مجزره كركوك (١٤ يوليو / تموز ١٩٥٩)
(الحلقه السادسه)... الدروس والعبر
لم تكن مجزرة كركوك مجرد أحداث عابره راح ضحيتها مجموعه من المواطنين التركمان بل كانت عملا مدبرا خطط له ونفذه العصابات الكرديه بالتعاون مع جماعات الفوضويين من أعضاء الحزب الشيوعى العراقى والمنظمات الشعبيه تحت سمع وبصر حكومة عبدالكريم قاسم التى أرادت للأحداث أن تسير سيرها المرسوم، وقد أرادت العصابات الكرديه أن توقع الخوف والرهبه فى نفوس التركمان لدفعهم للرحيل عن كركوك كى يتثنى لهم تحقيق الحلم القومى بإقامة كردستان وعاصمتها كركوك وهو ماعبر عنه الملا مصطفى البرزانى مرارا وتكرارا بقوله: " كركوك مع النفط " وقوله " كركوك قلب كردستان " وقوله أيضا: " كركوك كرديه ولو بكردى واحد" وهى المقولات التى تعبر عن التطرف المقيت والرغبه فى الاستحواذ على حساب الآخرين، وكان الأكراد هم الطرف المستفيد من إشعال الفتنه بسبب سعيهم الدائم لتكريد المدن والمناطق والقصبات فى شمال العراق وإفراغها من سكانها الأصليين، ولم يكن للشيوعيين مصالح ظاهره فى حدوث المجزره وإن جمعهم مع الأكراد تحالفات مصلحيه وأفكار أيديولوجيه، ولم يكن نظام قاسم يرغب فى أكثر من ضرب القوى السياسيه بعضها ببعض كى يتاح له الانفراد بالسلطه، فتحالفت هذه القوى الثلاث مع إختلاف غاياتها ومراميها على إرتكاب المجزره المروعه.
وكان الأكراد يهدفون إلى إحداث هزه نفسيه عميقه لدى الشعور الجمعى لجموع التركمان يتولد عنها رهبه وخوف شديدين تدفعهم للرحيل والهجره من العراق إلى تركيا " الوطن الأم " على نحو مافعلت العصابات الصهيونيه فى دير ياسين وغيرها حيث إرتكبت مجازر شنيعه بحق الفلسطينيين دفعت بالكثيرمنهم للهجره إلى وطن بديل " دول الجوار العربى " يتشابه فى الكثير من خصائصه مع الوطن الأصلى، فالمتعصبون الأكراد لايعتبرون التركمان عراقيون وطنيون بل ينظرون اليهم كأتراك وإن عليهم الرحيل إلى وطنهم الأصلى، ومن هذا المنظورأخذ المتعصبون الأكراد فى تغذية الشعور بالاحساس لدى مؤيديهم بأن التركمان مجرد جاليه أجنبيه وأنهم عملاء لتركيا وعملاء للميت وشركة النفط الانجليزيه وأخذوا فى إتهامهم بالتآمر، و ساعدهم الجو السياسى السائد والمنظمات الفوضويه المنتشره آنذاك فى الترويج الواسع لأفكارهم الشيفونيه التعصبيه ضد التركمان إذ كان الأكراد والأكراد الشيوعيون يملكون النفوذ والسلطه والاعلام داخل كركوك وفى عموم العراق فكان معروف البرزنجى السكرتير الشيوعى الكردى لأنصار السلم هو رئيس البلديه وكان عونى يوسف وهو من الديموقراطيين الأكراد رئيسا للمحكمه، والرئيس الكردى الشيوعى مهدى حميد قائدا لقوات المقاومه وكان الزعيم الركن داوود الجنابى وهو شيوعى عربى قائدا للوحدات ونظرا لوجود تحالف قوى بين حزبه والأكراد فإنه قد سخر كل سلطاته من أجل تحقيق الأمانى والتطلعات الكرديه، وفى الوقت الذى أغلق فيه كافة الصحف التركمانيه فإنه قد أطلق العنان للصحف الكرديه والشيوعيه لتسميم الأجواء وبث الدعايات المغرضه، وكرس عونى يوسف كل أعداد جريدة كاوور باغى التى تصدر وتمول من بلدية كركوك للهجوم على التركمان، وبالمقابل كان الأكراد المتعصبون لايعتبرون أنفسهم عراقيون بل أكرادا وطنهم الأصلى كردستان المجزأه والموزعه على عدة دول وأخذوا فى تغذية مشاعر مواطنيهم بهذه الأفكار الانفصاليه وتعميق الاحساس لديهم بضرورة إفراغ كردستان الجنوبيه الممتده من زاخو حتى تكريت من
كافة الغرباء عربا كانوا أم تركمانا أو كلدو آثوريين وكان التركيز على كركوك عاصمة النفط والتى بدونها لايمكن تحقيق حلم كردستان، إن هذا الحلم الكردى هو الذى دفع بالمتعصبين الأكراد لدوامة الصدام مع جميع الحكومات المتعاقبه على حكم العراق، وأيضا مع جميع العرقيات الأخرى القاطنه فى المناطق التى يطلق عليها المتعصبون الأكراد " حدود كردستان القديمه "، والأكراد وهم بصدد تحقيق حلمهم هذا تحالفوا مع الجميع واعتنقوا كل الأفكار والأيدولوجيات فهم شيوعيون وهم رأسماليون وهم شرقيون وغربيون، وفى حرب الخليج الأولى هم مع العراق ومع إيران ومن منهم مع إيران اليوم مع العراق غدا فى توزيع محير للأدوار، هم مع إسرائيل وفى ذات الوقت يصطفون مع الفلسطينيين دفاعا عن بيروت، باختصار شديد هم مع الجميع وضد الجميع، إن عدم وضوح الرؤى والمنطلقات والغايات لدى القوى التعصبيه الكرديه هو الذى وضع هذه القوى فى حاله من الصدام مع بقية القوى الوطنيه العراقيه بل وفى كثير من الأحيان مع الشعب الكردى نفسه، وكان الشعب الكردى هو ضحية ضيق الأفق والمغامرات غير المحسوبه لتلك القوى التعصبيه والزعامات الفارغه التى كانت السبب فيما حل به من كوارث. وقد كان الخطأ الأساس الذى إرتكبه نظام قاسم هو بثه روح التفرقه بين المواطنين بالنص فى الدستور المؤقت على أن العرب والأكراد شركاء فى الوطن إذ كيف يكون العرب والأكراد شركاء فى الوطن دون أن يكون للآخرين نصيب فيه وإذا كان الوطن حكرا على عرقيتين فقط فما هو الأساس الذى يستند عليه وجود بقية القوميات على أرض ذلك الوطن؟ وهل بقية القوميات ومن ضمنهم التركمان مواطنون أم أجانب؟ هل هم أصلاء أم دخلاء؟ وماهى الضمانه والحمايه التى يمكن أن يستندوا عليها فى المطالبه بحقوقهم إذا كان القانون الأساسى للدوله قد أخرجهم من عملية الشراكه فى الوطن؟.. ذلك باختصار المأزق القانونى الذى أرساه نظام قاسم فدفع بالعرقيات داخل الوطن إلى حافة المواجهه،
كما أن نظام قاسم أيضا سعى لتهميش عرقيه على حساب أخرى، وفى الوقت الذى أبعد فيه التركمان عن المناصب السياسيه العليا منح الأكراد السلطات السياسيه والتنفيذيه والقضائيه فى مدينة كركوك وهو الوضع الذى كان يستثير حفيظة التركمان أصحاب الأغلبيه العدديه فى المدينه، فضلا عن أن حكومة عبد الكريم قاسم كانت قد دأبت على إفساح المجال أمام العناصر الفوضويه التى تتبنى الشعارات الفارغه والتى أخذت فى كيل الاتهامات بالتآمر والعماله للتركمان الأمر الذى سمم الأجواء فى مدينة كركوك ومهد الطريق للصدامات العرقيه الداميه.
من كل ذلك يتضح أن مجزرة كركوك لم تأت من فراغ وإنما جاءت نتيجة لسلسله من الأخطاء وهذه الأخطاء تقع بالأساس على السلطه من ناحيه، ومن ناحية ثانيه على الأكراد، فالسلطه هى التى وضعت الأساس للتفرقه والتمييز بين المواطنين، والأكراد ناصروها فى هذا الاتجاه لرغبتهم فى تهميش التركمان والحد من حرياتهم والتضييق عليهم بهدف دفعهم لمغادرة البلاد وإخلاء كركوك وتفريغها من سكانها الأصليين باعتباره الهدف الاستراتيجى الأول للأكراد، غير أن التركمان راحوا يطالبون وبالوسائل السلميه بحقوقهم السياسيه والثقافيه مما حدا بالأكراد المهيمنين على السلطه لأن يستخدموا فى بادىء الأمر أساليب التهديد والوعيد وإذ لم تجدى تلك الأساليب، صعدوا الأمر إلى استخدام الأساليب الدمويه فكانت مجزرة كركوك المروعه..... والحقيقه أن مجزرة كركوك كانت عملا بشعا وجريمه لاتغتفر بحق المواطنين التركمان المسالمين وأن من واجب العراقيين العمل على تلافى حدوث مثل تلك الجازر مستقبلا و تلافى الأخطاء التى وقعت فيها حكومة عبد الكريم قاسم حتى لايجد المواطنون أنفسهم مرة أخرى على حافة المواجهه.. إن على الجميع أن يؤمنوا بعراق واحد موحد يتمتعون فيه بالحقوق على قدم المساواة فى ظل دستور يضمن للجميع شراكة الوطن ولا تمييز فيه بين مواطن وآخر على أساس العرق أو الدين أو المذهب لأنه بغير ذلك لايمكن تحقيق الاستقرار والسلام فى ربوع العراق.