتقي ثلاثة أيام في الأسبوع في بيته و نعمل معا في ترجمة إبداعات البياتي الشعرية. وكثيرا ما كان يحدث أن تستهلك الكثير من الوقت للاتفاق على معنى ملائم لبيت شعري أو مفردة شعرية معينة. كان مبرر هذا الحرص دائما هو احترام إبداع البياتي الشعري. وقد تحقق ما كنا نتمناه، فقد أحدث نشر قصيدتي البياتي (القربان) و (إلى رفائيل البرتي) في مجلة (صويوت ـ التجريد) في ١٩٧٦ و بعدهما (كتابات بعض المحكومين بالإعدام بعد سقوط كومونة باريس) و (مرثية إلى ناظم حكمت).
في ١٩٧٧ حالة من الدهشة الممزوجة بالإعجاب متأتية من عدم توقع المثقفين الأتراك من وجود شاعر عربي عراقي يتساوى في حجم إبداعه الشعري مع ناظم حكمت و اراغون و بابلو نيرودا.
ان الإعجاب الذي صادفته النصوص الشعرية المترجمة للبياتي لا يعود الفضل فيه في رأيي إلى جودة الترجمة لأنها لم تكن إلا انعكاسا صادقا لحجم الإبداع الشعري في تلك القصائد.
و مما يشرفني ان أكون أول من حقق للبياتي إحدى أغلى أمانيه التي طالما عبر عنها وهي ترجمة المقدمة التي كتبها ناظم حكمت عن البياتي عند صدور ديوان (القمر الأخضر) باللغة الروسية و التي نشرت في مجلة (اولوشوم ـ التكوين) عام ١٩٧٨. وقد ترجمتها إلى التركية حسب النص العربي لمقدمة ناظم حكمت التي نشرها البياتي في كتابه (تجربتي الشعرية).
إن انبهار الوسط الثقافي التركي بشعر لبياتي أدى إلى أن يكلفني القاص أحمد صاي و الذي كان يتولى رئاسة تحرير مجلة (توركيه يازيلاري ـ كتابات تركية) بإعداد ملف خاص عن البياتي. و حينما أرسلت رسالة للبياتي حول الموضوع خص المجلة بقصيدة حديثة و بنص أدبي خاص بالمجلة أيضا بعنوان (نار الشعر التي لا تخبو) كما ترجمت للملف عددا من قصائد البياتي. وقد صدر هذا الملف عام ١٩٧٩.
لا أزال احتفظ باعتزاز بالنص الذي خص به البياتي مجلة (كتابات تركية) بخط يده. و احتفظ أيضا ببعض الرسائل التي كان يرسلها البياتي لي من مختلف دول العالم. و في هذه الأيام التي لا يزال البياتي يشغل حيزا هاما في المجلات الثقافية، والصفحات الأدبية في الصحافة العربية يسعدني أن يشاركني قراء (نسابا) قراءة (نار الشعر التي لا تخبو) بخط يديه، وأن يشاركوني قراءة إحدى رسائله لي:
الصفحة الأولى من رسالة بخط عبد الوهاب البياتي إلى الكاتب والمترجم نصرت مردان
شاعر تغنى بكركوك
مدينة الكافات
" كاركوك" يقول التركمان
الشجرة التي ظللت جماعة " الستيران " ثم اختفت زراعيتها إذ امتدت وطمرت المكان. الشديد. حلميته ليست حلبية،مرونة بخارية أو نعومة/بل/من الصراع بين الحلم واليقظة. المحطة،القطارات، "السيد "/من الأولياء/عند مقدمة القاطرة = نزوع الكركوكي إلى اللعب بالحصى المكور يدويا،وبحياته.
خاصه صو
لا وجود له. يكتسحني السيل،ثم إذ تستوي الأرض يتضاءل شطي. أختفي في التيه. أعود مع الأمطار من عند التلال. وهكذا هو،بيننا،يموت ويبعث. نسمعه في ليالي الربيع،يتصاعد غرينه فيتشبع به الهواء. ثم ننساه إذ يأتي الصيف. يكون قد مضى إلى احتضاره. نهر خارق القوة تحت المصابيح الواهنة ليلا.
القلعة
الوقت. لا يوم بدون الماضي. لا بداية أبدا. مدن فوق مدن. في آخر صف النائمين الوقع الذي أحرسه في الليل والنهار. النائمون فقدوا السيطرة على وقتهم وعلى البوابات. في الحروب عرفوا أن من يجرح يظل في مكانه،وان تركوه اختفى. رضع أطفالهم فكان التوثيق. أحداث،اندحار الجميع:الناس،الدواب،النبات،الشموس. الأطفال تبددوا في أجساد الشبيبة. تتهاوى أحجار القلعة ثم تتراكم وتصير أبنية. جدتها في مرحلة تنهيضها،إبعادها إلى الأعلى،عن مواضعها الأثيرة حيث بقت راقدة. الفعلة لا يعرى إصرارهم أي تكرار لما يجري ويعرفونه. اختاروا أو اختير لهم أن يتجولوا بين أحجارهم في فردوسية الظلال مع أنهم الإمكان المطلق. هكذا،المطلق والأخير لا يعنيهم إلا كفكرة،حلم التناسب،كلا،هم يفضلون التناقض.
القشلة
المدخل. العمودان المدوران قصيران وبدينان. بقايا كانت في الذاكرة الجماعية نقلت إلينا بلا هدف،ربما كدليل على إجحاف القدر. هنا تجمعوا ومضوا إلى قتال في أرض كانت يومها آنية،حية ككائن. ولكن،حين نشأنا،كان الحداد قد انتهى،أو هم فقدوا الانضباط فتحولت الكارثة إلى حكاية. تحية العلم عند الغروب. يقطن السكوت فوق الشارع(الطعم الصابوني للقبلة. شيء كالنوبية. كالضرورة المثقبة بالشك كالمنخل. دفء الحمام يأتي من الاتجاه المقابل)السكون فوق الشارع والمدينة توقف السير ريثما ينفخ في البوق وتنتهي تؤدة هبوط العلم في يدي الجندي. (أين هو؟). اللواء ص. ز. ت. لن يصل هذا المساء. يهش بعصا الأمراء أمام الجند على مشارق قرة انجير،كتيبة المدفعية الجبلية تحت السير. المدافع على البغال الحاملة للحصيلة الآثارية من النزهة الاحتفالية في هذا اليوم الذي انقضى. جنود الإعاشة يهرعون بالأرزاق لاستقبال أفواج المشاة المندلقين كالعصافير من التلال. وفوقهم نارية تمرق كالمذنبات،صامتة ثم تهدر،الطائرات المقاتلات. المحجر ذو الشمس،منه الخروج إلى الشارع مع الحارس،ما كان لقاء الإله بشمسه،كان الاستيقاظ والسير بإهمال في شارع لا يملكه. كان ذهابا إلى القشلة حيث اللاعودة احتمال.
العيد في كركوك
كذلك النذر
كذلك القفل كان مفتوحا
وكذلك الحمام لم ينطو على توشيح صباحه
استقبل،واستوفى،وأطلق الأجنحة وراء الصوت
هذا الغالق من مألوفية الموت
الفعل والقول والبيوت.
صدى يتخلل الصوت في الإيقاع يولد
يرتاد في السحر البسيط لحياته الأوجز أرضا كانت له
قبل وعي الكينونة،كينونة نعم،في رعب التأريخ
ها هما:الدعوة والمفتتح
تنكسر أصوات الأطفال ثم تلتئم
بالضوء وتراعش الصباح على أنماط الحركة،
في الدواليب المكتسحة للراحة،
راشقة أبدان الشبيبة في دورق السماء.
في هذه الروائح،وعطر السكر
لا أسرار في هذه الساعة والدخول متاح
مع النرود المتفقة،ولعل الحرمان والخيبة ليسا
بثقل الأرض المنطوية على الرأس الوئيد.
لقد ذبل الكلام على الملابس
أفق يندلع في مخيلة الآباء والأمهات
يقين في طعام اليوم هذا
،واليد المقطوعة نوديت فلبت
١٣/٦/١٩٩٣
مقبرة المصلى بكركوك
أرض موتانا عند الرؤى:الأفكار والأحلام
موسيقى الأخشاب السراديبية
مطر النجوم اليابسة/مسحوقي في الظلام
الأرض،هي كل هذا وهي:
ضوء على أوراق نكرات.
شوكة الجذع قريب بعدها،العظم والجمجمة،
عند المرقد الشاهق،
في الغبار عند أبي علوك الأخضر. *
في بيوت المصلى يولد الأموات
يزورون القبور المخلعات
يقرأون أسماءهم على الرخام الشمعي
ظنوا (…)ولكن كما ترون،
كل الأصوات تتبدد ثم تؤلف الصور لنا
ثروتنا،ترحل الأشياء وتعود.
*
يعود الصوت الحريص علينا
ليرفعنا إلى متعة سكينية
ثم ندرج على الأرض الحارقة
لنضمحل مطمئنين فالطل،
هنا، عند الفجر سيحل
والصوت،إلى بيوتنا سيعود
والى الولادة ستنتهي الأشياء.
كركوك مدينة عراقية
ينهمر كالنهر نفطها
أحجارها ذهب،وترابها فضة
فانطلق وانشرح يا قلب
نحب نحن هذا الوطن
محبة الأب والأم
لن نترك الراقدين تحت الثرى
كركوك قنديل العراق
تطل أبدا بنورها الوهاج
نظل أشاوس على مر الأيام
نعبر آلاف السنوات
لن نترك لغتنا
نحن تركمان العراق
يعرف القاصي والداني مآثرنا
عراقيون
محمد عزت خطاط
(١٩۲٩ ـ ١٩٩١)
عراقيون نحن وكركوك مدينتنا
مسلمون نحن والتركمانية لغتنا
لن نمنح هذا الوطن للغير
وينفجر أنهار الذهب
عراقيون نحن والتاريخ يعرفنا
لن ينتصر أعداؤنا قط
لن نمنح هذا الوطن للغريب
حتى لو قطعنا إربا
نحب الوطن ،دماؤنا نقية
نتكاتف مع من يستحق ذلك
بالعمل والجد يعرفنا القاصي
والداني علما وعرفانا
نحن أبناء الوطن الشجعان
نحن جلادو من يطمع في الوطن
لم يهزم آباؤنا في القتال
نحن خلف أولئك الأسلاف
كل مكان من حولنا فردوس
طريقنا طريق الحق
لن تلوى أذرعنا الفولاذية
نحن جنود وحراس هذه الأرض
كركوك في نبض شعرائها
قلعة كركوك
هجري ده ده (١٨٨۰ ـ ١٩٥۲)
أيتها القلعة العتيدة التي تقاوم الزمن
يا ذكرى الماضي الغابر المقدس
أيها الصوت الخالد المجسم للكبرياء
كم تضم حناياك من كنوز خافيات
كم في جبك من يوسف يشكو الجور
وكم من ألف جسد يضمه ثراك
ذهب الحكام والأباطرة وبقيت أنت شامخة
شخت كما تشيخ الأشياء
بلغت من العمر عتيا
لهذا تجثو الحكمة على أعتابك
ذكريات كركوك
وطني فردوس ،والغربة جحيم
لن أبيع فردوسي بنيران الجحيم
أفاخر العالم بلغتي
لن أغير ردائي بألف رداء من الأطلس الزاهي
كل (قوريات) عندي مثل أنغام داود
كل قافية فيها بمثابة كوكب عشتار
* قوريات أو خوريات نمط من الرباعية في الشعر التركماني،يعتمد على الجناس.
كركوك
خضر لطفي (١٨٨۰ ـ ١٩٥٩)
النفط وشهرتك تملأ الآفاق
أنت للغريب ثراء وغنى
وأهلك على شفير العوز
تمثال الكبرياء أنت يا كركوك
فلمن أشكوك ؟
كنت الجمال والحسن بكامل وصفه
وكان شعبك منطلقا للفرح بلا قيود
حتى أصبحت مع الدخلاء بلدا غريبا
كل شبر فيك كان رياضا
حتى جثم عليه غربان النسيان
أنت منبع الأمان والحنان
بدونك ألسنتنا مقطوعة ،وقلوبنا حائرة
فمن يدافع عنك ؟
كنت عنوان الفضيلة والوفاء
أما اليوم فتعانين الآمرين.
أين زمان الشعراء
يا أرض الفخر والكبرياء والنبل
لماذا أرغم شعراءك على الصمت ؟
(مقطع من مطولة شعرية)
كركوك
محمد صادق (١٨٨٦ ـ ١٩٦٧)
عدنا من عصر البراكين يا كركوك
إلى أرضك المقدسة المعطاءة
أرى نهرك الظامئ،فأحترق أسى
أبكيك بدموع من الدم يا كركوك
هدموا جسرك* بفؤوس الخيانة والغدر
رغم ثراك ،أصبحت خرابا بعد عين يا كركوك
بالقاشان كان يجب أن يبنوا أعتابك
مأساتك كوت ألباب العارفين
دار ت الأفلاك وعربة الزمان
وأسفاه أصبحت مكانا للفراق
وأصبحت ثعالب الأمس اسودا يا كركوك
ذبلت الأزهار ،احترقت شقائق النعمان في الجبال
أصبحت رياضك خرابا يا كركوك
ليكتبوا على شاهدة قبري
حينما تنطفئ شمعة العمر
هنا يرقد تركماني ابن تركماني
كل ما تحملته يستحق الموت في سبيلك
أقسم (صادق) الحزين المكدود
أن يأتيك قربا في يوم ما يا كركوك.
(من مطولة شعرية)
* المقصود هو الجسر الحجري الذي هدم في ١٩٥٤.
كركوك
رشيد عاكف الهرمزي (١٨٩۳ـ ١٩٧۳)
أنت في الأفلاك شمس من الألوان
مفخرة الكون ومسار العالم ياكركوك
تمر دورة الزمان آلاف المرات
وتظلين يا كركوك أكسيرا للشباب
هوائك عليل،يشفي من به العلل
يتمرد نهرك على الزمان دوما
وأنت تفكرين بدجلة والفرات والنيل
مقدسة أنت وعزيزة على القلب
منذ الأزل أنت مرقد الشعراء والحكماء وواحتهم.
(من مطولة شعرية)
قصص قصيرة
الخبز والنرجس
حمزة حمامجي أوغلو
ترجمة: د. محمد عمر قازانجي
(١)
الخوف والكابوس ،والسعال الحاد ،وعويل الكلاب والأنين في الليل ، والسأم والفقر،والرائحة النتنة ،والضرب والتوبيخ في النهار هي توليفة الأغاني البائسة في أزقتنا
ـ خوردا..أنت ياخوردا.
ـ نعم يا أمي.
ـ خذي المائة فلس هذه وابتاعي لنا عشرة أرغفة من الخبز ، هيا أسرعي.
زقاقنا لا يمكن اجتيازه بيسر في أي شهر من أشهر السنة بسبب الوحل ،وتراكم مياه الغسيل ، ومن فيضان مياه المجاري ، ومن الكلاب المصابة بالجرب التي يغزوها القراد ، ومن الحيطان الآيلة للسقوط التي يحيل للمرء إنها ستنهار في أي لحظة.
كنت امسك بالنقود في قبضتي بقوة ، وأهرع حافية.
ـ انظري أمامك لقد لطخت الطفل !
ـ لماذا تسرعين هكذا ، هل ثمة شبح يطاردك؟
ـ ثمة حفرة أمامك..انتبهي..
كان الزقاق يطول ويطول كحية ملتفة على نفسها. وكان ضجيج الأطفال ،وأزيز المواقد النفطية ينساب إلى الخارج عبر شقوق الأبواب مع رائحة الدهن المحروق والبصل والثوم.
ـ قنينة بيضاء..قنينة سوداء..من يبيع !
ـ طين خاوة..طين خاوة..
(٤)
ـ أين ذهب بائع الطين خاوة ياجارة..
ـ انحرف نحو شارع المختار..الحق به.
ـ انظروا إلى هذا الرجل الذي لا يستحي..انه يبول على حائط الحمام !
ـ يبدو أنه سكران..
ـ قد ينتهز الفرصة ويختلس النظر من شباك الحمام إلى النساء العاريات.
ـ كل شيء جائز..حينما ينعدم الحياء.
ـ زكيه الحولاء ترفع راية الإمام عباس هذا اليوم أيضا !
ـ ترىما الذي سرق منها هذه المرة؟
ـ ديكها على ما يبدو..
الكلمات والهموم هي هي دائما. والأفكار والمطبات هي هي نفسها أيضا.
أصل إلى الشارع الرئيسي حافية ،ممسكة بالنقود في قبضتي. غير إني أتسمر في مكاني فجأة..هذه الرائحة غير تلك التي تعودت عليها..
(٤)
رائحة زقاقنا تعبق بالمآتم..تتشكل هذه الرائحة في الأيام السود ،وتتخمر بالأحزان مبشرة بالمصائب..إلا أن هذه الرائحة في الشارع الرئيسي مختلفة.إنها خلاصة الحياة،ففيها فسحة السهوب وأنفاس الغابات وطيران السنونو ،وشهوات الخيول البرية.
(٥)
أمسك حافية بالنقود بقوة ،أبحث عن مصدر الرائحة الآسرة بين عربات الباعة المتجولين ،والنساء المتلفعات بالعباءة ،وأطفال الذين طالت خيوط المخاط من أنوفهم..أجدها في النهاية. أجدها لدى ذلك االبائع الشاب ذو العينين الزرقاوين ،والقامة الفارعة ،والشعر المجعد.فارشا جنفاصا عريضا أمامه ،ناشرا عليه باقات من النرجس:
ـ..بكم تبيع الباقة؟
ـ بعشرة فلوس..
باقة نرجس بعشرة فلوس..بعشرة فلوس فقط..
لا..إنها ستكلفني اكثر من عشرة فلوس.أنها ستكلفني عشرة فلوس زائدا توبيخات أمي التي ستقلب البيت إلى جحيم زائدا عن الضرب الذي سألقاه من أبي في المساء ،زائدا التجهم الذي سيستمر يوم أو يومان، زائدا ذهابي إلى المدرسة بلا مصروف..الباقة غالية..ولكن ،ليكن ما يكون..
أعود إلى البيت وفي يدي أرغفة الخبز وباقة نرجس..أعود حافية.
تسألني أمي والابتسامة تعلو تغرها :
ـ خوردا ،ماذا اشتريت لنا اليوم؟
يوشك قلبي على أن يتوقف عن الخفقان.أرتعش من الخوف.
ـ لقد..لقد..
تلكأت في الكلام ثم نطقت بصعوبة:
ـ نر..جس.
ـ أحسنت ،لو لم تشتريه أنت لاشتريتها أنا..
لم أصدق ما أسمعه..
ـ أحقا؟
ـ ولما لا..
أغمضت أمي عينيها ثم شمتباقة النرجس بلهفة.\
ـ خوردا.
نطقت اسمي همسا ،وكأنها تحلم بشيء
ـ نعم يا أمي
ـ املئي قدحا بالماء وضعي فيه النرجس.
ـ ماذا ستفعلين به يا أمي؟
ـ سأضع باقة النرجس وسط المائدة هذا المساء.
ـأيحب أبي النرجس أيضا؟
ـ وهل ثمة روح تنبض على وجه الأرض لا تحب النرجس؟!
(٦)
في تلك الليلة فقط ،كان قلب خوردا مثل قدح الكريستال الذي احتضن باقة النرجس ، يشرق بهاءا وزرقة وشمسا على الزقاق والمدينة والعالم بأسره.
قصص قصيرة جدا
حمزة حمامجي أوغلو*
ترجمة فاضل الحلاق
المجنون
دون تحديد طرقت أول باب صادفته:
ـ أنا مسافر غريب..أدركه الليل
ـ وماذا تريد؟
ـ قليلا من الحب، مع حفنة من النجوم.
صرخوا في وجهي..رموني بالسباب والشتائم..طاردوني حتى سابع محلة وهم يصرخون
خلفي..مجنون..مجنون !
المحرض
في أحد الأيام بدأ أحدهم ينادي في سوق المزاد بأعلى صوته:
ـ الدنيا بفلس..الدنيا بفلس !.. لو كان هناك من يدفع اقل ليتقدم.
هكذا كان ينادي..
ـ هذا محرض..محرض!
انهالوا عليه ضربا بالأقدام والأيدي وهم يصيحون. بعد ذلك لم ير أحد ، ولم يسمع أحد عما حدث.
هراء
قبل يوم العيد بيوم ،بعت حذائي الجديد، وابتعت لطائرتي الورقية كيسا مليئا بالهواء!
..لكن كل الذين كانوا في البيت أمطروني بالضرب المبرح. وخلال أيام العيد الثلاثة ،أغلقوا باب غرفتي، ومنعوني من الخروج !
الكسلان
كنت عطشا إلى حد الموت. التقيت في الطريق بأحد الرعاة :
ـ حبا بالله، أريد ماءا..
ـ تفضل..
شربت الماء دفعة واحدة. بعده أخذت اغني بفرح غامر:
ـ ما قدمته لك كان مجرد ماء، وليس شرابا..
قلت :
ـ عندما يتغلغل حب الحياة في دماء وعظام من يعمل، فانه يشعر بالثمالة يا صديقي حتى عندما يشرب ماء!
غير أن الراعي رمقني بنظرة مليئة بالشك
!
الربيع
اكتست السهول في الوطن بألوان خضر كالزمرد، وبدأت الأشجار تنمو..فالربيع على وشك القدوم …
بلا وعي أمتد يد الدكتاتور نحو مسدسه :
ـ ضعوا الحواجز أمام المداخل المؤدية إلى المدينة !
قالها صارخا.. ثم أضاف :
ـ وكل من لا يحمل بطاقته الشخصية، امنعوه من دخول المدينة.
البلبل
في أحد الأيام ،كان هناك شخص نهم..وقع نظره على بلبل يملكه صديق له. بعد توسلات عديدة استمرت أياما وشهور، رضخ صديقه لإلحاحه ووهبه البلبل.
بعد مرور عدة أيام، التقى بصديقه فسأله :
ـ أهلا بك يا صديقي العزيز، كيف الحال؟
ـ يعني..بين بين !
ـ وكيف حال البلبل؟
ـ البلبل؟..آه..حقا لقد كان لحمه لذيذا جدا!
*من مواليد كركوك ١٩٤٥. عمل فترة من الوقت في جريدة (يورد ـ الوطن). يعتبر من ابرز الشعراء وكتاب القصة والرواية التركمان. نشر معظم نصوصه القصصية، وفصول من رواياته (أيتام الفردوس)، (الديك البيض)، (أفسون) في جريدة (يورد). ولم يتمكن من طبعها حتى الآن. رغم غزارة إنتاجه، لم يصدر له إلا ديوان شعري باسم (القدح السابع)
شاعر تغنى بكركوك
أنور الغساني
تشرين الأول ١٩٩٢
سان خوسيه كوستاريكا
الشاعر أنور الغساني الذي يعمل حاليا مدرسا للصحافة والإعلام في جامعة كوستاريكا بسان خوسيه، هو أحد شعراء جماعة كركوك الأدبية المعروفة في الوسط الثقافي العراقي، والتي تضم، د. فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، سركون بولص وغيرهم.
يتحدث الشاعر الذي يقيم حاليا في كوستاريكا عن هويته التركمانية في رسالة خاصة قائلا:
((. . انتقلنا وعمري ٤ سنوات من (قلعة صالح) إلى كركوك، التي نشأت فيها وهي مدينتي وموطني. والدي من كركوك، تركماني/تركي. في البيت كان يقول أن جده أحمد كان باشا في الجيش العثماني، وأن جده السابع اسمه أصلان. كل أقاربنا من ناحية والدي تركمان في كركوك. كثير منهم لا يتكلم العربية على الإطلاق. ثقافة والدي كانت مزيجا من العربية والتركية. في البيت كنا نتكلم العربية فقط لأن والدتي لم تكن تتكلم التركمانية. وهكذا نشأنا وأصبحت لي لغة أم عربية ولغة تركمانية (محيطنا، أقرباؤنا، أصدقاؤنا. . الخ) وهكذا أصبحت لي هوية عربية وهوية تركمانية. وأنا لا أشعر بأي تناقض بين الاثنتين. من المؤسف أن ظروف القهر المسلطة على التركمان لم تسمح لنا بأن نتعلم الكتابة والقراءة بالتركمانية في المدرسة، فأصبحت لغتنا التركمانية لغة كلام فقط؟بإمكاني أن أقرأ قليلا من التركمانية بالحروف العربية (…) عالم التركمان والأتراك يهمني لأنه جزء من هويتي. . .))
وعن التركمان وقضيتهم يقول الشاعر أنور الغساني في نفس الرسالة:
((وجود التركمان في العراق قديم جدا، أقدم من العصر العباسي، لا تنفصل قضية التركمان من قضية القوميات قي العراق وقضية امتنا العراقية ككل. ينبغي ضمان كافة الحقوق الإدارية والثقافية للتركمان في المستقبل، بعد زوال كابوس صدام (…) التركمان حين يطالبون بحقوقهم فإنهم يطالبون بنفس الحقوق لكل العراقيين ولكل القوميات العراقية. أنهم عراقيون وطنيون وموقفهم من إخوتهم من أبناء القوميات الأخرى موقف ديمقراطي مبني على التسامح والعمل على إحلال الحوار والتفاهم واللاعنف في حياتنا العراقية. .))
يسرنا أن نقدم لقراء (تركمان العراق) مجموعة من قصائد الشاعر أنور الغساني التي تنبض بها، مدينة كركوك حية ونابضة مثل شلال متدفق من الأحاسيس والعواطف الجياشة.
طوپال عثمان باشا
في ٢٦ تشرين الأول عام ١٧٣٣ قاوم العراقيون
بقيادة طوپال عثمان باشا في سهل ليلان "
پاشام!
لأرض فقيرة الأشكال كان
جهد يقظتك قرب الرب في قلبك
جذا ذات منك
كوئتك هشا في حلمنا
الضوء سطع خطفا. . أنت
القاطن في الخوف مع الشرسين
قناعهم الليل
في المعالف رؤوس الخيول القتيلة
عصف في سماء
مغسولة بمرق اليقطين
ما أخذوا غير منسوجات الصوف. .
تحمي أكفهم
وقارورة الروح
أقدامهم في المطرزات
والموت انتظار
كالرصاصة في قارورة الروح
واللاموكب سار متنزها
فخضرت الريح بياقوتها الغازي
مثلجة. هذا وجودهم نأخذه
من لوحة على أعمدة من ماء السراب
كل ما امتلكوا
خائضين جعبة الليل المبقورة
أشياء تعظمت
معنى حاضرهم
تحف تنقشع لتعود إلينا.
ما المجد إلا بدعتنا
وأنت فكرت في الحيطان
تراشقت مع فتوتك
والتحمت بعنفوانية خيولك
الضاربة أصواتها على الغابة المختفية
في ارض غريبة الأشكال
جهد يقظتك قرب الرب في قلبك.