من سوء حظ النجف الأشرف والفلوجة، وبغداد والرمادي والموصل والبصرة وسواها من المدن العراقية أن أياً منها ليست تل عفر. كل من هذه المدن (بما فيها تل عفر) ذاقت وحشية الاحتلال الأميركي ورد فعله في العقاب الجَماعي على أعمال المقاومة. فسقط في كل منها عشرات بل مئات من القتلى والجرحى، نتيجة القصف العشوائي الأميركي بصواريخ الدبابات أو الراجمات أو بقنابل القاذفات "فَ ـ ١٦". ولكن تل عفر وحدها وجدت من بين كل مدن العراق وقراه صوتاً يرتفع بشجاعة في وجه الأميركيين ان: "كفى.. وإلا.. ". لم تتحمل تركيا مشهد أبناء جلدتها من التركمان وهم يتساقطون بالعشرات في شوارع البلدة وضواحيها، وكأن القوات الأميركية في مِهرجان صيد بشري. ولم تكتف تركيا بمجرد المطالبة بوقف عمليات القتل، ولكنها هددت بأنه إذا لم تتوقف هذه العمليات فإنها سوف تضع حداً لكل تعاونها مع الولايات المتحدة. يعني هذا الموقف أن تل عفر بالنسبة الى الأتراك هي مثل أنقرة وأزمير وأضنة واسطنبول.. وسواها من المدن والبلدات التركية الأخرى. وان سفك دماء أهلها هو بمثابة سفك دماء الأتراك أنفسهم.
ما كان للعمليات العسكرية الأميركية أن تتوقف في تل عفر لولا هذا التهديد التركي الذي تعرف الولايات المتحدة أنه تهديد جادّ لا مناورة سياسية لامتصاص نقمة داخلية.
ولكن ماذا عن عرب النجف؟.. وماذا عن عرب الفلوجة؟ من ينتصر لعرب العراق الذين تنهال عليهم حمم القوات الأميركية من دون أي حسبان لأي ردّ فعل عربي؟
عندما عقد مجلس جامعة الدول العربية اجتماعه الأخير في القاهرة كانت القوات الأميركية تتراجع في تل عفر فيما كانت تواصل قصفها للمدن العراقية الأخرى. لم يصدر عن مجلس الجامعة أي موقف شبيه أو قريب من الموقف التركي. كل ما صدر كان مجرد بيان بكائي تعاطفي لا يسمن ولا يغني من جوع. فلا إدانة ولا حتى مجرد نداء لوقف القصف الأميركي. أما التهديد على الطريقة التركية فكان مجرد أضغاث أحلام!!
من خلال تجربتنا اللبنانية مدى طوال سنوات المحنة التي حلّت بنا طوال الفترة من عام ١٩٧٥ حتى عام ١٩٨٩، خصوصاً خلال مرحلة الاجتياح الإسرائيلي، نعرف أي معاناة يواجه شعب العراق، ليس فقط من جراء المجازر الدموية التي تحلّ به كل يوم، بل من خلال الإهمال العربي الذي يبلغ حد عدم الاكتراث.
إن الوضع في العراق اليوم كما الوضع في لبنان بالأمس، يشير الى أنه ما عاد قتل عشرات الأبرياء بسيارة مفخخة، أو بالقصف الأميركي، خبراً يستحق أن يتصدر صفحات الصحف ونشرات الأخبار، الأولى. ذلك لأن تَكرار الخبر يوماً بعد يوم يُفقده أهميته وتصير صورة الفنانة "مادونا" مثلاً وهي متشقلبة رأساً على عقب أكثر استقطاباً للاهتمام من صورة الدم المسفوح المعجون ببقايا السيارات المحترقة!!
حين بدأت محطات التلفزة تنقل مشاهد الأحداث الدموية في العراق كانت تحذّر مشاهديها سلفا من فظاعة تلك المشاهد وكانت تنصح بإبعاد الأطفال وكبار السن عن الشاشات الصغيرة. أما الآن فقد أصبحت هذه المشاهد تعرض كل يوم بلا تحذير.. ومن دون أن يثير عرضها أي ردّ فعل!! فالخبر المهم عن العراق ليس حول وقوع انفجار أو اثنين أو ثلاثة، ولكن الخبر هو عن مرور يوم واحد من دون الإبلاغ عن أي انفجار، أو من دون إزهاق أي روح. ولقد اعتاد القارئ العربي والمستمع العربي هذا الأمر منذ غزو أميركا للعراق في ظل شعار تحريره من النظام الاستبدادي السابق.
ان المأساة في العراق هي في انعدام الشرعية، فلا الاحتلال الأميركي شرعي لأنه احتلال. ولا الحكومة القائمة شرعية لأنها تستمد قانونية وجودها من الاحتلال، ثم إن أعمال الخطف وقطع الرؤوس وتفجير السيارات المفخخة بين المواطنين الأبرياء لا يعطي هذه المقاومة أي شرعية. وبانتفاء المرجعية الشرعية الوطنية الصالحة تسود الفوضى في مجتمع لا يُعرف عنه تاريخياً الكثير من الليونة.