ان المأزق الذي وقع به العراق على اثر الانهيار السريع و المفاجيْ لنظام صدام حسين وعدم توفر البديل
الجاهز آنذاك, لم يقتصر على الجوانب الاقتصادية و الاجتما - سياسية, بل ابرز الى السطح جملة من القضايا تقف في المقدمة منها مسألة تنظيم العلاقات في بلد متعدد القوميات والاتجاهات, الدينية منها و السياسية. على ان هذه القضية لم تكن وليدة الساعة انما تعود جذورها الى منتصف القرن الماضي, اي الى بداية النزاع المسلح بين السلطة المركزية و الحركة القومية الكردية, التي كان مطلبها الرئيسي آنذاك حكما ذاتيا لاقليم كردستان ضمن اطار الجمهورية العراقية. الا ان ذلك الشعار سرعان ما تطور, اذ وجدت بعض القوى ان الحل الامثل للمسألة القومية في العراق يكمن في اقامة الفيدرالية كشكل للدولة, لكنها (القوى) لم تحدد نوع الفيدرالية, حيث طالب البعض منها باقامة الفيدرالية القومية, فيما وجد البعض الآخرفي هذا النوع قنبلة موقوته, ورفض فريق ثالث الفيدرالية بكافة اشكالها معتبرا اياها الخطوة الاولى في طريق تجزئة العراق و التفريط بوحدة اراضيه. على انه لابد من الاقرار بان الخيارات المطروحة امام العراق الان ليست بالكثيرة. فاما ان تكون الدولة بسيطة, وهذا ما سيدخل العراق في دوامة الاقتتال مرة اخرى , او الاخذ بالفيدرالية كشكل للدولة مما سيدخلنا الى ذات الدائرة. اذن نحن امام معضلة كبيرة تتطلب التعامل بحذر كبير و الدراسة المتأنية وعدم الانجرار وراء الشعارات الآنية (رغم مشروعيتها). ان دراسة و تحديد شكل الدولة العراقية القادمة و الخروج بحلول واقعية سيكون له اثر كبير ليس فقط على بناء العلاقات المستقبلية بين مكونات الشعب العراقي, بل وعلى مستقبل الدولة العراقية بالكامل. لذا نرى ان من بين اولى المهمات التي تنتصب امام المشرع العراقي , هي صياغة الدستورالدائم للعراق بحيث يتضمن قواعدا قانونية تنظم العلاقة بين السلطات المركزية وسلطات الاطراف, قواعدا تحدد مساحة البلاد و حدودها,و اخيرا, وهو الاهم بطبيعة الحال, قواعد توزع الاختصاصات بين المركز واطراف الفيدرالية, اذ ان اغلب النزاعات في الدول الاتحادية, كما تثبت التجربة, ناتجة عن الخلافات حول حجم الاختصاصات الموكلة لاطراف الفيدرالية. وهنا لابد من الاشارة الى ان مسألة توزيع الاختصاصات وجدت مكانها في القانون الاساس للدولة(الدستور) في اغلب البلدان الفيدرالية, غير ان القلة من تلك البلدان احالت تنظيم هذه المسألة المهمة الى التشريع العادي, فالمادة ٧۱ من القانون الاساس الالماني يسمح باحالة بعض من الاختصاصات الحصرية للمركز الى الاطراف عن طريق اصدار تشريع عادي. في حين نرى ان الدستور الامريكي ذهب الى عكس ذلك اذ تضمن امكانية توسيع الاختصاص الحصري للسلطات المركزية عن طريق اصدار قانون عادي(الجزء الثامن من المادة الاولى). وعلى هذا الاساس نرى ان تضمين الدستور , و باسهاب , لاختصاصات كل من المركز و الاطراف في البلدان الفيدرالية يعتبر ضمانة للاستقرار ويقلل من امكانية بروز خلافات بين السلطة المركزية للفيدرالية و سلطات اطرافها حول هذه الصلاحية او تلك.
وما زال الحديث يدور حول الاختصاصات واساليب توزيعها بين المركز و الاطراف, ارى من الضروري التطرق الى معالجة هذه المسألة الحساسة في بعض الدول الفيدرالية. فنجد ان البعض منها قام بتضمين دستور الدولة الاختصاصات الحصرية للمركز اما فيما عدا ذلك فاحيل الى الاطراف. ويمكننا العثور على مثل هذا الاسلوب في دستور جمهورية تنزانيا المتحدة لعام ۱٩٧٧, حيث تضمن الملحق الثاني للدستور ۱٧ اختصاصا حصريا للاجهزة الفيدرالية, من ضمنها الدفاع و الامن واعلان الاحكام العرفية و تحديد الضرائب. . . . الخ.
اما في دول اخرى فقد ذهب معدو الدستور (او ملحقه) الى تحديد اختصاصات الاطراف تاركين المتبقي من منها للسلطات المركزية, وهذا ما يمنح الاطراف بعض الضمانات بعدم التدخل في شؤنها الداخلية. (الى ذلك ذهب المشرع الامريكي في معالجة توزيع الاختصاصات بين المركز و الولايات). اما الاسلوب الثالث فييتلخص بتضمين الدستور اختصاصات المركز و الاطراف على حد سواء (كندا, سويسرا, اثيوبيا, الارجنتين. . . وغيرها), ويتم اضافة الاختصاصات المستجدة باساليب مختلفة, عادة ما تكون عن طريق اللجوء الى تعديل القوانين اوعن طريق الاضافة. وقد نصت بعض الدساتير على الاختصاصات المشتركة بين المركز و الاطراف, ما يطلق عليه في القانون الدستوري بالاختصاصات المشتركة, اضافة الى اختصاصات كل منهما على انفراد. (دستور الهند لعام ۱٩٤٩).
اما دستور واحدة من اكبر الفيدراليات في العالم, فقد ادرج الاختصاصات الحصرية للمركز, و الاختصاصات المشتركة, فيما ترك ما لم يرد ذكره في الدستور الى الاطراف, التي ادرجها الدستور حسب التسلسل الابجدى, مؤكدا على مساواتها بالحقوق و الواجبات(دستور الاتحاد الروسي لعام ۱٩٩٣). ان واحدة من اكثر المسائل خطورة في ظل الفيدرالية, هي احتمال بروز النزعة الانفصالية لدى الاطراف مما يشكل تهديدامباشرا لسيادة البلاد ووحدة اراضيها, خصوصا في ظل ظروف اقليمية و دولية بالغة التعقيد, اذ ان وجود الفيدرالية كشكل للدولة في العراق قد يزيد من مطالبة الاقليات القومية في البلدان المجاورة بحقوقها القومية المشروعة, وهنا يكمن سر القلق الذي ينتاب البعض من جيران العراق من التجربة العراقية. على اساس ما تقدم نرى ان هنالك مسؤلية كبيرة تقع على المشرعين العراقيين, وواضعي الدستور على وجه الخصوص, وهي صياغة الدستور بالشكل الذي لا يدع مجالا لاستثمار قواعده لاهداف انفصالية من شأنها تهديد سيادة الدولة العراقية ووحدة اراضيها. وهنا لابد من الحديث عن الضمانات التي لابد من اعتمادها لتأمين السيادة الوطنية وعدم التفريط بوحدة العراق وسلامة اراضيه, وفي مقدمة تلك الضمانات تقف ما يمكن ان نطلق عليه الضمانات الدستورية او القانونية, والتي تعني ان يتضمن الدستور او التشريعات الاخرى قواعد قانونية ملزمة, تحرم الاخلال بمبدأ السيادة الوطنية وتلزم الاطراف كافة على التعهد باحترام وحدة الاراضي العراقية.
على ان الاخلال بتلك القواعد يصنف على انه جريمة جنائية. ان ان الضمانات الدستورية للحفاظ على وحدة الدولة وسلامة اراضيها تتجلى بأشكال مختلفة ومنها نذكر:
۱- منع الاطراف عن الخروج الكيفي(الانفصال) من الفيدرالية.
۲- منح السلطات المركزية حق استخام القوة للحفاض على سيادة الدولة ووحدة اراضيها واجهاض الحركات الانفصالية.
٣-ان يحيل الدستور كل المسائل التي تجسد السيادة الوطنية الى الاختصاص الحصري للسلطات المركزية. من تلك المسائل مثلا(ترسيم الحدود السياسية للدولة و تأمين حمايتها, الجمارك و المكوس, المشاركة بالمنظمات الاقليمية و الدولية, الانظمام الى الاحلاف العسكرية, امتلاك قوات ومليشيلت مسلحة خاصة, اجراء مفاوضات وعقد الاتفاقيات مع الدول الاجنبية,. . . . . . . . . . . . الخ.).
ان احالة كل تلك الاختصاصات الى السلطات المركزية سيدعم الوحدة الوطنية ويبعد خطر بروز النزعات الانفصالية وخصوصآ في ظل تعدد الاتجاهات و تشابك المصالح الاقليمية منها و الدولية في منطقتنا الساخنة. على ان ما ورد لا يمكن, بأي حال, ان يؤثر على التوجه الديمقراطي للدولة أو أن ينتقص من الحقوق القومية لكافة مكونات الشعب العراقي. اننا نرى بان ما ورد اعلاه سيكون ضمانة ليس لوحدة البلاد فحسب, بل صمام امان وضمانة اكيدة لحقوق الاقليات القومية ومن ثم للحفاظ على حقوق الانسان في جميع انحاء العراق سيما وان الواقع الديموغرافي العراقي خضع لتغييرات كبيرة, يكون من المستحيل معالجتها (باعادة ترحيل) السكان الى مناطق سكانية اخرى. ان وجود الضمانات الدستورية-الحقوقية سيكون منقوصا دون توفر آليات تفعيله وحمايته, وهذا لا يتم الا بوجود ضمانة اخرى لا تقل اهمية عن الاولى الا وهي الضمانة القضائية, التي تعني تكوين سلطة قضائية (محكمة دستورية) تكون من بين اختصاصاتها مسألة حل النزاعات بين السلطات المركزية وسلطات الاطراف, وكذلك النظر و حل الخلافات الناتجة عن النزاعات بين اطراف الفيدرالية ذاتها, وارى ان يتم الاخذ بالنظام المركزي (الاوربي) فيما يخص بالضمانات القضائية. ختاما اجد من الضروري الخروج بخلاصات يكون من الصعب تجاوزها خصوصآ اثناء تناول موضوعآ حساسآ كموضوع الفيدرالية:
۱- ان توقيع عقدا او ميثاقا دستوريا بين كافة اطياف الشعب العراقي, سيكون له أثرآ ايجابيا كبيرا. واعتقد ان لا زال هنالك بعضا من الوقت لانجاز ذلك.
۲ - سيكون من الفائدة العودة الى تجارب الدول الفيدرالية لتجاوز الاخطاء, التي طالما ادت الى نزاعات مسلحة دموية.
٣- ان القواعد الدستورية, مهما كثرت, سوف لن تكون ذات فائدة دون توفر الارادة الطيبة و النوايا الصادقة لدى الاطراف المتعاقدة.