البارات والديسكوات من أهم الأماكن التي يلتقي فيها الإنسان المتحضر وغير المتحضر في المجتمعات الغربية. حيث يلتقي النساء والرجال ومن مختلف الأعمار في نهاية كل أسبوع،
يسهرون ويمرحون حتى ساعات متأخرة من الليل. ليس لهم مشكلة إقامة أنظمة فدرالية شمالية وجنوبية ولا تقسيم بلدانهم إلى دويلات صغيرة ولا مشكلة السيارات المفخخة ولا يخافون من أن يخطفهم أو يغتالهم العصابات والميليشيات الفلانية والعلانية. فالأمان والسلام والحرية وحقوق الإنسان فوق كل شيء في هذه المجتمعات التي استفادت من حضاراتنا الإنسانية العريقة ومن عاداتنا وتقاليدنا الشرقية الأصيلة. فلا يهمهم الآن سوى كيف وأين يقضون عطلتهم الأسبوعية ومع من يقضونها. إضافة إلى المئات من الأماكن الترفيهية والتعليمية والرياضية التي فتحت أبوابها لتقديم خدماتها لمواطنيها ومن جميع الأعمار ابتداء من الطفل الذي عمرة سنة واحدة وانتهاء بالشيوخ والعجائز. حتى للمصابين بأمراض الجنون والتخلف العقلي وذوي العاهات المستديمة لهم نواديهم الخاصة وبإشراف المربيين والإختصاصيين. فأين نحن من تلك المجتمعات البشرية التي لا تعرف الكذب والخداع وسلب حقوق الآخرين ونهب أموالهم وفتك أعراضهم؟ أين موقع حكوماتنا من تلك الحكومات التي لا تخاف من شعوبها لتحقيقهم كافة أحلامهم؟ لماذا يغتال أبناء شعب أعضاء حكومته لو كانوا ساهرون لخدمتهم وتحقيق أمانيهم في الحرية والاستقرار والسلام والأمان؟ لماذا لا يستطيع أعضاء حكوماتنا وأعضاء برلماناتنا أن ينزلوا إلى شوارعهم بمنطلق الحرية كما ينزل الوزراء والمسئولين الكبار في أوربا ويتسوقوا من الأسواق والمحلات كالمواطنين العاديين؟
في مساء الأمس كنا جالسين مع الزملاء الأعزاء في أحد المقاهي الكركوكية المشهورة ونتحدث عن المقاهي الكركوكية بين الأمس واليوم ونتذكر روادها. تلك المقاهي العراقية الأصيلة التي كانت ولازالت تجمع النخبة المثقفة من الشعب العراقي من أدباء وكتاب وصحفيين وفنانين. فالمقاهي العراقية تعتبر من أعمدة التراث العراقي الأصيل. ومن يستطيع أن ينسى المقاهي البغدادية والكركوكية والموصلية والبصراوية ولعبة (المحيبس) و(صيني ظرف) في شهر رمضان المبارك والأغاني الفلكلورية والجالغي البغدادي والمطربين الشعبيين.
كانت المقاهي الكركوكية المنتشرة في جميع أنحاء محافظة كركوك أماكن تواجد أبناء مدينة التآخي والمحبة. والذي كان يود لقاء صاحبه فيواعده في أحد المقاهي الكركوكية. وكانت من أهم المقاهي في العهود القديمة مقهى أصلان يواسى في شارع المجزرة، ومقهى رشيد كوله رضا ومصلى في منطقة المصلى، ومقهى أحمد آغا القديم في منطقة أحمد آغا وأحمد آغا الحديث في قرب تعليم تبة وجرت ميدانى في سوق القورية وجوت قهوة في يدي قيزلار والمجيدية وغيرها. ودخلت المقاهي الكركوكية التاريخ منذ مجزرة كركوك الرهيبة في الرابع عشر من تموز ١٩٥٨. حيث أقدم الشوفينيون على جريمة نكراء وقتلوا العديد من أصحاب المقاهي الكركوكية ودمروا مقاهيهم وكان أول شهيد تركماني سقط قتيلا في المجزرة المشئومة المرحوم عثمان خضر صاحب مقهى ١٤ تموز وتلاه المرحوم زهير جايجي صاحب مقهى زهير. ولكون المقاهي الكركوكية بؤر التجمع الثقافي والسياسي التركماني في كركوك فلم يغفل البعثيون وأزلام صدام المجرمين عن تلك الأماكن أبدا وجندوا المئات من عناصرهم لمراقبة المثقفين والأدباء والدكاترة والمهندسين والعسكريين ورجال الأعمال الذين يترددون على المقاهي في كركوك وقاموا باعتقال ومحاكمة الكثيرين منهم. ففي مقهى آصلان يواسى كان يلتقي خيرة مناضلي التركمان، وفي مقهى المجيدية والمعلمين كانت الأكثرية للمعلمين والمدرسين وأساتذة العاهد. وفي مقهى مصلى، جرت ميدانى، النهرين، التون كوبري، النصر، الشباب، دايى جمعة كان يلتقي الشباب والشعراء والكتاب. وفي مقاهي أحمد آغا القديمة، بابل، كجل صالح، كور بهاء الدين، برناو جايجى، فره قيماقجى، ولي جايجي، وجوت قهوة كان يلتقي العمال وأرباب الحرف اليدوية والصناعات الشعبية.
كانت لمقاهي كركوك طعما خاصا لدى روادها في شهر رمضان المبارك حيث كانت المقاهي تتهيأ منذ أسابيع لاستقبال هذا الشهر المبارك. وتبقى مفتوحة حتى آذان الفجر حيث يسهر رواد المقاهي على أنغام لعبة (صيني ظرف) والتمتع بسماع الخوريات الكركوكي والأغاني التراثية الأصيلة من روادها الأصلين وتلاميذهم المعرفين. وطيلة ليالي رمضان تجري سهرات فنية ومقابلات خورياتية ومقامية بين المطربين الشعبيين المعروفين وتتجري مسابقات لعبة أل(الصيني ظرف) بين منتخبات أحياء كركوك وبين مجاميع من أبناء كركوك مع أبناء أربيل وطوزخورماتو والتون كوبري وتازه خورماتو، وبقية المدن والقصبات التركمانية، حيث يقوم الأطراف بزيارات متبادلة يلتقون من خلالها بأصدقائهم وأعزائهم ويقضون أسعد الأوقات. ولكن وبسبب الظروف الأمنية الصعبة التي تشهدها مدننا وقصباتنا، يبدو بأن المقاهي الكركوكية لا تأخذ حريتها الكاملة في إحياء السهرات الرمضانية الجميلة ولا يستطيع روادها أن يسهروا على أنغامها الشجية حتى الفجر. نتمنى من الله أن يعم السلام والأمان على عراقنا من جديد لكي يمارس العراقيون حياتهم و كافة طقوسهم بحريتهم الكاملة وأن تبقى المقاهي العراقية عامرة بروادها الكرام وأن يستمروا مشوارهم الأدبي والثقافي والفني فيها وتبقى أصوات أم كلثوم، والقبانجي، وناظم الغزالي، ورشيد كوله رضا، وعز الدين نعمت، وشوكت رشيد(مشكو)، صديق بنده غفور، هابه والعشرات الآخرون خالدا إلى الأبد.