دور الملا البرزاني فى مجزرة كركوك
(شهادة الشهود والوثائق الرسميه العراقيه)
(الحلقة الثالثة والعشرون)
رأينا فى الحلقات السابقه كيف إنقلبت دفة الأمور فى كركوك لصالح التحالف الشيوعي الملائي وكيف تم إبعاد كافة العناصر العربيه والتركمانيه التى كان من الممكن ان تكون حائلا دون وقوع المجزره المعده لتركمان المدينه، وكان القائد الجديد للفرقه قد بدأ مهام عمله بإستقبال الملا مصطفى البرزاني للتشاور وتلقى التوجيهات بشأن مايمكن عمله نحو تصفية الوجود التركماني فى كركوك وتدبير مذبحه مروعه قد تؤدي إلى إزاحة هذه المجموعه العرقيه العنيده المتشبثه بالمدينه والتى صارت حائلا دون تنفيذ مخططات الملا التآمريه بشأن الإنفصال وإقامة جمهورية كوردستان البرزانيه، وكانت إحتفالات الأول من مايو ١٩٥٩ (عيد العمال العالمي) فرصه ذهبيه لهذه العناصر الفوضويه لإظهار القوه وفرض العضلات وإرهاب التركمان، حيث قدم إلى كركوك الملا مصطفى البرزاني واستقبله البارتيون والشيوعيون إستقبال الفاتحين، وتبارى الخطباء فى إضفاء صفات البطوله والعبقريه عليه، وفي اليوم التالي عزم الملا على زيارة قائد الفرقه فى مقره وهناك تدافعت الجموع المدنيه والعسكريه للملائيين والشيوعيين وهي تهتف بالموت لدعاة القوميه المزيفه (القوميه العربيه) وللطورانيين (التركمان)، وقد خاطب الملا جماهير الملائيين والشيوعيين والفوضويين من شرفة القياده، وكان من المكر والدهاء لدرجة أن خشي من أن تعالي الهتاف بإسمه ونعته بالزعيم ورفع الجماهير لصوره من المحتم أن يوغر صدر كريم قاسم عليه، لذلك ناشد الجماهير أن تهتف بكريم قاسم زعيما أوحدا واصفا نفسه بالخادم المطيع للزعيم عبد الكريم، بيد أن تقارير كانت قد سلمت بالفعل لعبد الكريم قاسم أظهرت مدى غطرسة الملائيين وتجاوزهم لكل الحدود ورفعهم لصور الملا البرزاني وهتافهم بإسمه فغضب لما حدث من تصرفات هؤلاء، فضلا عن تقارير أخرى عن تحركات عسكريه مشبوهه أثارت الشكوك عن عزم الملائيين والشيوعيين قيادة إنقلاب ضده، وقد بينت تلك التقارير أن داؤود الجنابي قد كلف ضابط ركن الحركات الرائد على حسين جاسم بإعداد تمرين تعبوي لحركة لواء على طريق بغداد ـ كركوك مع بيان الإنفتاح والتعسكر على الخريطه ولم يوضح الهدف منه، وهو مافسر على انه تدريب على مؤامره شيوعيه ملائيه للسيطره على الحكم، كما أن التقارير كانت تصل يوميا لعبد الكريم قاسم مؤكدة بأن داؤود الجنابي المدعوم من جماعة الملا ومن الحزب الشيوعي يضمر الشر لعبد الكريم قاسم وأنه كثير الإنتقاد لشخصه، وأنه عبر عن إستهانته به عندما رفع خمسة عشر صوره لعبد الكريم قاسم على شكل دبوس كان يعلقها على صدر سترته وقام بإلقائها فى نفاضة السجاير، وهو ماجعل قاسم يسرع فى إستدعاء الجنابي إلى بغداد وقام بعزله من قيادة الفرقه وعين محله العميد محمود عبد الرازق، وقد ثارت ثائرة المنظمات الشيوعيه والبارتيه لهذا القرار وعبرت عن غضبها بتنظيم الإجتماعات والتظاهرات المطالبه بعودة القائد المعزول داؤود الجنابي لمقر قيادته، بيد أن قاسم الذي بدأ يشعر بخطر الملائيين والشيوعيين لم يعر هذه الإحتجاجات ثمة إهتمام وأصر على قراره،.. ولنقرأ شهادة العقيد الركن إسماعيل حمودي الجنابي ضابط ركن الفرقه الأول (رئيس الأركان) حول ظروف إبعاد داؤود الجنابي عن كركوك.. يقول:
".. بعد ثورة الشواف سيطر الشيوعيون والبارتيون على وحدات الفرقه الثانيه والمنطقه الشماليه قاطبة وخاصة فى مقر الفرقه فى كركوك. وكان الموجه للخط المدني والعسكري للحزب الشيوعي في الشمال قائد الفرقه الزعيم الركن داؤود الجنابي، وكانت مراجعاتهم مستمره ليل نهار، وتلفوناتهم لاتنقطع تطلب التوجيهات منه مباشرة وأصبح مركز قوه عند الشيوعيين فى الشمال، يكاد يكون مزاحما لمركز القوه لعبدالكريم قاسم. ولوأتيحت الفرصه للشيوعيين لعزلوا عبدالكريم قاسم ونصبوا داؤود الجنابي، مع أنه لم يكن سويا فكان يختلي مع نفسه يومين أو ثلاث لايرى احدا ولايراه أحد، وكان يتناول حبوبا مهدئه وأدويه فى فتره الخلوه هذه.
لقد تنامى نفوذ داؤود الجنابي بشكل سريع وكبير مما أزعج عبدالكريم قاسم. ومع أن داؤود الجنابي كان ينتقد الملا مصطفى البرزاني بقوله: إن الملا رغم قضائه ثلاثة عشر سنه في الإتحاد السوفيتي لايزال مخه محجر، لم يفهم عن تطورات العالم شيئا ولم يتعلم ولايزال مخه مثل مخ الملالي.. ومع هذا كان لايرد طلبا للبارتيين. وبعد ذهاب داؤود الجنابي إلى بغداد لم يعد إلى كركوك، وهذا مما زاد فى غضب الشيوعيين والبارتيين. وقد ذهبت عدة وفود مدنيه شيوعيه وبارتيه من كركوك لمواجهة عبدالكريم قاسم والطلب منه إعادة الزعيم داؤود الجنابي ولكنه رفض ذلك وسلمت الفرقه إلى العميد محمود عبدالرازق مما أغضب البارتيين والشيوعيين معا. "
ورغم إبعاد داؤود الجنابي عن كركوك إلا أنه كان قد إتخذ من الإجراءات مايكفى لتهيأة الأجواء لحدوث المجزره، فقد أبعد عن كركوك كافة العسكريين العرب والتركمان، وأمر بإعتقال آلاف الشباب التركمان، وقام بإبعاد العديد من القيادات والعناصر التركمانيه النشطه إلى الجنوب، وقام بغلق الصحف التركمانيه، ومكن البارتيين والشيوعيين من السيطره على كل مجريات الأمور فى كركوك مدنيا وعسكريا وكان بحق أحد الأسباب المباشره فى حدوث المجزره الرهيبه.. ولنقرأ رأى المرحوم ناظم الطبقجلي فى خلفه فى قيادة الفرقه.. يقول:
"... إن خلفي فى قيادة الفرقه الثانيه الزعيم الركن المتقاعد الرفيق داود الجنابي قد ترك وراءه ذكرى لن تنساها الأجيال، ذكرى سوداء لطخت ثورتنا بدماء الشهداء الأبرياء بسبب عقيدته بسبب ميوله إن ضحايا مجزرة كركوك دفنوا أحياء ومثل بهم سحلا وتقتيلا وتشويها، هذه إنسانية الشيوعيين، الإنسانيه التى يفهمونها هم وحدهم، وعن غير هذا السبيل لايمكن لهم الوصول إلى غاياتهم إلا على بحر من الدماء وهو القانون والدستور الذى يعمل به الفوضويون للإباده. إبادة كل من يخالفهم فى عقيدتهم واتجاهاتهم.. إنها عقيدة العملاء.. هذا أنا لم تخضب يدي بالدماء بدماء ابناء وطني وكفى...... "
وكفى أيضا ما أوردناه من شهادات حول دور الملا البرزاني فى مجزرة كركوك على أن نستكمل بقية الوثائق وشهادات الشهود فى الحلقه المقبله. وللحديث بقيه،
(* وردت شهادة العميد الركن إسماعيل حمودي الجنابي فى موسوعة ١٤ تموز - ثورة الشواف (٣) للعميد المتقاعد خليل إبراهيم حسين - ط دار الحريه للنشر بغداد، ١٩٨٨ - رقم الصفحه ٢٠٧، * ووردت شهادة المرحوم ناظم الطبقجلي فى ذات المرجع رقم الصحيفه ١٥٧)
(الحلقة الرابعة والعشرون)
رأينا فى الحلقات السابقه كيف تعرض التركمان للظلم والحيف والجور من إخوة لهم فى الوطن راحوا يدبرون المكائد ويحيكون المؤامرات ويتحينون الفرص للإنقضاض عليهم والفتك بهم، ولم يكن لهذا العداء مايبرره، فطبيعة الشعب التركماني السمحه وطيبته المعروفه وحسن معاشرته للقوميات الأخرى جعلت منه شعبا مثاليا يحسن حقوق الجوار، لم يعرف عنه رغبه فى إنفصال أو طموح فى إستقلال أو خيانه للوطن، وعندما كانت له الخيره بين البقاء فى العراق أو الرحيل إلى تركيا إختار العراق بلد الآباء والأجداد وطنا يلوذ بحماه ويرفل فى نعمائه ويستظل بظلاله، وفى فترات القهر والتسلط واللهث وراء المناصب كان يلوذ بالصمت ويعتصم بالصبر وينأى بنفسه عن المزاحمه والصراع، ولهذا عاش التركمان تاريخهم على أرض العراق يقدمون الخدمات لإخوانهم فى الوطن ولايفكرون فى أنفسهم، وعاشوا مع الأقوام العراقية الأخرى فى أمن وسلام بعيدين عن أى نزاع أو صراع، يشاركونهم فى السراء والضراء، ولم تشب علاقتهم بهذه الأقوام أي شائبه فى أى فتره من الفترات، ولهذا كانت صدمة التركمان كبيره عندما جوبهوا بحملات الكراهيه من بعض فئات محسوبه على الشعب الكردى النبيل راحت تنفس سمومها فى الأساس المتين للعلاقات الأخويه بين الأقوام العراقيه المتآخيه، وكان هؤلاء هم جماعة الأكراد البارتيين بزعامة الملا مصطفى البرزاني الذي أعاده كريم قاسم من منفاه فى روسيا بتاريخ ٧ تشرين أول ١٩٥٨، ومنذ عودة الملا للعراق حاملا معه أفكاره العنصريه سعى لنشر تلك الأفكار في أوساط الأكراد وتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي والجماعات الفوضويه وكان من نتيجة ذلك أن تحول العراق إلى ساحة للمعارك، وخلال أشهر معدوده من عودة الملا من روسيا (مارس ١٩٥٩) وقعت مجزرة الموصل الدمويه ضد أبناء قوميتنا العربيه والتي قتل خلالها قرابة ثمانمائة إنسان واستخدم القتله البارتيون والشيوعيون أفظع وسائل القتل والسحل وانتهاك الحرمات والإعتداء على الأعراض والحرق والتدمير والسرقه والنهب وبصوره فاقت بربرية العصور الأولى، وكان معروفا عن الملا كراهيته للقوميه العربيه إلا أن كراهيته للتركمان كانت أشد، ولهذا أخذ فى بث الدعايات الكاذبه عنهم وعن مواقفهم من الجمهوريه الوليده محاولا إظهارهم بمظهر الخونه للبلاد ولزعيم البلاد، وكان الملا البرزاني يهدف من وراء ذلك أن يوغر صدر الجهات الحاكمه فى بغداد تجاه التركمان و تهيئة الأجواء للمجزره أو المجازر المرتقبه بحق هذه العرقيه المسالمه، وكان التركمان يشعرون بكراهية الملا البرزاني لهم ورغبته فى تشويه صورتهم لدى السلطات، ولهذا عزموا على كشف حقيقته أمام عبد الكريم قاسم بأن إستعدوا لتنظيم المسيرات الكبرى وإقامة المهرجانات والزينات الضخمه إحتفالا بالذكرى الأولى لإقامة الجمهوريه، وماجعل التركمان يقبلون على هذه الإحتفالات بفرحه غامره وبصدور منشرحه هو شعورهم بالإرتياح من إبعاد داؤود الجنابي صنيعة الملا البرزاني عن قيادة الفرقه، وأحساسهم أن الأجواء صارت مناسبه ليعبروا عن إخلاصهم للثوره والوطن والزعيم.. وعن إستعداد التركمان للإحتفال بالثوره وأجواء السعادة التى غمرت أجواء كركوك يقول العقيد الركن عزيز قادر فتح الله:
"ولما إقترب موعد إحياء الذكرى الأولى لقيام الثوره، نشطت القيادات التركمانيه التى تشكلت من الشخصيات التركمانيه المعروفه لإظهار أقصى درجه من الحرص والحماس على المشاركه الفعاله للتعبير عن الفرحه والتأييد المطلق للثوره وبصوره مستقله لكي لاتفسح المجال لمنظمات الحزب الشيوعي والواجهات التى يهيمن عليها الأكراد ل (تجييرها) أى لتدعيها لنفسها، ومن جهه أخرى كان بمثابة الإعلان عن العزم والتصميم على الخروج من عزلتهم السياسيه السابقه والتفاعل مع الأحداث العراقيه، ولكن بهويتهم القوميه المستقله، وليس بتبعيه للواجهات وسيطرتها... ولكن ذلك لم يرق للطرف الآخر، لتناقض الأهداف والغايات كما قلنا.
بدأ التركمان بالتحضيرات للإحتفال قبل موعده بمده، بدءا بتزيين الشوارع ونصب أقواس النصر فى الشوارع الرئيسيه (شارع الأطلس، الأوقاف، المجيديه) وغيرها، وكان عددها مايزيد على مئة قوس نصر. واتخذت إستعدادات لتنظيم مسيره جماهيريه خاصه بهم يوم الإحتفال. أما الطرف الآخر فقد اصر على ان تكون هنالك مسيره واحده بإشراف لجنه تشكلت من تلك المنظمات وتحت سيطرتها على ان ترفع الشعارات التى حددتها والتى تعبر عن توجهاتها الأيديولوجيه، سالبه التركمان حرية التعبير والرأي على العكس من شعاراتها الرنانه فى هذا المجال، ولغايه معروفه وهى طمس الهويه التركمانيه القوميه واستقلالها. "
... وكان لهذا التصميم التركماني على إقامة إحتفالات ضخمه يظهرون بها ولائهم للوطن والثوره أثره على المعسكر الآخر الكاره لهم والساعى لإفساد علاقتهم مع الدوله، والذى بادر بدوره للعمل على إفساد تلك الإستعدادات.. وعن ذلك يقول العقيد الركن عزيز قادر فتح الله:
".... إن تصميم التحالف الشيوعى / الكردى على الإخلال بإستعدادات التركمان وإفشالها، بدأ بوضوح تام قبل موعد الإحتفال بأيام، إذ بدأت مجموعات من أفراد " المقاومه الشعبيه " والجنود، أغلبهم من سرية الشغل التى كانت ثكنتها تقع فى قلب المدينه (شارع الأطلس) وغيرهم، بتنظيم تظاهرات إستفزازيه وهم يلوحون ويهتفون " ماكو مؤامره تصير والحبال موجوده ".. إلى جانب الهتافات العدائيه السافره مثل " يسقط الطورانيون الخونه.. العملاء.. الخ ". إستمرت هذه التظاهرات ليلا ونهارا وهى تزداد حده وسعه كلما إقترب موعد الإحتفال. "
.... وكانت قيادة الفرقه على علم تام بأن الملا البرزاني الذى غاظه الهمه الكبيره والإستعدادات الهائله التى حشدها التركمان لهذه المناسبه قد وضع الخطط لإثارة الفوضى والإضطراب فى كركوك، وعزم على تنفيذ جريمته بحق التركمان وعن ذلك يقول العقيد الركن إسماعيل حمودي الجنابي رئيس أركان الفرقه:
".. وبمناسبة إحتفالات ١٤ تموز بيت الشيوعيون وحلفائهم خطه لإثارة الفوضى والإضطراب فى كركوك تمهيدا لتصفية التركمان، والتى وضعها الملا للخلاص منهم لعدم تأييدهم خطته فى صبغ المدينه بالبارتيه، ولأنهم محافظون يكرهون الشيوعيه ويسندون السلطه الشرعيه. وكانت الفرقه على علم بهذه الخطه التى كانت تقضى بمرور المتظاهرين البارتيين والشيوعيين من شوارع معينه يقطنها التركمان لإشعال نار الفتنه والقضاء على أكبر عدد من التركمان لإشعال نار الفتنه والقضاء على أكبر عدد من التركمان وبث الرعب فى نفوس الآخرين وإظهار البارتيين والشيوعيين بالمظهر المسيطر على مدينة كركوك ولإسكات صوت المعارضه ضدهم.
طلبت الفرقه عرض خطة المسيره على مقرها، ولما كنا نعرف نواياهم فى القتل والسحل والفوضى، لذلك غيرت الفرقه طريق المسيره ن إلا أن المشرفين على تنظيم المسيره من الحزبيين البارتيين والشيوعيين رفضوا ذلك، واخيرا وافقوا بصعوبه كبيره بذلتها الفرقه لإقناعهم، ولكنهم عادوا وطبقوا ماقرروه. "
... وهكذا كانت نوايا السحالون القتله من أتباع الملا البرزاني مكشوفه للجميع بما فيهم قيادة الفرقه التى بذلت قصارى الجهد من أجل إنقاذ التركمان المسالمين، بيد أن المجرمين كانوا عازمين على تنفيذ جريمتهم القذره بحق الأبرياء شيوخا ونساءا وأطفالا، وكانت تهمة التركمان الوحيده أنهم وطنيون يحبون وطنهم ويعشقون مدينتهم الخالده كركوك ويتشبثون بوحدة الأراضى العراقيه، ويقفون بالمرصاد لمؤامرات الإنفصاليين البارتيين أتباع الملا البرزاني.
فى الحلقه القادمه نواصل عرض بقية الشهادات والوثائق التى تثبت ضلوع الملا البرزاني وجماعة الأكراد البارتيين فى قتل وسحل المواطنين التركمان الأبرياء فى مجزرة كركوك الرهيبه.
(وردت شهادة العقيد الركن عزيز قادر فتح الله فى كتاب التاريخ السياسي لتركمان العراق - دار الساقي، لبنان ١٩٩٩، صحيفه رقم ١٥٥، ١٥٦ ـ ووردت شهادة العقيد الركن إسماعيل حمودي الجنابي فى موسوعة ١٤ تموز، ثورة الشواف (٣) عميد متقاعد خليل إبراهيم حسين - دار الحريه، بغداد ١٩٨٨م، رقم الصحيفه ٢٠٨)
(الحلقة الخامسة والعشرون)
رأينا فى الحلقه السابقه كيف إنتظر التركمان بفارغ الصبرإقتراب ذكرى عيد الثوره الأول وأخذوا يعدون العده لإقامة إحتفالات تليق بهم وبثقلهم السكاني داخل لواء كركوك، وليفوتوا الفرصه على أعداء الوطن والشعب الذين سعوا لتعكيرالأجواء بينهم وبين الحكومه محاولين إظهارهم بمظهر المعادي للثوره، ولم يكن هؤلاء الوشاه إلا الملا مصطفى البرزاني وجماعة الأكراد البارتيين فهم الوحيدين أصحاب المصلحه في تعكير تلك الأجواء لما لديهم من رغبه فى الهيمنه على كركوك وشعور بأن التركمان هم العقبه الكؤود فى طريق الإنفصال وتحقيق حلم الدوله الكرديه، ولهذا عملوا بدأب على تهميش التركمان وبذلوا الجهد كي لايبز لهم دور فى تلك الإحتفالات، وقد خطط الملا البرزاني وأتباعه أن تجرى المسيرات والمواكب تحت قيادة البارتيين والشيوعيين، غير أن التركمان أصروا على أن يكون لهم دورهم المتميز وألا ينضووا تحت أي رايه إنفصاليه أوشيوعيه، ولهذا نشط أغنياؤهم فى التبرع بالأموال ونصب الأقواس وشراء اللافتات ونحر الذبائح مبرزين هويتهم ومؤكدين على خصوصيتهم، وقد وجد الملائيون فى هذا الإصرار التركمانى على إبراز خصوصيتهم المتميزه والتأكيد على هويتهم القوميه والعمل منفردين بعيدا عنهم عصيانا يستحقون عنه الموت ومن ثم عزموا على قتل التركمان وسحلهم أثناء تجمعهم فى مسيرات عيد الثوره وخططوا لحصد أكبر عدد من الأرواح وإحداث أكبر قدر من الدمار فى الأموال والممتلكات وإثارة أكبر قدر من الرعب والفزع فى النفوس، وكانت قيادة الفرقه على علم تام بنوايا الزمره الملائيه ولهذا تدخلت فى رسم طريق المسيرات ومواكب الإحتفال ومارست الضغوط على البارتيين وحلفائهم الشيوعيين من أجل الإلتزام بهذا الخط المرسوم، ولكن هيهات لهؤلاء أن يلتزموا إلا بالخط المرسوم والمخطط المعلوم... خط القضاء على التركمان و مخطط تنفيذ المجزره الرهيبه.. ولنترك المؤرخ شاكر صابر الضابط وهو احد شهود المجزره يقص علينا جانبا مما جرى فى تلك الأيام حالكة السواد من تاريخ العراق.. يقول:
" إستيقظت كركوك فجر الرابع عشر من تموز الخالد على نسمات عذاب عطرها شذى الفجر المشرق، وانطلقت مع بواكير الصباح لتكتمل عدتها وزينتها النهائيه، لتحتفل مع الشعب - شعب ١٤ تموز - بأعز ذكرى وأقدس مناسبه، مع الشعور بالفرحه تغمر الأفئده المؤمنه المخلصه لهذا الحبيب، تجاوب التركمان فى كركوك مع إخوانهم بقية القوميات من أبناء وطننا الغالي، وأخذوا يسابقون الوقت إنتظارا للساعه المحدوده للإحتفال بالعيد الأغر للذكرى المجيده. وفى غمرة الإحتفالات الكبرى بعيد التحرير والإنعتاق، وفى غفله من مواكب الشعب المتدفقه حماسه ووطنيه وبهجه، وقعت النكبه، ولعلع الرصاص وأسقط فى أيدي المحتفلين فأريقت دماء الأبرياء جهارا، وإذا بالدائره تدور على المواطنين التركمان، وإذا برهط منهم يتساقطون كالشهب النيره، صرعى الظلم والغدر والفوضويه، ولم تقف المأساه عند هذا الحد - حد الشارع والسوق - بل تجاوزتها إلى البيوت والدور فروعت الأطفال والشيوخ والنساء وكان ماكان به النكبه، دماء وأشلاء وضحايا، فنهبت الدور والمخازن والمحلات العامه، واضطرب حبل الأمن وعمت الفوضى واستشرت الجريمه.. لماذا هذا الغدر؟ يغتال من بيننا إخواننا الكرماء الأعزاء؟ ولماذا هذا الإجرام ينصب فوق رؤوسنا دون سبب أو مبرر؟ لماذا يستحيل عيدنا مأتما؟ وفرحتنا نكبه وابتساماتنا دموعا وعويلا؟
حلت الذكرى الأولى للثوره، واستعد الشعب لإستقبالها واقيمت الأفراح والزينه فى كل مكان، وجاء دور التركمان فى الإحتفال بعيد الثوره الأولى، وقد أقاموا أقواس النصر فى مدنهم وقراهم وخاصة كركوك، حيث زاد عدد الأقواس على مائه ١٥٠ قوسا زينوها بالشعارات الوطنيه وانصرفوا يتهيئون للعيد عيد الشعب، عيد الحريه، عيد الإستقلال.
إلى هنا وكل شيىء على مايرام، والى هنا والتركمان آمنون مطمئنون لم يشغل بالهم شاغل، ولم يصرف تفكيرهم عن مباهج العيد شعور بشيىء من قلق أو خوف. ولكن الرياح جرت على غير ما تشتهي السفن.. وإذا النكبه تدهم التركمان فى كركوك وهم فى غمرة أفراح العيد، وإذا الجريمه تجتاح كركوك بالإعصار المدمر فتصيبها فى الصميم، وكان ماكان.
لماذا كل هذا ولمصلحة من دبرت هذه الجريمه؟ هل يستحق التركمان هذه المأساه تنصب على رؤوسنا كالصاعقه فتزهق الأرواح البريئه، وتدفن الأحياء وتسفك الدم الحرام على أرض العراق الطهور.
لم يكن إستعداد التركمان للإحتفال بعيد الثوره الأغر إلا إستجابه وجدانيه للمناسبه السعيده، ويبدو ان هذه الإستجابه بما إنطوت عليه من معاني الإخلاص والولاء للجمهوريه وصرفت تفكيرهم عن كل مالايتصل بخدمة الجمهوريه بسبب أو أسباب، فأبوا أن يسايروا أي تيار لايستهدف خدمة الجمهوريه، شأنهم فى ذلك شأن جميع المواطنين المخلصين في شتى أرجاء عراقنا الحبيب، أثارت حفيظة الموتورين الذين إستكثروا على الشعب وحدته فى ظل الجمهوريه الخالده فعمدوا إلى تفريق الصفوف بالشغب والدس على التركمان، وإثارة الشكوك فى إخلاصهم وتعلقهم بالجمهوريه وفنائهم فى سبيل دعمها والحفاظ على مكتسباتها التى هى فى الواقع من مكتسبات الشعب.
ولقد كان ثبات التركمان بوجه المناورات التى لعبت دورها فى كركوك سببا مباشرا لما حل بهم خلال تلك الفتنه اللئيمه الرعناء، فقد عز على مفرقي الصفوف أن لا ينصاع التركمان لأهوائهم وإغوائهم واتجهاتهم، واستكثروا عنادهم للفتنه، وإصرارهم على نبذ كل مالا يتفق معهم ومصلحة الجمهوريه. فكان ذلك الذنب الوحيد الذى من أجله وقعت الواقعه وأريقت خلالها الدماء.
وهكذا لخص المؤرخ شاكر صابر الضابط الأسباب التى دعت الحاقدين على التركمان لإرتكاب جريمتهم، فهم لايرغبون فى أن يعبر التركمان عن ولائهم للجمهوريه حتى يثيروا حولهم الأقاويل ويشككوا فى ولائهم للوطن ويسوقوا المبررات للتنكيل بهم وقتلهم والقضاء عليهم، أضف إلى ذلك أن التركمان كانوا هم القوميه الوحيده التي إنعقد إجماعها على عدم الإنخراط فى النشاطات الشيوعيه والوقوف بصلابه ضد العصابات الملائيه والأفكار الإنفصاليه وعارضوا مختلف الأفكار والأنشطه الهدامه االتى يسعى مروجوها لتقويض أسس الدوله وتشبثوا بالدفاع عن مدينة كركوك، ومن ثم رأت هذه العصابات ضرورة تنفيذ تلك المجزره بحقهم حيث قاموا خلالها بقتلهم بلا رحمه.. رجالا ونساء وأطفالا.. شيبة وشبابا، وكان فى حسبان الملا أن المذابح الجماعيه التى يتكاتف على تنفيذها الرفاق الحمر ودعاة الإنفصال هى اقرب الطرق لتحقيق الأهداف الإنفصاليه والمرامي العنصريه.. ولكن هيهات لشعب أصيل كالشعب التركماني أن يترك وطن الآباء والأجداد تحت أى ظرف من الظروف ومهما تعاظمت الأخطار وتكاثرت المآسي والأهوال..
فى الحلقه القادمه نستكمل بقية الشهادات والوثائق حول المجزره الرهيبه.... وللحديث بقيه، (وردت هذه الشهاده فى كتاب: موجز تاريخ التركمان فى العراق، الجزء الأول، المؤرخ العراقي شاكر صابر الضابط، مطبعة المعارف بغداد ١٩٦٠، الصحيفه من ١٥٨ إلى ١٦٠)