مضت ثمانية عقود منذ أن جعل مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، العَلمانية من أسس الدولة. وقد تجذرت وأصبح لها مناصرون أقوياء في الدولة والمجتمع، إضافة إلى الجيش الذي يعتبر نفسه حاميها الأول.
كان العَلمانيون ينظرون بعيون الشك إلى رئيس الوزراء الحالي رجب أوردوجان بسبب الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه، كما لم ينس الكثيرون اللغة التهييجية التي كان يستخدمها في منتصف التسعينيات – بما في ذلك استعانته ببيت شعر يقول "المساجد ثكناتنا والمنائر حرابنا" مما أدى به إلى السجن...
لكن منذ توليه رئاسة الوزارة في العام الماضي، كان أوردوجان يحاول أن يبدي حرصه على العلمانية، مؤكدا باستمرار على أن الدين والسياسة لا يختلطان. وكان جهده الرئيسي حتى الآن هو التركيز بلا هوادة على زيادة فرص النجاح في الحصول على موافقة زعماء الاتحاد الأوروبي على بدء مفاوضات الدخول في الاتحاد، في الوقت الذي يؤيد فيه بين ٧٠ و ٨٠٪ من الأتراك دخوله.
إلا أن الشكوك سريعا ما عادت للسطح، بل سقطت الحكومة في أسوأ أزماتها منذ جاءت في أعقاب النصر الانتخابي في نوفمبر ۲٠٠۲ ويتعلق الموضوع بمكان الإسلام في التعليم وبالتالي في الحياة العامة. وهكذا دخلت البلاد في دوامة جدل سياسي صاخب شمل الجميع...
جاءت الشرارة من مشروع قانون قدمه حزب أوردوجان يجعل من السهل على خريجي المدارس الدينية الثانوية، التي وظيفتها إعداد أئمة وخطباء المساجد، دخول الجامعات التي يختارونها ليدرسوا ما يشاؤون مما لا علاقة له بإعدادهم كرجال دين، كالقانون أو الهندسة أو غيرها. وقد وافق البرلمان، الذي يسيطر عليه حزب أوردوجان، مؤخرا على القانون.
قد يبدو الأمر ثانويا أو حتى بديهيا إذ أن القانون يوفر، كما يقول مؤيدوه، فرص "المساواة" بين الطلبة في امتحانات دخول الجامعات. ويقول أنصار أردوجان، الذي حصل حزبه على حوالي ٤۲٪ من الأصوات في الانتخابات، أن عليه أن يعطي ناخبيه شيئا ما. بل إن المستشار السياسي للرئيس الأمريكي بوش وصف الأمر بأنه "تكتيك سياسي هام لأجل إرضاء القاعدة الحزبية المحافظة"...
لكن الأمر ليس بهذه البساطة في تركيا حيث الخوف على انهيار العَلمانية مازال، بعد ثمانية عقود من الممارسة، يمثل هاجسا حقيقيا. يقول منتقدو القانون أنه قد يهدد عَلمانية الدولة عن طريق "تسريب أعداد كبيرة من الطلبة المتشبعين بتعاليم الدين منذ طفولتهم إلى داخل النخب الحاكمة". ويرون في التشريع "برهانا على أن أوردجان لديه أجندة إسلامية سرية، وأن ما يحدث هو ألعوبة بعيدة المدى لوضع أعداد من "الدينيين" في أماكن قيادية في الوزارات في المستقبل". أي باختصار العمل بهدوء على تقويض العَلمانية من الداخل.
ولم يتردد مكتب رئيس الأركان في إعلان أن المدارس الدينية "تصلح فقط لتدريب العاملين في حقل الخدمة الدينية... وأنه ليس لأحد أن يشك في كيف سيكون موقف الجيش... الذي يعتبر أن القانون لا يتفق مع عَلمانية تركيا".
هناك توقع عام بفيتو رئاسي يؤدي لإعادة القانون إلى البرلمان. وقد ينتهي المشروع أمام المحكمة الدستورية إذا أصر عليه البرلمان. ويقول بعض المراقبين أنه ربما كان هذا بالضبط ما يريده أوردوجان: أن يبرهن لمسانديه "الدينيين" أنه قد حاول تمرير القانون برغم علمه بأن محاولاته ستفشل. وبهذا الأسلوب الملتوي يمكنه أن يحتفظ بولاء مؤيديه بدون أن يثير انتقادات الآخرين؛ إذ من المرجو ألا يجعل الأمر يقف في طريق هدفه الرئيسي الذي يؤكد له مكانا فريدا في التاريخ، باعتباره السياسي الذي أقنع قادة أوروبا أن مكان تركيا هو في أوروبا.
باختصار؛ فتركيا، التي كثيرا ما تعد نموذجا للدولة الإسلامية التي تعتنق الديموقراطية، مازالت تواجه سؤالا حيويا حول مكان الدين في الحياة العامة، كما تواجه سؤالا، مرتبطا به، حول دور الجيش، في وقت تحاول فيه أن تصبح أكثر تحررا وانفتاحا.
السؤال الآن هو ماذا عن مصر؟ وهل هناك مكان أو مستقبل للعَلمانية فيها؟
وأهمية السؤال تنبع من أن العَلمانية هي شرط أساسي وضروري (وإن كان غير كافٍ وحده) لقيام دولة ديموقراطية، وأي كلام عن إصلاح وتقدم نحو "الديموقراطية" في مصر (أو في غيرها) هو لغو بلا معنى في غياب العَلمانية، دستوريا وعمليا. ويبدو أن هذه البديهية المبدأية "تغيب" عن الكثيرين. فعندما يتعرض، مثلا، بعض الكتاب بالإعجاب لما يحدث هذه الأيام في الهند ثم يسارع أحدهم ليلاحظ وجود "هيئة مستقلة تتولى العملية الانتخابية" هناك ويطالب بمثيل لها في مصر؛ فهل يدري أنه كمن يطالب بتركيب "قفل" (مزلاج) من نوع جيد لباب "شقة" في الدور الخامس من عمارة لم تُبنَ بعد، لأن أساساتها لم تُدق بعد؟! فالنموذج الديموقراطي الهندي ناجح وباهر أولا وقبل كل شيء لأن حجر أساس نظام الحكم، الذي أرساه آباء الجمهورية غاندي ونهرو، هو العَلمانية.
نعود للسؤال حول مصر. من الواضح، والمحزن، أنه في الوقت الذي تزدهر فيه الديموقراطية في الهند، وتنشغل فيه تركيا بأسئلة هامة حول أوضاع العلمانية ومستقبلها، فإن مصر ليس لديها أسئلة ولا يحزنون بل نجدها تندفع في تنفيذ "خريطة طريق" تديين كل شيء، وبأسرع ما يمكن.
فبالإضافة إلى النصوص الدستورية (دين الدولة ومصدر التشريع) والقانونية المعروفة في هذا الشأن، لا يمكن أن تخطيء العين تزايد الهوس الديني في المجتمع إلى درجة التشبع، والتحول، بريادة من الدولة وأجهزتها المختلفة، إلى هلوسة وهذيان بلا مثيل في أي مكان آخر بالعالم..
وإليك بعض النماذج "الاسترشادية" لما نعني:
أولا: بينما لا يتعدي طلبة المعاهد الدينية في تركيا الثمانين ألفا، يزيد عدد طلبة المعاهد والكليات الدينية في مصر (التي تماثل تركيا في عدد السكان) عن المليون ونصف المليون، بالإضافة إلى عشرات الألوف من خريجي المعاهد الدينية الذين يدخلون ما يشاءون من كليات (بما فيها كليات عسكرية...). ويبدو أن حلم صلاح جاهين الذي كان يغنيه عبد الحليم حافظ في الستينيات بإنشاء "أوبرا" على الترعة في كل قرية، قد تحول في الواقع إلى إقامة معهد ديني في كل قرية (أو معهدين، على وجه الدقة: واحد للبنين والآخر للبنات...). وهو إنجاز تم معظمه في أثناء "زمن الرئاسة الحالية".... ولانعرف إن كان الهدف النهائي هو "معهد ديني لكل مواطن" أم ماذا !! وكأن هذا لا يكفي، فقد انتشرت في ربوع مصر ظاهرة المدارس "الإسلامية" الخاصة التي تعمل تحت أعين الدولة والتي رسالتها هي أن تحقن في رؤوس الطلبة من كل الأعمار جرعات مكثفة من التعليم الديني، إضافة إلى المنهج العام الذي هو يقوم أساسا على "الحفظ الصم" وقتل ملكات التفكير المستقل.
ثانيا: إذا ذهبت، مثلا، إلى مبنى "المُجَمَّع" في ميدان التحرير بقلب القاهرة لقضاء معاملة ما مع البيروقراطية المصرية العتيدة، وتصادف أن تكون هناك في وقت أحد الصلوات، فينبغي ألا تفاجأ إذا رأيت الموظفين يتركون أعمالهم ليقوموا (بعد أخذ وقتهم في عمل الاستعدادات اللازمة..) بتأدية الصلاة في المصليات وفي الطرقات؛ يؤمهم في ذلك رؤساء الإدارات والمصالح، ومن بينهم "لواءات" و "عمداء" !! والرسالة الوضحة هي أنه بدلا من اعتبار "العمل عبادة" فالدولة في مصر ليس فقط تعتنق فكرة أن "العبادة عمل"، يعلو بالطبع على أية واجبات أخرى؛ بل إنها تؤم الناس فيه لتؤكد أن محاسبتها ليست من حق "الرعايا" بل هي أمر بينها وبين السماء.
ثالثا: نعرف جميعا كم أن القنوات الإذاعية والتلفزيونية المصرية متخمة بالمواد الدينية بصورة لا تختلف عن، إن لم تتفوق على، شقيقاتها في السعودية وإيران مع فارق الكثرة الهائلة في عدد القنوات المصرية (بفضل الريادة في التكاثر الكمي الإعلامي). لكن الغريب ملاحظة أن القناة "الفضائية" المصرية، الموجهة إلى المشاهدين في الخارج، تكاد تكون الوحيدة بين الفضائيات العربية في حرصها الشديد على أن تقطع إرسالها (حتى لو كان "خطابا تاريخيا" ما.....) لإذاعة الأذان "حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة". وإن كان هذا بالطبع بدون فائدة مباشرة لمشاهدين تختلف مواقيت الصلاة حيث يقيمون بالساعات عنها في القاهرة، فالواضح أن هناك رسالة محددة يراد بثها. هل هي "لا صوت يعلو على صوت....الدين"؟ [ناهيك بالطبع عن حرص التلفزيون المصري على استضافة فقهاء الإرهاب لتوجيه وإرشاد المشاهدين، في وقت تزعم فيه الدولة أنها تحارب الإرهاب!!].
رابعا: من بين صحافة العالم، تنفرد الصحافة المصرية، الحكومية و"المستقلة"، في تكديس صفحاتها بمقالات دينية، غالبا ما تنضح بالإدعاءات الفجة المثيرة للغثيان والنرجسية المرضية المثيرة للشفقة. ليس هذا فقط، بل أصبحت تقدم أبوابا ثابتة عن "الفكر الديني"، وإن كانت - والحق يقال- أبوابا شيقة ومشوقة، إذ توضح مراجعة بعض موادها عمق الهوة التي سقط فيها هذا "الفكر" الديني...
خامسا: مصر، التي أنجبت منذ قرن من الزمان هدى شعراوي وقاسم أمين: تحول فيها التحجب من "ظاهرة" إلى رمز قومي أو "قومديني" كاسح، لا يجرؤ أحد على الخروج عنه. فباستثناء الممثلات غير التائبات ومن شابههن، والحريم من أهل الذمة، أصبحت نساء مصر محجبات، ونسبة لا يستهان بها منهن منقبات.
سادسا: بينما توقف رئيس الجمهورية منذ سنوات طويلة عن حضور احتفالات "عيد العلم" السنوية التي توزع فيها جوائز "مبارك الكبرى" وجوائز الدولة التقديرية والتشجيعية على العلماء، فإنه يبدو شديد الحرص على حضور الاحتفالات الدينية مثل "ليلة القدر" وحفلات توزيع جوائز حفظ القرآن علي الفائزين من مصر وكافة أنحاء العالم، وإلقاء الخطب أمام جموع من رجال الدين. بل إن هناك جائزة لأفضل محافظة مصرية في جهود تحفيظ القرآن، وليس في محو "الأمية" (التي تتزايد معدلاتها ولا تتناقص) أو الحد من "الانفجار السكاني" (الذي يهدد مصر بكارثة محققة). وتبرز وسائل الإعلام الحكومية حرص رئيس الجمهورية على عقد اجتماعات دورية مع القادة الدينيين لمتابعة أحوال الدعوة الإسلامية في أنحاء العالم؛ وكأنه خليفة المسلمين قاطبة.
سابعا: بينما "سونيا غاندي" (الإيطالية المولد التي أخذت جنسية الهند في ١٩٨٤، والمنتمية إلى أقلية مسيحية) قد تنازلت عن منصب رئيس الوزراء بعد نجاح حزب المؤتمر تحت قيادتها، هاهو "مانموهان سنج"، المنتمي إلى أقلية السيخ، يتولى المنصب ويؤدي اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية "زين العابدين عبد الكلام"، المنتمي إلى الأقلية المسلمة، في دولة أغلبية سكانها الساحقة من الهندوكيين؛ بينما يحدث كل هذا "هناك" في تلك الدولة الفقيرة المتحضرة، مازالت الحكومة "هنا" في مصر ترفض بإصرار وبدون مواراة أو خجل تعيين "غير مُوَحّد بالله" في أي منصب ذي قيمة حتى لو كان نائب رئيس مجلس قرية. أما عن صعوبة (استحالة) دخول "أهل الذمة" في سلك التدريس الجامعي فقد أصبحت نموذجا صارخا، يتحدث عنه الجميع، للتفرقة العلنية التي تمارس مع سبق الإصرار والترصد في كافة الجهات "السيادية" و "شبه السيادية" و "غير السيادية"....
الخ الخ الخ الخ الخ مما لا نريد الخوض فيه الآن....
ماذا يعني كل هذا؟
إن كان للعلمانية مقياس من صفر إلى عشرة، تحاول تركيا البقاء في موقع يقترب من أحد طرفيه، وتحتل السعودية وإيران الطرف الآخر، فإن مقام مصر قد تدهور ليصل حاليا إلى مالا يزيد عن "واحد" على عشرة؛ أي أصبح نظام حكمها أقرب مايكون إلى الدولة الثيوقراطية. [وننتهز هذه الفرصة لتصحيح خطأ شائع، إذ يظن البعض أن الحكم الثيوقراطي يعنى تولي رجال الدين زمام الحكم، ولكن الصحيح أنه يعني "الحكم المستند إلى الدين". فالسعودية، التي تحكمها عائلة مالكة، لا تقل "ثيوقراطية" عن إيران التي يحكمها الملالي. وهكذا فإن مصر هي دولة (شبه) ثيوقراطية، حتى وإن حَكَمَها الأفندية والعسكر]. مصر التي سعى محمد علي واسماعيل باشا لأن تكون "قطعة من أوروبا" هاهي تقنع بأن تصبح قطعة من صحراء العربية..
وإذا كانت جريدة "الأهالي"، الناطقة بلسان حزب التجمع (عدد ٥ مايو ٢٠٠٤) قد أبدت انزعاجها الشديد لأن ممثلي الإخوان في مجلس الشعب يُعِدون، بالتضامن مع عدد من أعضاء "الحزب الحاكم"، للتقدم بمشروع قانون "تقنين الشريعة" (أي "إقامة الحدود" الخ، وهو مشروع كان موضوعا على الرف منذ أيام السادات).. إلا أننا نعتقد أنه بعد كل ما نجحت سياسات التنافس والتعاون والتكامل بين الدولة والتيارات الإسلامية في تحقيقه على أرض الواقع في ثلث القرن الأخير، فإن الوصول إلى مرحلة الجلد والرجم وتقطيع الأيدي والرقاب لم يعد سوى مسألة وقت (قصير؟)، ليس إلا.
ليس هناك، إذن، أدنى أمل في أن يكون للعلمانية في المستقبل القريب أي فرصة لتصبح اختيارا شعبيا أو تجد قبولا في مصر، برغم ضرورتها الحيوية إن كانت لدى المصريين أي رغبة في أن تجد أُم الدنيا موضعَ قدم ذات يوم بين الدول التي تفكر في السعي على طريق التحضر.
وأي محاولة للتغيير تستلزم إعادة تأهيل شامل للعقل والوجدان المصري، في عملية تحتاج قبل كل شيء إلى أتاتورك مصري شجاع، لا نعلم إن كان سيأتي قبل فوات الأوان.