دور الملا البرزاني فى مجزرة كركوك
(شهادة الشهود والوثائق الرسميه العراقيه)
(الحلقة السادسة والعشرون)
راينا فى الحلقة السابقه كيف عزم التركمان على الخروج عن طوق العزله الذى حاول الملا البرزاني فرضه عليهم بمنعهم من التعبير عن مظاهر الفرح بالذكرى الأولى لقيام ثورة ١٤ تموز كى يبدو التركمان وكأنهم من معارضي الجمهوريه، وقد حرص التركمان على إقامة المسيرات والتظاهرات الخاصه بهم ليؤكدوا هويتهم وخصوصيتهم ومواقفهم الوطنيه تجاه الدوله ويبددوا الصوره التى سعى الملا لترسيخها فى أذهان حكومة بغداد عنهم، وكان من الواضح من كثرة عدد الأقواس التركمانيه وماتحمله من شعارات وطنيه والفرحه الباديه على وجوه التركمان وتعالى دقات الطبول والأغاني والأهازيج التركمانيه وتباري التركمان فى أداء الرقصات التى تعبر عن ثراثهم الثقافي وخروج الأطفال والنساء بأزيائهم التركمانيه التقليديه أن العيد الأول للثوره سيكون عيدا مصبوغا بصبغه تركمانيه خالصه وأن جهود الملا وأتباعه لتهميش وإقصاء التركمان ستذهب أدراج الرياح، وفى حين أغرق التركمان كركوك بأقواسهم الزاهية الألوان فإن الملا وأتباعه لم يقيموا سوى قوسا واحدا كالحا وكئيبا تعلوه صوره ضخمه أكثر كئابه لفلاديمير لينين، وقد وصل عدد الأقواس التى قام التركمان بنصبها لأكثر من مائه وثلاثين قوسا كبيرا مزدانه بالورود والرياحين والشعارات التى تمجد الوطن والثوره والزعيم، وامتلأت المقاهي التركمانيه عن آخرها بالمواطنين التركمان وقبل الموعد المحدد لسير مواكب الإحتفالات بساعات، وأخذت جموع التركمان فى الهتاف للثوره وللأخوه العربيه الكرديه التركمانيه، ولم يتبادر إلى ذهن التركمان أن إخوان الشر.. دعاة العنصريه والإنفصاليه وبالتعاون مع عبدة لينين وماركس سوف يقومون بعد لحظات بقتلهم وسحلهم فى الشوارع وتعليقهم على الأشجار وأعمدة الإناره رغم ورود بعض دلائل على شر وشيك الوقوع بالتركمان بدا من تعليقات بعض الصعاليك وعبارات السخريه والإستهزاء التى كانت تخرج من أفواه هؤلاء عندما كانوا يمرون على التركمان وهم منهمكين فى الإستعدادات لعيدهم العظيم، إلا أن أصحاب القلوب البيضاء والسرائر النقيه لم يتصوروا أبدا أن الخسه والغدر ستصل بهؤلاء لهذا الحد، وكانوا شديدى الثقه بأن فرحة العيد ستطغى على كل خلاف، وكانت لجنة الإحتفالات بالذكرى السنويه الأولى للثوره قد حددت الساعه السادسه من مساء ١٤ يوليو / تموز موعدا لإنطلاق المسيره، وبينما كانت المواكب تمر لاحظ التركمان المحتشدين في مقهى ١٤ تموز أن عددا من الصعاليك يحملون الحبال والخناجر والسكاكين ويلوحون بها، ولما لم يعيرونهم أدنى إهتمام أخذوا فى الهتاف: " ماكو مؤامره تصير والحبال موجوده " وقد إندهش التركمان المستغرقين فى فرحة العيد من طرح هذا الهتاف فى هذه المناسبه السعيده ولسان حالهم يتساءل: أين المؤامره؟ وما الداعي لذكر الحبال؟ غير أن عصبة الأشرار زاد نباحهم: " جبهه، جبهه وطنيه..... فلتسقط الطورانيه.. وعندما أخذت هذه الهتافات العنصريه فى التعالي بطريقه هستيريه واشتد التلويح بالحبال والسكاكين عندئذ أدرك التركمان أن شيئا ما سوف يحدث، ولم تمر لحظات إلا ودوت فى الهواء طلقه ناريه، وكانت هذه الطلقه بمثابة إشارة البدء لمذبحة كركوك الرهيبه ولنترك العقيد الركن إسماعيل حمودي الجنابي رئيس أركان الفرقه الثانيه فى كركوك زمن المجزره يقص لنا جانبا من مشاهداته لوقائع هذه المجزره.. يقول:" وبدأت المسيره تقودها المنظمات الحزبيه والنقابات والإتحادات البارتيه والشيوعيه المتحالفه معها، ولم يكن للسلطات المدنيه أى نفوذ، ووضعوا جماعات على جانبي الطريق الذي يمرون به، تحمل الحبال بإعتبارهم متفرجين إلا أنهم كانوا حزبيين منظمين من قبل الحزب الشيوعي والبارتي. وبعد مسيره قصيره أطلق المتظاهرون الحزبيون النار على بيوت التركمان ومتاجرهم ومخازنهم، وعمت الفوضى مدينة كركوك بسرعه، واشتعلت الحرائق فى جميع أنحاء كركوك. واتصلت الفرقه بشركة النفط للمساعده فى إرسال سيارات الحريق المتيسره عندها بكثره، ولكن قبل وصولها أحرقها المتظاهرون أو منعوها من اداء عملها. ومما زاد من هول المأساه هو إشتراك ضباط الصف والجنود الحزبيين مع المدنيين فى الهجوم على بيوت التركمان وقتل العوائل بكاملها، أى يمحون البيت بكامله، نساء، وأطفالا ورجالا. ومن أجل إرهاب مقر الفرقه سحلت جثث القتلى من التركمان إلى القرب من المقر وعلقوها بالحبال على الأشجار المحيطه بالمقر. إتصلت الفرقه بالمستشفى وطلبت إنزال الجثث ونقلها، ولما جاءت سيارات الإسعاف منعها الشيوعيون والبارتيون وحاولوا حرقها وظلت الجثث معلقه على الأشجار تحت حراسة البارتيين والشيوعيين ثلاثة أيام بلياليها فى ذلك الحر القائض (شهر تموز).
من المعلوم أن مقر الفرقه كان فى وسط المدينه، وأصبح تحت حراسة الشيوعيين والبارتيين. إتصل قائد الفرقه مستنجدا بعبد الكريم قاسم فوعده بإرسال لواء مشاه، وفعلا تم وصوله بالقطار ووضع جنوده في المحلات الحساسه وفي مقر شركة النفط وفي داخل المدينه وبعد هدوء العاصفه قليلا، أمر قائد الفرقه بسحب جميع قطعات كركوك إلى الثكنات وتم له ما أراد.
نظمت الفرقه قائمه بأسماء رؤوس الفتنه من البارتيين والشيوعيين وأرفقت معها صور الجثث المعلقه والمشوهه وصور البلدوزرات وهى تدفن الموتى بمجموعات، وتقريرا مفصلا عن كيفية وقوع المجزره، وعندئذ فقط صدق عبد الكريم قاسم بما حدث وطلب إرسالهم بقطار خاص ولخداعهم وتجنب مقاومتهم أخبرهم القائد أن الزعيم عبد الكريم يطلبهم للتشاور معهم عن كيفية حدوث هذه الأزمه. وما أن تحرك القطار بهم إلا وهدأت الفتنه فى المدينه التى أخذت تداوي جراحها. وبعد وصولهم بغداد ألقى عبد الكريم قاسم خطابه المشهور فى كنيسة مار يوسف التى هاجم فيه الشيوعيه.
وللإجابه على سؤالك، لماذا لم تتمكن الفرقه من السيطره على الوحدات؟ أقول: كان معظم الضباط وضباط الصف منتمين للحزبين البارتى والشيوعى ومؤيدين لخطة القضاء على التركمان تمهيدا لسيطرة البارتيين على كركوك. وكان مقر الفرقه مهددا من الحزبيين بحيث كان قائد الفرقه العميد محمود عبد الرازق يذهب ليبات ليله عند أحد أصدقائه المدنيين خارج مدينة كركوك خوفا من هجوم الحزبيين على مقر الفرقه. لقد مر سكان كركوك غير الشيوعيين والبارتيين بمحنه ومأساه، وكان كل واحد يتوقع الهجوم على داره، وإبادة عائلته. إنها مأساه إنسانيه. "
حقا إنها لمأساة إنسانيه أن يتحول أتباع الملا إلى وحوش آدميه يعيثون فى تركمان كركوك قتلا وسحلا دون أدنى رحمه أو شفقه، ودون تمييز مابين طفل وشاب ورجل وامرأه، وبلغت المأساه ذروتها بأن عجز قائد الفرقه عن حماية نفسه من هؤلاء الوحوش الذين لايعرفون معانى الرحمه ولا الإنسانيه، فكان يذهب للمبيت كل ليله عند صديق مختلف، ولم يكن قائد الفرقه فقط هو المهدد من قبل هؤلاء، بل وأيضا كل ضابط لايقبل أن يبيع نفسه لشياطين الملا ويسير تبعا لهواهم ويتحول إلى قاتل محترف، يتاجر بدينه ووطنه ومبادئه، ولذلك كان العقيد الركن إسماعيل الجنابي صريحا فى الإجابه على السؤال الموجه له... وما هو موقفك وموقف الضباط الآخرين عندما قرر قائد الفرقه المبيت عند أحد أصدقائه المدنيين؟
أجاب: " أقولها للحق بأن ليس قائد الفرقه وحده قد بات فى دار احد اصدقائه وإنما أنا أيضا كنت قد طلبت أحد جنودى من فوج هندسة الفرقه الثانيه فى الموصل والذى كنت آمره قبل نقلي إلى كركوك بأن يحضر إلى كركوك لحراستي فى المقر وهو سائق سيارتى سابقا. لقد أشار على القائد محمود عبد الرازق أن أترك المقر أنا أيضا لأننا جميعا كنا فى خطر القتل ولذلك أخذت السائق بالسياره اللاندروفر بعد الغروب وخرجنا على طريق كركوك الموصل وعلى بعد أكثر من عشر كيلو مترات لأن (البارتيين والشيوعيين) كانوا يرومون قتلنا بناء على المعلومات التى وصلتنا، ولم نعد إلى مقر الفرقه إلا فى اليوم الثاني وقت الدوام. أما باقي الضباط فعلى ما أعتقد فإنهم فعلوا نفس الشيىء ولم يبق في مقر الفرقه إلاضباط الصف والجنود من الشيوعيين والبارتيين وبعد ذلك بدأت الفرقه بنقلهم إلى وحدات بعيده عن كركوك وعن مقر الفرقه بعد المذبحه وبناء على موافقة عبد الكريم قاسم وعندئذ أصبح بالإمكان السيطره على الوحدات وأخذت الأمور تعود إلى أوضاعها الطبيعيه بصوره تدريجيه. "
وإذا كان جميع ضباط الفرقه من غير البارتيين أو الشيوعيين كانوا قد فروا من مقرها فى مدينة كركوك ولم يأمنوا على أنفسهم أن يبيتوا فى مكان واحد مع الذئاب الملائيه التى جرى غسل أدمغتها بأفكار ومبادىء الملا البرزاني العنصريه، وخافوا أن تنهش أجسادهم تلك الذئاب التى لاتعرف سوى لغة القتل والسحل والحرق والتدمير، فلنا أن نتصور قدر معاناة تركمان كركوك العزل الذين وجدوا أنفسهم فى وضع أعزل أمام هؤلاء الوحوش الذين لايعرفون معنى للرحمه ولايتمتعون بذره من إنسانيه..
لقد كانت وبحق مأساه إنسانيه أعادت لذاكرتنا الصوره التى رسمت لبرابرة القرون الأولى..
(وردت هذه الشهاده فى: موسوعة ١٤ تموز - ثورة الشواف (٣) - العميد المتقاعد خليل إبراهيم حسين - دار الحريه للطباعه - بغداد ١٩٨٨ م رقم الصحيفه٢.٧، ٢.٨، ٢.٩، ٢١.، ٢١١)
(الحلقة السابعة والعشرون)
إستعرضنا فى الحلقات السابقه مدى معاناة الشعب التركماني مع العناصر الملائيه التى سعت لمحو وإزالة وجوده من على أرض العراق بغية تحقيق تطلعاتها الإنفصاليه وأمانيها التوسعيه، وكيف أن هذه العناصر إستخدمت كافة الوسائل واتبعت كافة الطرق فى حربها مع هذا الشعب المسالم الذى بفقده للدعم والإسناد العربي بإبعاد ناظم الطبقجلي وكافة الضباط التركمان والعرب عن كركوك أصبح يواجه مصيره بمفرده، وكان الملا وجماعته لديهم العزم والتصميم على مواجهة شعب أعزل ومسالم وإبادته والقضاء على وجوده، وكان الشعب التركماني الذي عاش تاريخه فى إخوه وسلام مع الأقوام الأخرى مندهشا لدرجة الصدمه من تصرفات هؤلاء المحسوبين ظلما على شعب نبيل كالشعب الكردي، وراح يبحث عن ذريعه أوسبب يدفعه للصبرعلى هؤلاء الذين عادوا من روسيا مشبعين بروح الكراهيه لجموع الشعب العراقي عربا وأكرادا وتركمانا وآشوريين.. وكان لسان حاله يتساءل:.... أوليس هؤلاء هم الذين قتلوا إخواننا العرب وسحلوهم فى شوارع الموصل الأبيه؟.. أوليسوا هم قتلة إخواننا الأكراد؟ أولم يحارب الملا البرزاني القبائل الكرديه التى سعى لفرض زعامته عليها بالقوه؟ أولم يحتل كاني رش والقرى المجاوره لها وأجبر أهلها الأكراد على الفرار إلى إيران وقام بنهبها ثم احرقها بما بقى فيها من المرضى والعجزه الذين لم يقووا على الفرار؟.. لابد إذا من التحلي بالصبر..
وتذرع الشعب التركماني الكريم بالصبر على هذا البلاء الذي حل به وببلاده، وكانوا يسمعون بإذنيهم أرازل شذاذ الآفاق يسبونهم ويشتمونهم " تركماني.. طوراني.. متآمر.. خائن " ولا يلتفتون إليهم، ولم تكن صفات الصبر ورباطة الجأش بغريبه على تركمان العراق بل هي صفات متأصله فى أعماق هذا الشعب العظيم الذي عاش تاريخه فى صبر وجلد ومرابطه للدفاع عن أرض وشعب العراق العظيم، ولنقرأ جانبا مما كتبه المؤرخ العراقي شاكر صابر الضابط عن خصال هذا الشعب العظيم:
".. وقد كان للتركمان شأن فى غير الحروب أيضا كالصناعه والزراعه والتجاره والعلوم، فقد اثبتوا جداره وكفايه وعاشوا فى وطنهم العراق أحرارا مخلصين سواء أكانوا محاربين أم علماء أم حكاما، ومن صفاتهم البارزه إيمانهم المطلق بالله تبارك وتعالى وإعتزازهم بعقيدتهم الإسلاميه التي كانت تملأ قلوبهم إيمانا. وقد عرفوا بين إخوانهم المواطنين بالشجاعه وضبط النفس والصبر على المكروه والإخلاص للواجب وحب الإستقرار والحياه الهادئه، والتفكير السليم فى تقدير الموقف ورفعة الخلق والتمسك بالحق والدفاع عنه، ولو حملهم ذلك كثيرا من التضحيات.
ومن صفاتهم أيضا، أنهم بعد القتال المميت يصافحون المغلوبين ويضمدون جرحاهم ويواسونهم على ماأصابهم تواضعا فى الحكم والنصر. وإنك لتقرأ على محياهم سيماء النبل والشهامه، وفلسفتهم فى الحياه " رأس الحكمه مخافة الله ". فاتخذ " جان جاك روسو " الفيلسوف المعروف الأتراك نموذجا يحتذى بهم عندما خاطب الشعب الفرنسي ودعاه إلى التمسك بالأخلاق: " لماذا لايكون الأتراك بوجه عام متصفين بالإنسانيه فى حين لم نتصف بها نحن؟ ويكونون اكثر إكراما للضيف منا؟.. لأنهم يرون عظمة الأفراد وسعادتهم زائله كالظل، ويميلون إلى معاونة المصابين بالكوارث لأنهم يفكرون دائما بإحتمال إصابتهم بنفس العواقب غدا "
... هؤلاء هم التركمان.. وهذه هى فلسفتهم ومنهجهم فى الحياه..
بيد أنه ومع الأسف الشديد تمكنت زمره عنصريه حاقده وفى غفله من الزمن من الإتجاه بقله مخدوعه ومغرر بها من الشعب الكردي النبيل للصدام معهم والتنكيل بهم وقتلهم وسحلهم وتعليق الفتيات التركمانيات العفيفات الطاهرات عاريات على أعمدة الكهرباء بطريقه همجيه لم تشهد لها الإنسانيه مثيلا، وكانت تلك التصرفات الهمجيه التي إرتكبها وحوش البرية هؤلاء بمثابة صدمه هزت المجتمع التركماني المتصف بصفات الإنسانيه الرفيعه وأصابته بجروح عميقه وغائره لايزال يعاني منها حتى يومنا هذا، وراح أفراده يتسائلون عن الداعي لكل ذلك؟ وما هو الجرم الذى إرتكبه التركمان ليفعل بهم خونة الأوطان وعصابة الإنفصاليين مافعلوا؟
دعونا نقرأ شهادة ناظم القوريات والرباعيات المرحوم جرجيس علي باغجه جي ورؤيته لما جرى وردود فعل المواطنين التركمان على الأحداث.. يقول:
".. أرى أن لنا مستقبلا شاقا لأننا نعيش مع أناس لايفهموننا بالرغم من إحترامنا لهم، أنتم ياولدي لم تذق مرارة العيش والحياه مع هؤلاء مثل ما ذاق جيلنا، أنتم صغار بالنسبه لنا لاتذكرون مجزرة كركوك عام ١٩٥٩ حيث ما يسمى رجال الجبهه الوطنيه وبعض العناصر المأجوره وهم يحملون الحبال والسلاسل بيد وبيد أخرى لافتات كتبت عليها (يسقط التركمان) ولكن التركمان تقابلهم بالهتافات وبالأخوه والوحده الوطنيه، ومن ثم هاجمت تلك العناصر مركز شرطة إمام قاسم واستولوا على الأسلحه الموجوده هناك وبالتعاون مع بعض أفراد الإنضباط العسكري وبتوجيه من آمرهم آنذاك تم تجهيز المقاومه الشعبيه بالسلاح واخذ هؤلاء يسطون على المحلات التجاريه والحوانيت والمنازل العائده للتركمان فقط ونهبوا مافيها من الأموال، واستمرت حالات السطو والنهب والحرق إلى ساعات متأخره من الليل فى معظم محلات كركوك، وفى صبيحة اليوم التالي أى فى ١٥ تموز أخذ المجرمون يهاجمون بيوت معينه ويخرجون أهلها ويسحلون فى الشوارع واستمرت الحاله مدة ثلاثة أيام لحين وصول قوات من العاصمه بغداد، وقد أستشهد حوالي أكثر من ٢٥ مواطن أذكر منهم الشهيد عطا خيرالله، صلاح الدين آوجي، شاكر زينل، قاسم نفطجي، فتح الله يونس، عبدالله احمد بياتلي وغيرهم لاأتذكر أسمائهم، وكاد أن يصل الأمر إلى مدينة إربيل ولكن التركمان تصرفوا بعقلانيه وبحذر شديد رغم أن جماعه من الفوضويين أحرقوا الأقواس المزينه والعائده للتركمان فى إربيل، ولكن رحم الله رجالنا العظماء الذين صبروا وتحملوا وتصرفوا دون أن تحدث الفتنه، وفشلت مؤامرة الحاقدين على شعبنا. "
.. وهكذا أخذ الشعب التركماني الخلوق المعطاء يقارن بين سلوكه وسلوك الآخرين، بين وفائه وغدر الآخرين، بين نبله وحقارة الآخرين، وإن كان أبدا لم يخلط بين قله حاقده وعموم شعب، بل ميز بين الشعب الكردى النبيل وزمره ملائيه بارتيه حاقده سقطت فى مستنقع العماله وأعمتها العنصريه البغيضه فتنكبت الطريق..
فى الحلقه القادمه نستكمل عرض الوثائق والشهادات حول دور الملا البرزاني فى مجزرة كركوك
(وردت شهادة المؤرخ العراقي شاكر صابر الضابط فى كتاب موجز تاريخ التركمان في العراق، الجزء الأول، مطبعة المعارف بغداد ١٩٦. - ووردت شهادة المرحوم جرجيس باغجه جي فى معرض حديث أجراه معه السيد برهان يرالي عام ١٩٧١ ونشر فى جريدة صوت التركمان، السنه الثانيه، عدد ١٥، آب ٢..٣)
(الحلقة الثامنة والعشرون)
إستعرضنا فى الحلقه السابقه شهادة ناظم القوريات والرباعيات المرحوم جرجيس علي باغجه جي والتي قرر فيها بأن مشكلة الشعب التركماني أنه يعيش في وسط قومي لايبدي له تفهما، وانه رغم الطبيعه المسالمه لهذا الشعب وإبدائه لحسن النوايا فإن ذلك لم يمنع الآخرين من الإعتداء عليه وإرتكاب المجازر في حقه، وضرب مثلا بماحدث فى مجزرة كركوك عام ١٩٥٩ عندما كان البارتيون والشيوعيون يهتفون " يسقط التركمان " كان التركمان يقابلون هذا الهتاف بهتافات تحض على الوحده الوطنيه وتدعو للإخوه العربيه الكرديه التركمانيه، وانتهى إلى أن ماحدث في مجزرة كركوك كان عملا مدبرا ومقصودا فلم يقتل سوى التركمان وهم فقط الذين أحرقت دورهم ومتاجرهم، وأن قتل قادة ووجهاء المجتمع التركماني جرى بتخطيط مسبق ووفق قوائم أعدها القتله وإشارات وضعوها على بيوت الضحايا، وأنه كان من المفترض أن تمتد المجازر إلى مناطق التركمان الأخرى كإربيل التى قامت العناصر البارتيه والشيوعيه فيها أيضا بحرق الأقواس والرايات التى نصبها التركمان إحتفالا بعيد الثوره، ولكن رجال التركمان العظماء تصرفوا بحكمه وصبروا وتحملوا وأفشلوا المؤامره.
وفى حلقة اليوم نستعرض شهادة المحامي جرجيس فتح الله أحد قياديي الحزب الشيوعي العراقي الحليف السياسي لحزب البارتي الذي كان يترأسه الملا مصطفى البرزاني... وكان الحزب الشيوعي العراقي يتخذ موقفا عدائيا ثابتا تجاه التركمان لعدم تقبل المجتمع التركماني للأفكار الشيوعيه، فالتركمان مسلمون محافظون ينظرون للأفكار الشيوعيه على أنها أفكار هدامه تؤدى إلى تفكك الأسره وتتعارض مع القيم الإسلاميه، وهم أيضا برجوازيون لاوجود للفقراء فى مجتمعهم ومن ثم لم تجد هذه الأفكار مرتعا خصبا لها داخل هذا المجتمع، فضلا عن أن التركمان كانوا لايبدون الإرتياح تجاه الإتحاد السوفيتى الذى فرض ستارا حديديا على أشقائهم فى القوميه (أتراك آسيا الوسطى) وسلبهم أبسط حقوقهم فى الحريه والإستقلال، ولهذه الأسباب إبتعد التركمان عن الأفكار الشيوعيه، وكان ذلك كافيا لأن ينحازالشيوعيون إلى جانب الأكراد ويساندونهم بقوه فى محاولاتهم السيطره على مدينة كركوك، وأن يشاركوا الأكراد البارتيين فى تنفيذ المجزره الرهيبه.. وعن وقائع المجزره يقول القيادي الشيوعي جرجيس فتح الله المحامي مايلي: " لم يستتب الهدوء فى المدينه تماما حتى بعد وصول النجدات العسكريه فى السابع عشر من الشهر ونزع السلاح عن جنود اللواء الرابع (الأكراد)، إذ كان يسمع صدى طلقات متباعده فى أنحاء المدينه. وفرض منع التجول ونزلت قوات للمحافظه على الأمن فى القلعه. وكان الرعب بسكانها قد وصل بهم إلى الحد الذي سلبهم آخر مالديهم من الإتزان والهدوء على حد قول أحد العرفاء الذين كلفوا بالحمايه فى أحد المنازل، كانت كل طرقه على الباب أو كل حركه غير إعتياديه تطلق عويلا وصراخا من النسوه. لاشك أن كثيرا منهم شاهد كما شاهد روايتي هذا، كيف أن القتله قبضوا على أحد الأشخاص فوضعوا حبلا برجليه وشدوهما شدا محكما ثم ربطوا نهاية الحبل بسياره وانطلقوا بسيارتهم ورأسه يرتطم بالرصيف يمينا وشمالا حتى قضى نحبه. عاشت المدينه خلال الإسبوعين التاليين وكأنها فى حصار. لايمكن تصور حالة الرعب التى إستولت على التركمان خلال الأيام الثلاثه العصيبه إلا بإيراد بعض الوقائع. فمثلا قفزت أثمان الزي القومي الكردي إلى ما يقارب عشرة أضعافها لتهافت الناس على شرائها إعتقادا منهم أن إرتدائها سيخرجهم من دائرة الشك ويتيح لهم التخلص من رجال المقاومه التى مسكت بمدخل المدينه. ولما أدرك هؤلاء الحيله جعلوا يشكون فى قومية من ينطق بكلمة (بلاو - التمن فى اللغتين الكرديه والتركمانيه) فيها يمكن تمييز الكردي عن التركماني ولكل طريقته الصوتيه في لفظها).
وهكذا.. شهد شاهد من أهلها، فصاحب الشهاده هو المحامي جرجيس فتح الله والذي لايمكن القول بإنحيازه للتركمان، بل ولا يمكن القول بحياده تجاه التركمان إذ أنه أحد قيادي الحزب الشيوعي العراقي الذي شارك حزب الملا البرزاني فى تنفيذ المجزرة، وقد شهد الرجل على أن المستهدف من المجزره هم التركمان فقط والوجود التركماني فى العراق، وأن الأكراد كانوا في حصانه من القتل والسحل لأن القتله كانوا فريقا منهم، وأن المواطنين التركمان كي يدرأوا عن أنفسهم خطر الموت أقبلوا على شراء الملابس الكرديه التي تضاعف سعرها إلى مايقرب من عشرة أضعاف ثمنها بسبب شدة الإقبال عليها، ونظرا للجوء المواطنين التركمان للحيله من أجل النجاه بأنفسهم بادعاء الإنتماء القومي الكردي وتحدثهم باللغه الكرديه التى تعلموها بحكم الإختلاط مع العائلات الكرديه والتزيي بالأزياء الكرديه، فإن القتله البارتيين كانوا يقومون بعمل إختبارات لغويه للمشتبه بهم مستخدمين كلمة (بلاو) والتي يمكن من خلالها تمييز التركماني عن الكردي، كما أشار في شهادته إلى قيام الحكومه بنزع أسلحة اللواء الرابع والذى كان معظم جنوده من الأكراد ممن جرى تسميم عقولهم بأفكار الملا البرزاني العنصريه فتحولوا إلى وحوش كاسره ووجهوا أسلحتهم إلى صدور التركمان العزل وشاركوا بفاعليه فى احداث المجزره.
وفى الحلقه المقبله نستكمل بقية الشهادات حول مجزرة كركوك الرهيبه