لم تشهد العلاقات الايرانية ــ التركية في تاريخنا المعاصر أزمات حادة ولا حروب دامية ولا انقطاعات طويلة كما كانت مع العراق مثلا؛ وذلك خلافا لتاريخها الطويل المشفوع بالحروب الواسعة بدءا من حروب الفرس والرومان البيزنطيين قبل الاسلام الي حروب الصفويين والعثمانيين في القرون الاخيرة. وكان آتاتورك في مطلع القرن العشرين، مثالا ونموذجا يحتذي به الشاه رضا البهلوي في اسلوب حداثته وديكتاتوريته وتعامله مع الحضارة الاوروبية الوافدة. ودخل ابنه الشاه محمدرضا البهلوي في تحالفات مع تركيا في اطار حلف بغداد العسكري في الخمسينات من القرن المنصرم ومن ثم في اطار مجلس التعاون الاقتصادي الاقليمي (الايكو) الذي يضم حاليا الي جانب ايران وتركيا، باكستان ودول آسيا الوسطي.
ورغم قيام الثورة الاسلامية في العام ١٩٧٩، لم تتأثر العلاقات الايرانية ــ التركية كثيرا بتداعيات تلك الثورة الهائجة، قياسا بعلاقاتها مع سائر جيرانها العرب وغير العرب. اذ لم تحاول ايران تصدير ثورتها الي تركيا العلمانية لانها كانت المنفذ الوحيد لايران الي اوروبا وهذا ماشاهدناه جليا خلال الحرب العراقية ــ الايرانية التي دامت ٨ سنوات (١٩٨٠ــ ١٩٨٨) حيث كانت ايران بامس الحاجة الي مثل هذا المنفذ. فلذا لانشاهد أي توتر حاد في العلاقات التركية ــ الايرانية خلال القرن المنصرم خلافا لما وقع بين ايران والعراق اومع افغانستان، بل ومع باكستان والدول العربية المجاورة في الجنوب.
ويعود ذلك الي عدة عوامل منها مبادرة الولايات المتحدة الامريكية والغرب لايجاد الخط الاخضر ــ الاسلامي ــ الحائل في جنوب الامبراطورية الحمراء للاتحاد السوفيتي قبل انهيارها وحاجة ايران للمواصلات البرية والجوية مع اوروبا والتي تتم عادة عن طريق تركيا وتأمين بعض حاجياتها الاقتصادية من تركيا، خاصة في فترة الحرب مع العراق وكذلك وجود عناصر تركية أذرية ايرانية في رأس هرم السلطة ــ ملكية كانت أم إسلامية ــ تسعي دوما لتوطيد علاقات طهران مع بني جلدتها في انقرة.
وقد وصلت موجة الثورة الاسلامية الي تركيا غير ان المثقفين الاسلاميين في هذا البلد لم يتأثروا ببعدها الراديكالي، قدر ما تأثروا ببعدها الثقافي الاسلامي كتأثرهم بكتابات المفكرالديني علي شريعتي ومؤسس حركة حرية ايران واول رئيس وزراء بعد قيام الثورة الايرانية مهدي بازرغان والمفكر الديني عبدالكريم سروش.
ويشهد المثقفون الدينيون الذين يسيطرون حاليا علي الحكومة في تركيا، تجربة تختلف مع تجربة نظرائهم الايرانيين حيث يسعون لأسلمة نظام تعتبرالعلمانية، ايديولوجيته
ومؤسسة الجيش، مرجعيته الاساسية؛ وذلك خلافا لمعظم الاصلاحيين أي المثقفين الدينيين في ايران الذين يسعون لعلمنة النظام الاصولي الاسلامي الذي تعتبر مؤسسة رجال الدين مرجعيته الاساسية. ويبدوان لا المثقفين الدينيين في تركيا يهيمنون علي كل السلطة ولا اقرانهم الايرانيين؛ حيث تواجه الفئة الاولي منافسا وشريكا في الحكم هي القوات المسلحة وتواجه الفئة الثانية، القوات الاصولية المتشددة.
وكانت اول زيارة لزعيم حزب الرفاه (الاسلامي) ورئيس وزراء تركيا الاسبق نجم الدين اربكان الي الخارج، كانت لايران حيث عقد معها اتفاقية هامة لنقل الغازالايراني الي تركيا. كما زارها قبل شهرين رئيس وزرائها الحالي ورئيس حزب العدالة
والتنمية (الاسلامي) رجب طيب اردوغان.
وتحاول حكومة اردوغان ان تسلك نهجا شبه مستقل عن الولايات المتحدة الامريكية
وان تكون محايدة في الصراع الفلسطيني ــ الاسرائيلي وناقدة لتصرفات المحتلين الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني؛ حيث أثارت هذه السياسات، توترا في العلاقات التركية ــ الاسرائيلية.
لكن وبالرغم من الاتجاهات الاسلامية لحكومة اردوغان وسياساتها التي تختلف مع الحكومات العلمانية السابقة ينظر المحافظون في ايران، الي هذه الحكومة، نظرة متشائمة غيرودية يمكنها ان تعّثر العلاقات الاستراتيجية بين البلدين والمتواصلة منذ اكثر من قرن. وقد ادي هذا الامر بالرئيس الايراني محمد خاتمي الذي تشعر حكومته الاصلاحية بانها قريبة فكريا وسياسيا من حكومة اردوغان بان يلغي زيارته المقررة الي تركيا يوم الثلاثاء ٢٨/٩ وذلك بسبب معارضة البرلمان الايراني الذي يهيمن عليه المحافظون لاتفاقيتين مع شركتين تركيتين هما (تاو) و(ترك سل(.
إلا أن الصراع بين المحافظين والاصلاحيين في هذا المجال يعود الي شهر ايار (مايو) وذلك عندما قامت مقاتلة تابعة لقوات الحرس الثوري الايراني بالهبوط في مطار الامام الخميني واغلاقه. وهذا المطار هومطار طهران الجديد الذي قام الرئيس خاتمي وعدد من الوزراء بافتتاحه قبل يوم من احتلاله من قبل القوات المسلحة وذلك بعد ٣٠ عاما من العمل المكلف لبنائه.
وكان العسكريون الذين قاموا باغلاق المطار الجديد والذي وصف الاصلاحيون عملهم هذا، بانه مؤشر للنفوذ المتزايد للعسكرالموالي للمحافظين في السلطة، كانوا ولايزالون يؤكدون بان للشركتين التركيتين المسؤولتين عن قسم من اتصالات المطار، علاقات مع اسرائيل، حيث لم تشفع لهما تزكية الحكومة الاصلاحية ووزارة الاستخبارات المسؤولة عن امن البلاد.
ويبدو أن المحافظين عازمون علي تشديد الخناق علي الحكومة الاصلاحية التي اصبحت وبعد اقصاء الاصلاحيين من البرلمان تعاني من الضعف الشديد.
ويعتقد المحللون ان اتهام المحافظين الايرانيين للحكومة التركية الحالية بالتودد مع اسرائيل تتم في وقت تشهد العلاقات بين انقرة وتل ابيب اسوأ فترة في تاريخها. اي انهم
ــ اي المحافظين الايرانيين ــ لم يفرقوا بين قوي قومية علمانية تركية كانت تعطي الاولوية للتعامل والتعاون العسكري والاقتصادي والسياسي مع اسرائيل وقوي اسلامية اخذت تبتعد عن الكيان الصهيوني رويدا رويدا.
ويبدوان الغاء الاتفاقيات مع شركتي (ترك سل) و(تاو) سيحرج المثقفين الدينيين المهيمنين علي الحكومة في تركيا حيث يعلّقون آمالا علي الصداقة مع اقرانهم الايرانيين.
فلم تكن العلاقات التركية ــ الايرانية مرشحة للتوتر في المدي البعيد والاستراتيجي لاسباب ذكرناها آنفا وذلك بالرغم من تعثر العلاقات التركية ــ الايرانية هذه الايام.