الحلقه الثانيه: (الجناة). . الأكراد، الشيوعيون، قاسم
إذا كانت أحداث كركوك قد جرت بهذه الطريقه البشعه حيث جرى التخلص من الضحايا وقتلهم سحلا فى الشوارع وما تلى ذلك من تعليق جثث الضحايا على أعمدة الاناره وفروع الأشجار فإن التساؤل الذى يطرح نفسه من خلال قراءاة تلك الأحداث هو: ماهى الجهه أو الجهات صاحبة المصلحه فى قتل التركمان والاعتداء عليهم بهذه الصوره البشعه؟
لقد أجمعت الروايات المختلفه للأحداث على أن الأكراد هم أصحاب الدور الرئيس والأساس فى قتل التركمان والتنكيل بهم لرغبتهم فى تفريغ مدينة كركوك من سكانها الأصليين وضم تلك المدينه البتروليه الهامه لمناطقهم فى الشمال وإقامة دوله كرديه أو كيان كردى فى شمال العراق ونظرا لأن التركمان وقت حدوث المذبحه كانوا يشكلون غالبية سكان المدينه رأى الأكراد ضرورة إرتكاب عمل شنيع ومروع يكون له دوى يبعث على الرهبه ويدفع التركمان لترك المدينه والهرب بأرواحهم وهو ذات الأسلوب الذى إستخدمته العصابات الصهيونيه فى تفريغ المناطق الفلسطينيه من سكانها وكان الأكراد قد منوا بعدة هزائم متلاحقه كان آخرها الهزيمه المروعه التى لحقت بالحركه البرزانيه الثالثه على أرض إيران وبعدها فر الملا مصطفى البرزانى إلى الاتحاد السوفيتى عام ۱٩٤٧ ولم يعد إلى العراق إلا بعد إنقلاب ۱٤ يوليو / تموز ۱٩٥٨ حيث سمح له عبد الكريم قاسم بالعوده واستقبله إستقبال الفاتحين وخصص لاقامته أحد قصوررئيس الوزراء السابق نورى السعيد وأمر بمخصصات ماليه لكل برزانى وقد وضح فى تلك الفتره سيطرة الأكراد على مجريات السياسه فى العراق فكان (خالد النقشبندي) وهو كردى أحد أعضاء مجلس قيادة الثوره كما ضم مجلس الوزراء لحكومة قاسم وزيرين كرديين هما بابا على شيخ محمود إبن الشيخ محمود الحفيد الزعيم الكردى المعروف و محمد صالح كما صدر الدستور العراقى المؤقت مقررا ولأول مره " أن العرب والأكراد شركاء فى الوطن " دون أدنى مراعاه للقوميات الأخرى وقد إستغل الأكراد هذا الوضع فى تكريس سيطرتهم على مدينة كركوك فتقلدوا جميع المناصب السياسيه والتنفذيه فى المدينه وسعوا لصبغ المدينه بالصبغة الكرديه مستخدمين فى ذلك كافة الوسائل المشروعه وغير المشروعه. وقد ساعد الأكراد فى ذلك تحالفهم مع الشيوعيين العراقيين ورغم أن الشيوعيين فى عهد قاسم كانوا خارج سدة الحكم إلا أنه سمح لهم بالنشاط السياسى على أوسع نطاق حيث قفز أعضاء الحزب الشيوعى من ٧٠٠ عضو قبل الانقلاب إلى مايزيد على أربعين ألف عضو خلال شهور قليله وتحالفوا مع نظام قاسم المنحاز لجماهير الشعب الكادحه والمعادى للاقطاع و للاحتكارات ولشركات النفط حيث أصدر قوانين الاصلاح الزراعى وأمم قطاع البترول وألغى معاهدة حلف بغداد واتخذ مواقف معاديه للامبرياليه الغربيه وكان أغلب أعضاء الحزب الشيوعى من الأكراد وقد تلاقت المصالح السياسيه للشيوعيين والقوميين الأكراد إذ أن البارتى (الحزب الديموقراطى الكردستانى) كان هو الآخر مصبوغا بالصبغه الشيوعيه حتى أن الملا مصطفى البرزانى كان يلقب بالملا الأحمر ومن ثم وكما يرى الباحث العراقى حنا بطاطو فقد كان: " للشيوعيين دور ناشط فى إنفجار الأحداث، ولكن كأكراد، لاكشيوعيين. ولم تكن الأهداف التى سعى هؤلاء إلى تحقيقها أهدافا شيوعيه، بل كرديه. وكانت شيوعيتهم فى معظم الحالات، شيوعيه سطحيه. ويبدو أن ماحدث، فى الواقع، كان أن الأكراد طوعوا كل المنظمات المساعده للحزب الشيوعى لخدمه أغراضهم، أى لخدمة نزاعهم القاتل مع منافسيهم التركمان " وهكذا كرست أبواق الدعايه الكرديه والشيوعيه جل إهتمامها للطعن فى وطنية التركمان فهم طورانيون وعملاء لتركيا وشركات النفط والسنتو مع أن التركمان كانوا من أخلص فئات الشعب العراقى للثوره ولم يرفع التركمان إلا الأعلام العراقيه والشعارات الوطنيه على العكس من الأكراد والشيوعيين الذين دأبوا على رفع الأعلام الشيوعيه الحمراء والولاء للاتحاد السوفيتى وبلدان الكتله الاشتراكيه ورفع شعارات نحو " إتحاد فيدرالى و صداقه سوفيتيه " وكأن العراق أضحى جزءا من الكتله الشرقيه، وقد ظلت أبواق الدعايه السوداء تردد الأكاذيب حول التركمان مرددين نغمة " التآمر " و" العماله " ولعبت جريدة " إتحاد الشعب " (عدد ۱٤٧) دورا حاسما فى أحداث كركوك وفى التحريض على قتل التركمان ونشرت البرقيات التى تحض على العنف مما يسمى ب " ممثلى المنظمات الديمقراطيه " و" جبهة الاتحاد الوطنى " و " اللجنه الوطنيه لأنصار السلام فى كركوك " والتى تصف التركمان بالرجعيين والأذناب.
وإذا كان ضلوع الأكراد والشيوعيون فى إرتكاب مجزرة كركوك بحق التركمان المسالمين ثابتا ثبوت اليقين فإن الأمر الذى يثير حيرة الباحثين هو موقف عبد الكريم قاسم وعما إذا كان هو الآخر ضالعا فى إرتكاب هذه المذبحه بطريقه أو بأخرى، يرى جانبا من الباحثين أن عبد الكريم قاسم برىء من دم التركمان فالرجل قد أدان الجريمه ومرتكبيها فى خطابه فى كنيسة مار يوسف بتاريخ ١٩ / ٧ / ١٩٥٩ وقال بالحرف الواحد:
- " إننى أبارك لاخوانى التركمان صبرهم وسوف أسعى جاهدا لرعايتهم فقد أصبح الشعب فى هذه الأوقات كتله واحده متراصه لايفرق ابناءه بعد اليوم مفرق "، وأضاف قاسم قائلا: " أما ماحدث فى كركوك فانني أشجبه تماما، بإستطاعتنا أيها الاخوان أن نسحق كل من يتصدى شعبنا بأعمال فوضويه نتيجه للحزازات والأحقاد والتعصب الأعمى، إننى سأحاسب حسابا عسيرا اولئك الذين إعتدوا على حرية الشعب فى كركوك بصوره خاصه أولئك (. . . .)الذين يدعون بالحريه والديموقراطيه لايعتدون إعتداء وحشيا. إن حوادث كركوك لطخه سوداء فى تاريخنا ولطخه سوداء فى تاريخ ثورتنا. هل فعل ذلك جنكيز خان أو هولاكو؟ أهذه مدنية القرن العشرين؟؟ " ورغم هذه الادانة الواضحه من قبل عبد الكريم قاسم للجريمه النكراء بحق التركمان إلا أن قسما كبيرا من المؤرخين يرى ضلوع قاسم ونظامه فى تلك المذبحه و أن قاسم كان على قمة السلطه ويمسك بجميع خيوط اللعبه فى يديه وأنه ماكان للأ كراد والشيوعيين أن يرتكبوا جريمتهم دون علم قاسم وأن قاسم لو لم يكن ضالعا فى المؤامره لأمكنه تفادى ووقوعها بالحد من سلطات المتعصبين الأكراد والشيوعيين و الفوضويين بيد أن قاسم والذى بعث له التركمان بالمناشير الحزبيه والتى تحض على قتل التركمان لم يحرك ساكنا وهناك من الأدله مايؤكد على إشتراك جنود الجيش والعربات العسكريه فى عمليات قتل وسحل التركمان فضلا عن قيام قوات الجيش بإغلاق جميع الطرق والمنافذ المؤديه لكركوك عدا طريق السليمانيه لافساح المجال أمام الأكراد والشيوعيين لدخولها عند الحاجه، كما أن قاسم لم يرسل التعزيزات العسكريه لوقف المذابح إلا بعد مرور ثلاثة ايام على بدئها مما يؤكد ضلوعه فيها، ويرى فريق آخر من المؤرخين أن قاسم غض الطرف عن مذابح كركوك ليتخذها كذريعه للتخلص من الشيوعيين والحد من نفوذ الأكراد، وأنه قد شعر بالرعب من مسيرة الأول من مايو ۱٩٥٩ والتى قام على تنظيمها الحزب الشيوعى العراقى والقوى القوميه الكرديه المتحالفه معه وأنه خشى من وثوبها للسلطه خصوصا بعد ان افصحت عن ذلك صراحة اثناء التظاهره إذ ردد المتظاهرون: " عاش زعيمى عبدالكريم، حزب الشيوعى بالحكم مطلب عظيم " وهو مادفع قاسم إلى توريط تلك القوى المتوثبه للحكم فى تلك المذبحه المروعه بقصد إزاحتها عن طريقه ويدللون على ذلك بالمحاكمات الصوريه التى عقدها قاسم والأحكام الهينه والبسيطه التى صدرت بحق المتهمين والتى بدت (كقرصه اذن) لمنافسيه السياسيين وإشاره لهم بأنهم تجاوزوا الحد، وهو الأمر الذى دفع بقادة إنقلاب الثامن من آذار / مارس ۱٩٦٣ والذى وضع نهاية نظام قاسم إلى إعادة محاكمة المجرمين وتوقيع العقوبات التى تتناسب والجرائم التى إقترفوها.