بعيون دامعة وقفتُ امام باب (الدائرة) اراقب المشهد الحزين، كانت جموع النساء والرجال تصل زرافات ووحدانا، وكان لابدّ لمن يأتي من البقاء امام باب البيت وعلى رصيف الشارع بعد ان غصّ الدار بالاقارب والجيران.. كانت الام المكلومة تقف في وسطهم رافعة يديها الاثنتين الى السماء تصرخ بصوت مبحوح:ـ لماذا ياربي ؟ لماذا لم تأخذني بدلا من (لامع)، هل عاد بعد كل سنين الغربة ليموت؟ لماذا اخترته من دون الناس جميعا، آه يا ولدي لم يدعوني ارتوي من رؤياك...
كانت النساء حولها يحاولنّ تهدئتها ونصحها بألا تكفر بمشيئة الله سبحانه وتعالى..فما ان تصمت لحظة لتلتقط انفاسها حتى يرتفع صوت ابنتها(الهام) تصرخ (آبــــــــي)* :ـ لماذا تركتنا مبكرا ؟ ليتك لم تعد من بلاد الغربة.. لا لا تقولوا ان (لامع) قد مات، (لامع) في العمل وسيعود، سيدخل الزقاق بسيارته بعد قليل.
وعلى هذا المنوال كانت اصوات النساء ترتفع بالبكاء والعويل.
التفتّ الى احدهم وكان يراقب المشهد مثلي قائلة: ـ
متى سيصل نعش الفقيد؟
لقد اتصلوا الان من مشرحة كركوك وقد استلموا الجثة وهم في الطريق، وعلى الارجح سيكونون هنا خلال ساعة.
انسحبت الى الداخل على اثر رنين جرس الهاتف في غرفة المدير، كان المتكلم هو المدير بنفسه يسأل عن اي مستجدات او اتصال من المركز ؟ أجبته بالنفي.. أخبرني انه مع الرجال ينتظرون وصول النعش لاداء مراسيم الدفن، واوصاني ان لا اترك الدائرة تحت اي ظرف حتى يعود احد الموظفين ليحل محلي.
كان ذلك في الثمانينات، لم يخفي مدير القسم الاداري في المركز الرئيسي للدائرة دهشته وانا اشّدُ على يده شاكرة بعد ان استلمت القرار الاداري بنقلي الى ناحية التون كوبري.. نظر اليّ باستغراب قائلا :ـ لقد خالفتِ توقعاتي فقد ظننت انك ستعترضين وتطالبين النقل الى مركز المحافظة بعد سنوات الخدمة في النواحي.
كان يجب ان اجد تبريرا لهذا القادم من الجنوب والحامل للشهادة المتوسطة ليحل محل المدير التركماني الحامل للشهادة الجامعية... ماذا اقول له ؟ هل اقول ان البعد عنكم غنيمة ؟ هل اقول ( ابعد عن الشر وغني له)؟ بعد ان غصت الدائرة بامثالكم من اشباه الاميين، وانتشر الفساد والنفاق والفتن والمشاغبات والمحسوبيات والتقارير ومحاربة الموظفين الغير المنتمين الى الحزب واحالتهم الى التقاعد مبكرا أونقلهم الى المحافظات البعيدة دون ان تشفع لهم سنوات الخدمة الطويلة.. ولا اذكر المبررات التي سقتها في وقتها ولكن كان من ضمنها ان خدمة الوطن تتحقق في اي بقعة منه.
كانت لي ذكريات جميلة في مدينة التون كوبري(الجسر الذهبي) والتي اشتقت اسمها من الجسر الذي يربط صوبي الناحية الذي يفصل بينها نهر الزاب الاسفل ، هذه المدينة الصغيرة الوادعة واهلها الطيبين المسالمين، كان لنا فيها اقارب من طرف والدتي نزورهم بين حين وآخر ونتمتع بجوها الجميل وهوائها الصافي وخصوصا في الصيف حيث المزارع الخضراء والخيرات التي تطرحها ارضها الخصبة من الخضراوات الطازجة، واللبن الذي يجلبه الفلاحون من القرى المحيطة بالناحية كان له طعم آخر غير الذي نشتريه من المدينة، (والعيران)** له طعم يبقى في الفم ويتغلغل في الخياشيم وترتوي منه العروق لتطفئ عطش الصيف.
كانت الدائرة تقع في احد الازقة بين البيوت السكنية ولا تختلف عنها في التصميم الا باليافطة التي تعلوها لتعلن انها دائرة رسمية، مكوّنة من بناية صغيرة بغرفها الثلاث وكراج للسيارات مع بعض المرافق الصغيرة، وكان عددنا لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة بضمنهم رئيس الدائرة الذي كان ينتمي الى احدى العشائر العربية المشهورة في كركوك، وكان بعثيا ولكنه كان انسانا طيبا، خلوقا، متسامحا ومحبوبا من اهل الناحية.
في اول يوم لي بدأت استكشف المكان، ثم قادتني قدماي الى الباب الخارجي، لم تكن البناية مسيّجة بل كان يكفي ان تنزل درجتين لتطأ قدماك رصيف الشارع الضيق الذي لا يزيد عرضه عن ثلاثة امتار وبالكاد يكفي لمرور سيارة...كان الزقاق هادئا سوى من بعض المارة والاطفال العائدين من مدارسهم، في البيت المقابل كانت هناك فتاة في مقتبل العمر قد امسكت بخرطوم الماء تكنس وتغسل الفسحة التي امام الدار، عندما رفعت رأسها ورأتني انتفضت واقفة، وبابتسامة مشرقة وبكل بساطة وتواضع قالت:ـ اهلا بك في ناحية التون كوبري !! لم اتعجب من بساطة الترحيب، فانا اعلم طيبة اهل الناحية وترحيبهم بالغريب.
نزلت الدرجتين اللتين تفصلانني عن الشارع وعبرت الزقاق اليها، مسحت يدها المبلولة بثوبها المنزلي ومدتها لي مرحبة مضيفة ان اسمها(الهام).. وفي خلال دقائق قليلة عرفت كل شئ عن عائلتها.. والدها موظف في بلدية الناحية، والدتها ربة بيت، ولها اربعة اخوة اخرون اثنان من الذكور واثنتان من الاناث، اخوها الكبير يدرس الهندسة في الخارج في سنته النهائية وسيعود بعد شهور قليلة، وهي قد تركت الدراسة لمساعدة والدتها في الاعمال المنزلية.. وفيما نحن في هذا الحديث خرجت الام الى الباب يسبقها صوتها الغاضب: ـ الم تنتهي بعد من غسل الشارع؟
عندما رأتني لانت تعابير وجهها واقبلت مُرحّبة، بل والاكثر من ذلك سحبتني من يدي الى داخل الدار واصرت ان اتناول طعام الغداء معهم، ولم يفدني تمنعي وانني في دوام رسمي والمدير سيغضب عليّ، ضحكتا قائلتين:ـ
لايهمك ودعي أمر ابو عامر علينا..
احسست منذ الوهلة الاولى بالالفة والمودة لهذا البيت الذي تفوح النظافة من اركانه رغم بساطته واثاثه المتواضع، وكانت هناك صورة كبيرة لشاب وسيم تتوسط جدار غرفة الجلوس اشارت اليه (الهام) بانه اخيها الذي يدرس في الخارج..
بعد شهور قليلة ارتفعت اصوات الزغاريد من بيت ابو لامع معلنة عودة الابن الغائب.. وفي ذلك اليوم كانت فرحة الوالدين لا يعلو عليها شئ، ولم تفارق الضحكة والابتسامة شفتيهما طوال اليوم.
كان الاب المسكين يقترب من الستين، ضامر الوجه نحيف الجسم، يعاني من عدة امراض ولكنه كان يقاوم ولا يشتكي خوفا من احالته الى التقاعد، وهذا يعني ان عليه اخلاء الدار الحكومية التي يشغلها بإيجار رمزي.
عندما هنأته بعودة ابنه شكرني واغروقت عيناه بالدموع قائلا:ـ آه لو تعلمين ياابنتي ما عانيته طوال هذه السنين لقد حرمت نفسي وعائلتي من اشياء كثيرة من اجل ان اوفر النقود التي كنت ارسلها الى لامع في ديار الغربة، ولكن الحمدلله لقد عوضني سبحانه وتعالى صبري خيرا، سارتاح واتقاعد وسيحمل لامع عني مسؤولية البيت ومسؤولية اخوانه.
وزاد من فرحتهم عندما وجد لامع عملا في كركوك بعد فترة قصيرة مهندسا مشرفا في احدى المشاريع ووضعت سيارة تحت تصرفه يقودها بنفسه ويعود بها كل يوم الى التون كوبري، واستمر على هذا الحال ستة اشهر.
في يوم الحادث كما رواها لنا احد شهود العيان، كان لامع عائدا من عمله عصرا ووقف في صف من السيارات في نقطة التفتيش بين كركوك والتون كوبري، لاحظه احد رجال الامن القائمين بالتفتيش وكان قد اعتاد على رؤيته اثناء ذهابه وايابه الى كركوك واقترب منه مشيرا اليه بالتحرك والاستمرار في طريقه، وبالفعل تحرك لامع محييا الشرطي ومجتازا صف السيارات، وفي تلك اللحظة رفع الشرطي الاخر وكان يفتش السيارة الاولى يده يأمره بالتوقف.. لم يرى لامع الاشارة او قد يكون رآها وظنها اشارة تحية وانطلق في طريقه مسرعا.
رجل الامن الثاني كان اكبر في الرتبة من الاول فشعر بالغضب والاهانة ان يتجاوز الشرطي الاخر على سلطاته فلم يعره اهتماما عندما اخبره الاخير بأنه هو الذي سمح له بالاجتياز.. قفز في سيارة السيطرة وتبع أثر (لامع) الذي كان قد قطع شوطا كبيرا ووصل الى منحدر بين تلتين كان يتسلقه بسيارته..
اطلق الضابط رصاصتين في الهواء لم يسمعها (لامع)، الرصاصة الثالثة وجهها نحو اطارات السيارة.. وفي لحظة حدث كل شئ.. طارت سيارة لامع في الهواء كعلبة كارتون صغيرة واستقرت بين صخور الوادي.. ولسوء حظ الشاب المسكين قذفته الصدمة خارج السيارة قبل ان تستقر رأسا على عقب ويسقط هو وترتطم رأسه بالصخور الناتئة ويتناثر مخهُ عليها ليسلم الروح في الحال.
في المساء وصل الخبر المشؤوم الى اهله عن طريق من رأوا الحادثة، ولكن لم تسلّم جثته الا في اليوم التالي، وعرف القاصي والداني في الناحية بالحادث وتقاطروا الى البيت في انتظار النعش.
افقت من افكاري على تعالي الصراخ والعويل وابواق السيارات وخمنت وصول النعش، خرجت الى باب الدائرة، كان المنظر فوق طاقة البشر.. الاب المسكين وهو يتمرغ في التراب والام التي اخذت تطلق الهلاهل *** من بين دموعها قائلة:ـ ِانهض يالامع لقد جاء الاقارب الى حفلة عرسك، والهام وقد رمت نفسها على النعش لا تريد عنه فكاكا.. لم اتحمل كل هذا هرعت الى الداخل وانا اجهش بالبكاء.
عندما عدتّ الى كركوك في المساء كان من الطبيعي ان امر من نفس الطريق الذي سلكه لامع، كانت سيارته لا زالت هناك بين الصخور ومن يدري قد يكون بقايا مخه ايضا.. وصلنا الى نقطة التفتيش، همس احد الركاب مشيرا بطرف عينه الى احد رجال الامن قائلا :ـ هذا هو من اطلق الرصاص على سيارة لامع..
كان المجرم لا يزال يزاول عمله بشكل اعتيادي بوجهه الكالح السواد وشواربه الكثة وعيونه الجاحظة وكأنه لم يتسبب في قتل نفس بشرية بريئة قبل ساعات قليلة، ومن يدري ماهي الكذبة التي رواها اثناء التحقيق ؟ ومن لديه الجرأة ان يكذّب ما رواه ؟ بل ومن يدري انه لم يكافأ من قبل رؤساءه على اخلاصه في العمل.
ابو لامع توفى بعد شهور قليلة من مقتل ابنه.. والدته لم تخلع السواد ابدا وحرمت نفسها من أي طعام كان لامع يحب اكله، ولم تحضر حتى عرس ابنتها( الهام) التي ظلت تزورني بين حين وآخر بعد نقل خدماتي الى كركوك.. ثم انقطعت اخبارهم عني بعد تركي العراق