من السمات الحضارية في الدول المتقدمة عدم وجود نقاط التفتيش(السيطرات باللهجة العراقية الدارجة) فالمواطن يتنقل بين المدن بكل حرية دون ان يسأله احد من اين اتى والى اين وجهته. . وكل ما يمكن ان يفاجأ به سيارة شرطة المرور التي تحرس الطرق الخارجية بكاميرات خفية للسيطرة على تهور بعض السواق الذين قد تتجاوز سرعتهم القصوى ما مسموح به فيتقدم ضابط المرور من السائق بكل ادب و يلقي عليه محاضرة قصيرة عن مخاطر السرعة عليه وعلى الاخرين وعن مفاجأت الطريق التي لن يمكنه السيطرة عليها وهو بهذه السرعة. .
على كل ليس هذا هو موضوعنا وانما موضوع السيطرات بين المدن. . فما من عراقي لم يعاني يوما من نقاط التفتيش بل الوقوف بالساعات في طوابير وتلقي الاهانات من شرطي أمن جلف لايفرق بين استاذ جامعي او طبيب او سيدة. . . و السيطرات كانت تعرف بأسمائها (سيطرة بغداد) (سيطرة كركوك)(سيطرة الموصل). . . الخ. . واجتياز هذه السيطرات بين المدن وفي دولة واحدة اصعب من اجتياز االحدود الى دولة اخرى واجراءات المرور اصعب من اجراءات السفر بالطائرة، عندما كنت تصل بعد معاناة شديدة وانتظار طويل امام نقطة التفتيش يصيبك الرعب والهلع من هيئة واشكال البشر الذين تم اختيارهم بكل عناية لهذه المهمة. . فعلى من سيقوم بهذه المهمة ان يمر بامتحان عسير امام رؤسائه في استعمال اقذع انواع الشتائم التي تمس الشرف والعائلة والتفنن في استعمال اقسى انواع الاذلال والمهانة. . واسهل الامور صعود الشرطي الجلف الى داخل المركبات الكبيرة لينظر في الوجوه بريبة وشك وينتقي من يقول له (هويتك) ومن لايعجبه ينزله للتحقيق. . واصعب الامور انزال اربعون راكبا وايقافهم بالساعات تحت الشمس الحارقة او البرد القارص دون ان ترف لهم جفن على بكاء الاطفال ومعاناة الامهات. .
واقذر السيطرات قاطبة وبدون منازع كانت(سيطرة كركوك ـ اربيل) خصوصا بعد انتفاضة ۱٩٩۱ وانسحاب دوائر السلطة من المدن الشمالية ومنع تحليق الطائرات على المنطقة الامنة. . وكان على المواطنين الذين يضطرهم السفر من او الى هذه المناطق لغرض زيارة الاهل ومنهم كاتبة السطور يلقون الوان العذاب فالمسافة بين المدينتين لا تتجاوز ٩۰ كيلو متر والمدة لا تتجاوز خمسون دقيقة. . من يصدق لو قلنا اننا كنا نقطعها في تسع ساعت. . هذا بالاضافة الى تفنن جلاوزة السلطة في حصار المنطقة اقتصاديا ومنع مرور اي مادة غذائية حتى لو كان هذا (تفاحة واحدة وحبة طماطة في كيس من النايلون) في يد طفل كردي صغير سحبها الجلف من يد الطفل بقسوة قائلا: (ممنوع). . . وعندما تحججت الام القروية المسكينة بلغتها الكردية بأنه طعام الطريق لطفلها الجائع. . ردعليها قائلا وبالحرف الواحد (اذا كنت انت جائعة تعالي لاشبعك انا) واكاد اجزم بأن المرأة المسكينة لم تفهم ما يعنيه. . قالها امام جميع المنتظرين دون خجل او حياء!!! ومن يستطيع ان ينطق بكلمة احتجاج واحدة حتى لو كان هذا زوجها فالغيرة الرجولية كانت قد سحقت تحت احذية البسطال الثقيلة. . و السيارات تقف في طوابير طويلة وكل سيارة يتم تفتيشها في مدة تقارب الساعة. . يبدأ اولا بافراغ خزان الوقود والابقاء على ما بالكاد يوصل الركاب الى اربيل. . ثم على السائق إخراج جميع مقاعد السيارة ووضعها على الارض، وازالة بطانة ابواب السيارة، وافراغ الحقيبة الخلفية، وفتح الغطاء الامامي. . وبعد ذلك يتفضل الجلف بتفتيش السيارة اسفلها واعلاها وعندما ينتهي يغادر الى غرفته المكيفة وعلى السائق ارجاع كل شئ الى مكانه والا لن يسمح للسيارة التالية بالتقدم. . . ومن جهة اخرى هناك جلف آخر عليه تفتيش الركاب، وهذه لا تكفيه الصفحات في وصف ما كان يجري. . تفرغ الجيوب. . تنزع الاحذية والجوارب والوقوف حفاة على اسفلت الشارع يرفعون قدما وينزلون اخرى والحرارة تلسع الاقدام. . ثم يجلس الجلف على دكة حجرية فاتحا امامه الحقائب ينفض الملابس الداخلية والخارجية تحت انظار الجميع ولا يهم ان كانت الحقيبة لسيدة، وعليها بعد ذلك لملمة كل شئ واعادتها الى الحقيبة، ثم يأتي دور الحقائب اليدوية للسيدات، بعد ان يتم كل هذا وسرقة ما يمكن سرقته خفية او جهارا يسمح بالمرور، وعلى الراكب حمل حقيبته والابتعاد عشرون مترا في انتظار ان يطلق سراح السائق ومركبته. .
بعد مغادرتي العراق سمعت من القادمين بأن الظروف قد ساءت اكثر ومنعت المركبات الصغيرة من المرور وكان على المسافرين ركوب اللوريات مثل قطيع الاغنام. . وامعانا في الاهانه كان لايسمح لهم بمعاودة الركوب بعد التفتيش الا اذا قالوا (ماه. . ماه) مثل الشاة.
ولكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل ودوام الحال من المحال، هاقد انزاح الظلم وجلف الامس كالفأر المذعور خائف من ان يتعرف عليه احد ممن مارس بحقهم الاهانة والتعذيب. . . وها قد عاد الطريق مثل الدول المتقدمة مفتوحا بدون سيطرات او نقاط تفتيش. . وها قد عدنا نقطعها في خمسون دقيقة فقط. . .
ولكن هل تدوم هذه الفرحة وهناك مشروع تقسيم العراق الى ولايات شيعية وسنية وكردية؟؟؟؟ وهل نضمن ان تبقى الطرق مفتوحة امام المواطن العراقي من شماله الى جنوبه؟؟؟؟ هل نضمن عدم اعادة السيطرات بشكل اقسى؟؟؟ ماذا لو اراد مواطن من المنطقة السنية المرور الى المنطقة الشيعية!!! او من الشيعية الى المنطقة الكردية. . . هل نضمن عدم التفتيش والاعاقة والتأخير!!! والادهى اذا قام بعض ضعاف النفوس ورجال السلطة البائدة ممن لهم المصلحة في عدم استقرار الامور باحداث تفجيرات هنا او هناك من المناطق أملا في أن يتهم كل طرف الطرف الاخر. .
وبعد هذا هل يحتاج الامر الى اصدار جوازات سفر صادرة من سلطات تلك الولايات للمرور من السيطرات؟؟؟. . . هل سنحتاج الى ثلاث جوازات للسفر داخل العراق وجواز واحد للسفر الى الخارج؟؟؟
كلها تساؤلات والتسائل مشروع لمن كان مستقبل العراق مجهولا بالنسبة له ولغيره من المواطنين ممن لا ناقة لهم ولا جمل في هذه المعمعة.