الاكراد ووعي دروس التاريخ،
هل سيرفع الاكراد السلاح ضد الامريكان؟
ربما يعتقد البعض ان عنوان المقال سؤال أفتراضي أو استفزازي وغير منطقي وخارج سياق الطرح في الوقت الحاضر، لأن الطافي على السطح يظهر أن الاكراد والامريكان في شهر العسل وتحالف وثيق لا أنفصام فيه. فأذا صح ما نقرأ وما نسمع وما نعرف عن الاكراد وتاريخهم، ومن خلال أستقراء اجواء التوتر بين الامريكان وبين الاكراد من جهة، وبين الشيعة والاكراد من جهة أخرى، وخاصة بينهما وبين السيد مسعود البارزاني وحزبه. لاحظنا أن غيوم الاحساس بالخذلان والتخلي عنهم وعن طموحاتهم مرة أخرى، تتلبد وتكفهر فوق سماء العراق وكردستانه. مما يدفعنا الى القول أن وقت حمل البارزاني وحزبه السلاح و صعودهم الى قمم الجبال بات مسالة وقت ليس ألا.
يتفق المراقبون والمتابعون للقضية الكردية على أن الهدف الاستراتيجي لمعظم الاحزاب السياسية والنخب القومية الكردية ، هو الانفصال عن العراق وأنشاء دولة كردية في شماله، وجعلها نقطة الانطلاق لتأسيس دولة كردستان الكبرى. وماعدا هذا الهدف فأنهم يختلفون على كل شيء وفي أي شيء، أما التصريحات المطمئنة والمناورات السياسية المطروحة الان على الساحة العراقية من جهة الفعاليات السياسية الكردية بشأن الفيدرالية أو الاتحاد الاختياري أو الفيدرالية على الاساس القومـــي (العربي- الكردي) ضمن عراق موحد، فهو من قبيل ذر الرماد في العيون وتكتيكات سياسية وصولا لتحقيق الهدف الاستراتيجي الابعد وهو أنشاء الدولة الكردية المستقلة.
فما هي أحتمالات نجاح الاكراد في تحقيق هدفهم الذي ناضلو من أجله لأكثر من سبعة عقود؟ وهل أن غزو العراق وأحتلاله وهشاشة الاحزاب السياسية العراقية وخوائها، هيأة للاكراد الفرصة التاريخية التي لابد من أنتزاعها؟. وهل العراق على شفير هاوية تقسيمه الى كردستان وتركمانستان وعربستان واشورستان. . . الخ من الستانات؟
قبل الدخول في التفاصل ، لابد من المرور على بعض المحطات المهمة للقضية الكردية والوقوف عند بعض الحقائق التاريخية، التي ربما غير خافية على المعنيين والمتابعين للشأن العراقي، لنستشرف المستقبل على ضوئه.
وردت في معاهدة سيفر (THE TREATY OF SEVERS) لعام ۱٩۲۰ ، اشارة الى أستقلال منطقة أناتوليا (والتي كانت تشمل ولاية الموصل)، التي تسكنها الاغلبية الكردية في تركيا وأنشاء دولة مستقلة عليها،. بيد أن هذه المعاهدة لم تصٌدق من قبل الموقعين عليها مطلقا. و في العام ۱٩۲٣ حلت معاهدة لـوزان (THE TREATY OF LAUSANNE) ، محل معاهدة سيفر، بعد توقيعها ومصادقة الاطراف الموقعة عليها وبذلك أصبحت معاهدة سيفر ملغيا بحكم القانون ولم تعد وثيقة قانونية يعتد بها لأثبات أي حق قانوني.
لم يحصل الاكراد بموجب معاهدة لوزان، وعدا بالاستقلال أو الحكم الذاتي، وانما قسمت المعاهدة المنطقة الكردية (كردستان الكبرى) بين تركيا وأيران والعراق وسوريا والاتحـاد السوفييتي (السابق) ووجدت الاغليبة الكردية نفسها أما ضمن الدولة التركية الحديثة أو في العراق تحت الانتداب البريطاني. الى ذلك أرسلت عصبة الامم وفدا الى ولاية الموصل عام ۱٩۲٣ لأستطلاع أراء الاكراد بشأن مستقبلهم، ذكر الوفد في تقريره أن الاكراد يرغبون في تأسيس دولة مستقلة لهم في شمال العراق. وفي ۲٤ ديسمبر، كانون الثاني ۱٩۲٤ أصدر المندوب السامي البريطاني في العراق بيانا جاء فيه: (نؤيد حقوق الاكراد الذين يعيشون ضمن حدود العراق، في أنشاء حكومة كردية ضمن هذا الحدود). ونصه باللغة الانكليزية:
(RECONIZING THE RIGHT OF THE KURDS LIVING WITHIN THE FRONTIERS OF IRAQ TO ESTABLISH A KURDISH GOVERNMENT INSIDE THESE FRONTIERS.)
هذا البيان كسائر البيانات والوعود السياسية الانكليزية الملتوية، يحمل في طياتة تفاسير عدة. هل كان المقصود هو منح حكما ذاتيا لاكراد العراق أم وعدا لأقامة دولة كردية على المدى البعيد على جزء من الاراضي العراقية؟. على أية حال أعتبر الاكراد هذا البيان شبيها لوعد بلفور. وهكذا بقيت القضية الكردية منذ استقلال العراق عام ۱٩٣۲، معلقا من دون حل، بل تحولت الى سكينة حادة في خاصرة الحكومات العراقية المتعاقبة ، من العهد الملكي والى عهد صدام حسين، و باتت قنبلة العراق الموقوتة ولعبة بيد القوى الاجنبية، تستخدمها أو تفجرها وقتما تشاء وكيفما تشاء، وحالما تستنفذ هذه القوى أغراضها تدير لهم ظهرها و تتخلى عنهم وتتركهم يواجهون العاصفة وحدهم.
من المعروف أن الاكراد أكبر تجمع عرقي في العالم من دون دولة. يقدر عدد نفوسهم بحــدود (۲٥) مليون نسمة موزعين بين تركيا والعراق وأيران وسوريا،و يقطنون على أرض مساحتــها (۲٣۰۰۰۰) كيلومتر مربع وتعادل مساحة المانيا وبريطانيا معا. أما مساحة كردستان العراق، وفقا لأتفاقية ۱۱ أذار ۱٩٧۰تقدر بـ (٨٣۰۰۰) كيلومتر مربع، أي بحجم جمهورية النمسا، ويطالبون الان بضم، مساحة حوالي (٤٥۰۰۰) كيلومتر مربع من أراضي محافظة كركوك ذات الاغلبية التركمانية وأجزاء من محافظتي ديالى والموصل الى كردستان. أما عدد نفوسهم في منطقة الحكم الذاتي (محافظات السليمانية وأربيل ودهوك)، حسب تقديرات الدوائر الغـــربية هو (٧و٣) مليون نسمة، بالاضافة الى(۱-۲) مليون نسمة موزعين في جميع أنحاء العراق وخاصة في بغداد حيث يقيم بحدود (۲٥۰) ألف كردي. أما الاحزاب الكردية فتقدر عدد نفوس الاكراد في العراق بـ (٥-٥,٥) مليون نسمة.
في بداية العام ۱٩٤٥ أعلن أكراد أيران، عن أنشاء جمهورية ماهاباد الكردية التي أستمرت لغاية شهر ديسمبر، كانون الثاني من العام نفسه، وأصدرت عملة نقدية وطابع بريدي وكان والد السيد مسعود البارزاني، المرحوم الملا مصطفى وزيرا للدفاع فيها ،و لم تكمل الجمهورية عامها الاول. وفي أب ۱٩٤٥ أعلن أكراد العراق عن تأسيس (الحزب الديمقراطي الكردي) ، وفي العام ۱٩٥٣ غير الحزب أسمه الى (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، ليدشن نفسه كأول حزب قومي للاكراد وناطقا بأسمهم و معبرا عن طموحهم في تحقيـــــق (كردستان الكبرى). التي تشمل وفقا للخارطة التي أعتمدها الحزب، شمال العراق وجنوب شرق تركيا وشمال غرب أيران وجزءا صغيرا من سوريا. وبدأ الحزب فعلا في النضال من أجل تحقيق الهدف المنشود أنطلاقا من العراق، منتهجا سياسية خذ وطالب، الى أن حصل الاكراد على الحكم الذاتي بموجب أتفاقية ۱۱ أذار، مارس ۱٩٧۰.
نفذ حكومة العراق السابقة، ٩۰٪ من الاتفاقية المذكورة، وأما ۱۰٪ المتبقية فعلقت بسبب مدينة كركوك وتشكيل فرقة عسكرية من قوات البيشمركة ضمن تشكيلات الجيش العراقي على أن يكون مقرها في منطقة الحكم الذاتي. . أضحت هذه الفقرة مدارالخلاف بين أصرارين، أصرار صدام حسين على عدم أعتبارمحافظة كركوك ضمن الاقليم وبين أصرار الزعماء الاكراد بضرورة الحاقها بكردستان العراق ضمن اتفاقية ۱۱ أذار، مارس ۱٩٧۰. كان أصرار صدام حسين يستند على أرضية قوية حيث طلب الرجوع الى أحصائية التعداد السكاني لعام ۱٩٥٧ لتقرير ما اذا كانت كركوك مدينة كردية أم لا، لأن أحصائية العام المذكور تثبت أن الاكراد في كركوك، الاقلية القومية الثانية بعد التركمان ويليهما العرب ثم المسيحيون (الاثور والكلدان). ولكن الاكراد أصروا على أعتماد التعداد السكاني لعام ۱٩٥٧ كأساس. وسبب رفض صدام حسين أعتماد احصائية التعداد السكاني لعام ۱٩٥٧ هو لنزوح أعداد هائلة من الاكراد الى المدينة بعد انقلاب عام ۱٩٥٨. فهذا النزوح قلبت التوازن السكاني لصالح الاكراد. عمد الرئيس السابق بعد ذلك الى تهجير الاكراد الوافدين الى كركوك بعد عام ۱٩٥٨ الى المناطق التي نزحوا منها والمئات من العوائل التركمانية الى جنوب العراق، و أستقدم بدلا عنهم عشرات الالاف من العوائل العربية الشيعية من جنوب العراق وأستوطنهم في مركز مدينة كركوك وضواحيها وأنقلب التوازن السكاني فيها لصالح العرب. وهكذا بقيت مدينة كركوك الشغل الشاغل لجميع الاحزاب السياسية الكردية وهدفا استراتيجيا لمسيرتهم النضالية، لأيمان النخب القومية الكردية بأن من أبرز مقومات أنشاء دولتهم هو ضم هذه المحافظة اليها، لانها الشريان الاقتصادي الحيوي لها لأحتوائها على أكثر من ٥۰٪ من أحتياطي النفط العراقي.
في أبريل، نيسان۱٩٩۱ حضر مسعود البرزاني وجلال الطالباني الى بغداد لمقابلة الرئيس العراقي السابق صدام حسين لأجراء المفاوضات من أجل أعادة الحياة الى أتفاقية الحكم الذاتي وتعديل بعض بنودها. أتفق الجانبان على صيغة جديدة للحكم الذاتي، منحت الاكراد بموجبها مزيدا من السلطات وأجراء أنتخابات تشريعية وتنفيذية حرة في منطقة الحكم الذاتي، دون تدخل السلطة المركزية. كما اتفق الجانبان على حل مسألة تشكيل فرقة عسكرية من قوات البيشمركة ضمن تشكيلات القوات المسلحة العراقية، أما مسألة كركوك فأجلت لحين أجراء أحصائية جديدة، لتقرير مصيرها، على شرط أعتماد أحصائية عام ۱٩٥٧ كأساس(أي استبعاد العوائل النازحة اليها بعد عام ۱٩٥٨ سواء كانت كردية أم عربية).
لدى توقيع الاتفاق الجديد، طلب السيدين مسعود البارزاني وجلال الطالباني أعطائهما مهلة لعرضه على قيادات حزبهما قبل التوقيع عليه، فعلق صدام حسين قائلا: كاكا مسعود أنك تريد عرضه على الامريكان وأستحصال موافقتهم، وأنني أؤكد لكما من الان أنهم لايوافقون عليه فلا تتعب نفسك، وعندما تغادر بغداد سيمنعونك من العودة اليها. وبعد مرور حوالي ثلاثة أشهر أرسل السيد البارزاني مبعوثا الى بغداد ليعلم صدام حسين، بالصراحة الكردية المعهودة، أن الامريكان لايوافقون على توقيعهم على الاتفاق! ! !
بعد حرب الخليج الاولى عام ۱٩٩۱ وأنسحاب السلطة المركزية من منطقة الحكم الذاتي، وجد الاكراد أنفسهم أمام فرصة تاريخية فريدة، ليثبتوا للعالم بانهم قادرون على حكم أنفسهم. قلنا في بداية المقال بأن الاكراد يختلفون فيما بينهم على كل شيء، الا في أقامة الدولة الكردية. دب الخلاف والاختلاف فيما بين الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني. ونشب بينهما قتالا داميا راح ضحيتها المئات من شباب الاكراد، بالرغم من تدخل الامريكان للحيلولة دون وقوعه وأصلاح ذات البين، ولكن من دون جدوى. كاد جلال الطالباني أن يدحر قوات البارزاني و يحتل مدينة أربيل عاصمة منطقة الحكم الذاتي عام ۱٩٩٥ لو لا أستنجاد الاخير بصدام حسين الذي هب الى مساعدته وطرد قوات الطالباني الى معقله في السليمانية. السبب الذي أدى الى أنفجار الاقتتال الكردي-الكردي كان تافها، وهو رفض الحزب الديمقراطي الكردستاني تقسيم عوائد مرور النفط العراقي المهرب الى تركيا وعوائد رسوم البضائع الواردة منها، مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والتي كانت بحدود (٨۰) مليون دولار في السنة. فكيف سيكون التناحر والاقتتال والذبح عندما يسيطر الطالباني وحزبه كليا على كركوك، منجم الذهب الاسود؟! ! ، ألله أعلم.
على أية حال أستطاع الاكراد بعد عام ۱٩٩۱ في أقامة بعض المؤسسات المدنية، بعد جهد جهيد، على أساس المناصفة بين الحزبين الكبيرين، وتعتبر تجربة التسعينات بحق منعطفا تاريخيا مهما في حياة الشعب الكردي. والمكسب الاهم الذي أنتزعوه من المعارضة العراقية السابقة خلال تلك الفترة، هو حق النقض (الفيتو) في الشأن العراقي. ويستخدمونه الان بفعالية وأقتدار بعد سقوط النظام السابق وأحتلال العراق، وكذلك أقرارأجتماع صلاح الدين الشهير، الذي شارك فيه المؤتمر الوطني العراقي والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية والحزبين الكرديين الكبيرين وبعض الاطراف الكردية، على أن يكون العراق جمهورية فيدرالية بعد سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين. .
الامريكان عزفوا على لحن الفيدرالية في بداية غزوهم وأحتلالهم العراق، ولكن النغمة تغيرت بعد تعيين أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، فالذين وافقوا على صيغة الفيدرالية ونعني بهم المؤتمر الوطني العراقي والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية بدؤا يطرحون صيغة جديدة وهي فيدرالية المحافظات، وبالمقابل طرح الاكراد صيغة (الاتحاد الاختياري) بين القوميتين العربية والكردية. وتوالت تأكيدات زعمائهم وأصرارهم على الفيدرالية ورفض أية صيغة أقل منذ ذلك، مما حدى بالسيد مسعود البارزاني عضو مجلس الحكم الانتقالي الى مقاطعة أجتماعات المجلس لمدة أكثر من شهرين وعاد الى بغداد نتيجة وساطات عدة. وفي الاونة الاخيرة كتب مقالا حزينا، أشار اليه الكاتب الكردي المعروف نوري المرادي في مقاله (فدرالية كردستان حكم بالموت على الاكراد) تظلم البارزاني فيه أن حلفاءه الامريكان والبريطانيين الذين ساعدهم بمليشياته وكل أمكانياته، هؤلاء الحلفاء أداروا ظهرهم له ولحقوق الشعب الكردي، وهم الان ينوون أعطاء الكرد حقوقا أقل بكثير مما أعطته أتفاقية ۱۱ أذار ، مارس، لذا فلا بد من فيدرالية أقليمية لرد الحيف عن الشعب الكردي الذي الحق جزء من وطنه بالعراق ظلما! ! .
مرة أخرى لم يستوعب الاكراد وزعمائهم قواعد اللعبة ولم يتعلموا من دروس التاريخ. وبنفس السياق الذي ذهب اليه البارزاني يقول كيندال نيزان، رئيس معهد الدراسات الكردية في باريس: (ان عددا من أعضاء مجلس الحكم يحاول التنصل من المبادىء الاساسية الاربعة للدستور المستقبلي التي أتفقت عليها أحزاب المعارضة السابقة، وهي العراق دولة ديمقراطية تحترم التعددية السياسية، الفيدرالية، أحترام شرعة حقوق الانسان والمساوات بين الرجل والمراءة وأخيرا فصل الدين عن الدولة) وشدد نيزان على أن الاكراد (يرفضون أي مجادلة في مبدأ أن يكون العراق دولة فيدرالية. . وفي حالة عدم أحترام هذا المطلب فأن الاكراد يفضلون العيش في كيان مستقل). ومن جانب آخر كشف الدكتور ليث كبة، عراب المشروع الامريكي في العراق، قائلا: أن الادارة الامريكية غير ميالة الى منح الاكراد حكما فيدراليا، فيما هي تميل الى الصيغة الفيدرالية في أدارة المحافظات، أي لاتكون هناك فيدرالية قائمة على أساس قومي بل جغرافي وأن تتمتع كل محافظة بادراة ذاتية، مشيرا الى أن ذلك يعني منح المحافظات صلاحيات ادارية ومالية أكبر وترك موضوع منح الحكم الفيدرالي للاكراد الى دستور عام ۲۰۰٥.
أن رفض الزعيم الكردي مسعود البارزاني مشروع فيدرالية المحافظات بقوة وتأكيده على الفيدرالية القومية أو (الاتحاد الاختياري) قبل مناقشة صيغة الدستور والاعلان عنه، في تقديرينا، هو لأنتزاع أقرار الحكومة العراقية التي من المقرر تشكيلها في نهاية شهر حزيران القادم، بالحدود الجغرافية لكردستان العراق بضمها محافظة كركوك وأجزاء من محافظة ديالى، ليصبح فيما بعد واقعا تاريخيا وجغرافيا أقرهما عقد الدولـة (الدستور).
يقول نيزان كيندال، أن الموقف الامريكي الرافض لفيدرالية عراقية جاء نتيجة الضغوط التركية. يعني بذلك أن الاتراك يرفضون ضم كركوك الى أقليم كردستان، ولأجل ذلك رضخ الامريكان لرغبة الاتراك. هذا الادعاء بعيد عن الواقع لأن كركوك خط أحمر أمريكي لايمكن تجاوزه. والدليل قول بول وولفوتز، نائب وزير الدفاع الامريكي، في مقابلة اجرتها معه صحيفة (حريت) التركية، بتاريخ ٥ ديسمبر، كانون الثاني ۲۰۰۲ عندما هدد قائلا: (لاينبغي لأحد وضع عينه على كركوك)، (NOBODY SHOULD HAVE THEIR EYES ON KIRKUK). لأن هذه المدينة تحوي في باطن أرضها نصف الاحتياطي العراقي من النفط والغاز.
بعد أحتلال العراق غض الامريكان والبريطانيين النظرعما قام به الاكراد في كركوك وتعاطفوا مع حزب جلال الطالباني وسمحوا لقواته وأنصاره دخولها، لأسباب سياسية مرحلية وتفاديا للاصطدام المبكر مع الاكراد، واطلقوا يده في كركوك ولم يتحركوا ساكنا حينما أستقدم أكثر من (۲۰۰۰۰۰) كردي وأسكنهم فيها بحجة أعادة المهجرين، في محاولة جديدة لتغيير ديموغرافية المدينة. الى ذلك هددت تركيا بارسال قوات مسلحة الى كركوك لحماية التركمان، مما دفع أمريكا الى الضغط على جلال الطالباني لسحب قواته وأنصاره من المدينة، رضخ الطالباني ظاهريا، ثم عادت قواته وأنصاره وأنتشروا في المدينة تحت سمع وبصر الامريكان، الى أن جعلوها مرجلا يغلي وقنبلة لاتحتاج الا الى عود ثقاب لتنفجر وبدأءت المظاهرات والمظاهرات المضادة ومسلسل الاغتيالات بين الاكراد والتركمان والعرب الذي يذكرنا بأجواء عام ۱٩٥٩. أن طموح السيد الطالباني هو السيطرة على كركوك كليا، فأن نجح في ذلك فأنه سيمسك بجميع أوراق اللعبة في كردستان ويكون سيدها بلا منازع ويهمش عندها السيد البارزاني وحزبه، ولهذا السبب تحالف مع الشيعة المؤيدين لأيران في محاولة لكسب رضاهم لتحقيق طموحه وتخلى عن الادلاء بتصريحات عن الاتحاد الاختياري أوالفيدرالية على الاساس القومي ويحاول الان أيجاد حل وسط مؤقت دون أن يتخلى عن طموحه.
يعتقد الاكراد أن مدينة كركوك هي الثمن الواجب على أمريكا دفعه لهم لقاء الخدمات التي قدموها لها قبل الاحتلال وبعده. قلنا أن سماح أمريكا للاكراد بدخول كركوك كان لآسباب سياسية مرحلية، لتفادي الاصطدام المبكر معهم والسبب الاخر في أعتقادنا، هو أنتقام أمريكا من تركيا لعدم سماحها بدخول القوات الامريكية الى العراق عبر أراضيها عشية الحرب، و مساومتها حـول أرسال (۱۰) ألاف جندي تركي الى العراق بعد الحرب والتي رفضها الاكراد بشدة. أن الغيرة الوطنية ينبغي أن ترفض جميع القوات الاجنبية المحتلة مهما كانت أوصافها ومسمياتها وحجمها ونياتها.
نحن لانشك في أن تركيا أقترفت خطاءً استراتيجيا عندما رفضت مرور القوات الامريكية عبر أراضيها الى العراق. وأن أمريكا سوف لن تنسى لتركيا خطأها. ومن جانب أخر، لو أفترضنا جدلا، نجاح الاكراد في السيطرة على مدينة كركوك سيطرة تامة، فهل تبادر تركيا الى أنزال قواتها في كركوك لحماية التركمان، على غرار ما فعلت في قبرص عام ۱٩٧٤؟ وتواجه أمريكا على الارض؟ ويسقط التحالف التركي – الامريكي القائم منذ أكثر من نصف قرن؟ لانعتقد أن تركيا ستقوم بمثل هذا العمل الجنوني، لآسباب خارج موضوع هذا المقال.
أضافت أمريكا خطاءً استراتيجيا أخر الى جملة أخطائها التي لاتعد ولاتحصى في العراق بسماحها للاكراد من دخول كركوك. فهي ستجد نفسها خلال وقت قريب، أما الدخول في صراع مع الاكراد، أو تكون طرفا في الحرب الاهلية التي ستنشب في هذه المدينة المنكوبة ولايدري ألا الله عز وجل الى أين ستنتشر نيرانها. وفي جميع الاحوال فأن أمريكا وحدها ستتحمل جميع النتائج السياسية والانسانية والقانونية بسبب ما ستؤول اليه الاوضاع في كركوك.
الاخوة الاكراد مدعوون اليوم الى الاحتكام الى العقل والحكمة والتخلي عن التوجهات العنصرية وتهميش الاخرين ومحاولات تمزيق العراق وزرع الفتن والاحقاد بين الطوائف و القوميات العراقية، العراق على عتبة مهمة من تاريخه، فاما بناء عراق ديمقراطي حر مستقل يعيش فيه جميع القوميات والطوائف بأنسجام وأخوة والمشاركة في بناء المؤسسات المدنية والدستورية وأما تمزيقه الى دويلات ضعيفة غير قادرة على الحياة وحماية أنفسها. فبيد الاخوة الاكراد زمام المبادرة.
أن الذين دخلوا خلسة تحت ستار غبار الحرب ونيرانها، وأعمتهم غريزة الانتقام، يلعبون بمقدرات العراق وشعبه الابي، ان المتشدقين بالديمقراطية والحرية، يجهلون حقيقة ما يدعون، فأذا كانت نياتهم صافية وولائهم للعراق وشعبه صميميا، فأن المشاكل القومية والطائفية، لاتحل بتقسيم العراق وتفتيته، بل تلحق به كوارث أضافية هو في غنىً عنها، وأنما يكون الحل من خلال بناء عراق موحد حر مستقل و بأقرار حقوق الانسان والاعتراف بحقوق المواطنة وحقوق الاقليات على قدم المساوات بعيدا عن الشوفينية والتعصب الاعمى.
فأن الاكراد الان أمام خيارين صعبين للغاية، والبعبع الامريكي جاثم على صدورهم وصدور العراقيين جميعا، فأما الموافقة على الصيغة المطروحة، ويصفوا القضية الكردية ويدفنوا أحلامهم وطموحاتهم أو رفضها والاستعداد لمواجهة الازمة مع الامريكان تتجاوز في أبعادها منطق العقل والحكمة فتحتكم الى منطق القوة، وعندها يشد الاكراد الاحزمة على البطون ويرصون صفوف الرصاص على الاكتاف ويتسلقون قمم الجبال أستعدادا للقتال مع الذين سهلوا لهم غزو العراق وأحتلاله ومع الحكومة العراقية المقبلة في بغداد، لتسيل أنهار الدماء من جديد، وترتكب الجرائم والفضائع ومسلسل الابادة والتهجير، هذه المرة، بأسم الديمقراطية وحقوق الانسان ومكافحة الارهاب وربما أوصافا أخرى لانعرفها! ! أما الخيار الاخر فهو خيار العقل والمنطق، خيار أنحيازهم لعراق حر ديمقراطي موحد مستقل. وأذا أختار الاخوة الاكراد الخيار الاخير، فأن التاريخ سيكتب لهم بأحرف من النور موقفهم الوطني هذا.
الديمقراطية خير، وعندما يساء أستخدامها تتحول الى لعنة لاتبقي ولاتذر. وحسبنا الله ونعم الوكيل.