البرزاني وتهديده بالحرب دفاعا عن كردية كركوك: هل سيستفيد الاكراد من اضعاف العراق؟
عوني فرسخ
في مؤتمره الصحفي في العاصمة التركية انقرة، غداة انتهاء زيارته لها يوم الثلاثاء الثاني عشر من تشرين اول / أكتوبر الجاري، هدد السيد مسعود البرزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ بالحرب دفاعا عما أسماه كردية كركوك. وقد نقلت عنه وكالة الانباء الفرنسية قوله: أي كان يرغب في مواصلة تعريب كركوك، أو قمع الشعب الكردي، فسوف ندافع عن حقوقنا ونحن مستعدون لخوض معركة من أجلها. وفي محاولة طمأنة مضيفيه الاتراك ختم تصريحه بايضاح ان قوله بكردية مدينة كركوك لن يؤثر علي مصالح غير الاكراد من مواطنيها ذلك لانها مدينة عراقية.
وأن يأتي التهديد بالحرب في حال المساس بحقوق الاكراد و كردية كركوك بعد عام ونصف العام من الاحتلال الامريكي والبريطاني للعراق، والتحولات التي أحدثها الغزاة وعملاؤهم في ميزان قدرات وأدوار نخب الجماعات الاجتماعية العراقية، وبخاصة تلك المتحالفة استراتيجيا مع قوات الاحتلال، يغدو مبررا التساؤل عن الذين سيحاربهم السيد البرزاني وحزبه الديمقراطي ومليشياته، وبسلاح من سوف يخوضون حربهم، وتحت أية راية ستدور الحرب التي يهدد بها، وما هي تداعياتها المحتملة علي التراكمات التاريخية والوحدتين الوطنية والمجتمعية في العراق وعلي علاقة الأكراد بمحيطهم العربي.
فهل سيحارب السيد البرزاني وحزبه ومليشياته والقائلون بقوله من نخب وجمهور اكراد العراق قوات الاحتلال التي لم تسقط نظام صدام حسين فقط، وانما اسقطت ايضا دولة العراق، وفككت مؤسساته الوطنية، ودمرت بناه التحتية، ووضعت جماعاته الاجتماعية علي عتبات حرب أهلية؟ أم أن الزعيم الكردي ومن لف لفه سيحاربون عناصر الموساد الصهيوني واسعة التغلغل في كل نواحي العراق، خاصة في كردستان، كما تتحدث عن ذلك المصادر الاعلامية المختلفة وليس فقط الصحفي الامريكي الشهير سيمورهيرش؟ أم أن المستهدفين بالحرب التي يهدد بها الزعيم الكردي انما هم المواطنون العراقيون من غير الاصول الكردية، وبخاصة العرب منهم، الذين يري في وجودهم في شمالي العراق، وليس في كركوك فحسب، ما يهدد طموح تحكمه ورفاق دربه بمقدرات العراق حاضرا ومستقبلا؟ أم المقاومة الوطنية والاسلامية المتصدية للاحتلال هي التي سيحاربها زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ومشايعوه التزاما بارتباطات تاريخية للحزب منذ نشأته الاولي مع التحالف الامبريالي ـ الصهيوني؟ وهل ستشن الحرب المهدد بها تحت العلم العراقي بالوانه القومية العربية أم في ظل الراية الكردية؟ وما الذي يهدد التراكمات التاريخية والوحدتين الوطنية والمجتمعية في عراق اليوم ما يدعيه البرزاني من احتمالات تعريب قسري ام ما يمارسه البشمركة بأمر قيادتهم السياسية من تكريد دموي؟! وفيما يشهده شمالي العراق الاجابة الوافية عن التساؤلات السابقة، فقد تناقلت وكالات الانباء خلال الايام القليلة الماضية، ونسبته لمصادر مطلعة، أن قوات البشمركة التي تحولت مؤخرا الي ما يسمي الحرس الوطني، قامت بحفر خنادق واقامة مواقع عسكرية علي مسافة خمسة وعشرين كيلو مترا شمال الموصل، باتجاه مدينة دهوك. وأنها حشدت قوات ما بين الموصل وبلدة فايدة ـ علي مقربة من الحدود التركية - واتخذت من منطقة فايدة قاعدة لها، ورفعت فوق مباني المؤسسات الحكومية فيها صور الزعيم الكردستاني مسعود البرزاني والاعلام الكردية. وكانت قوات الاحتلال امريكية القيادة قد استثنت ميليشيات البشمركة الكردية من الحل، فيما ذكرت كثير من المصادر أن البشمركة شاركت ولا تزال قوات الاحتلال عملياتها الميدانية. ولقد تواترت الانباء حول سياسة التكريد القسري التي تمارس في اقليم كردستان ازاء المواطنين ذوي الاصول العربية والتركمانية والسريانية. إذ تقوم الجماعات الكردية المتطرفة بتهجيرهم بالقوة خارج الاقليم. ويذكر بشير عبد الفتاح ـ في البيان العدد ٩٣٧٩، الصادر في دبي في ١٤/١٠/٢٠٠٤أن اعمال عنف واعتداءات دموية اودت بحياة مئات المواطنين العرب وخلفت آلاف المصابين عند تهجير أكثر من الفي اسرة عربية من مدينة كركوك وحدها، في عملية تصفية الحسابات القديمة مع نظام حزب البعث. وانه بالتوازي مع التحرك علي الصعيد الديمغرافي في اقليم كردستان راحت القيادات الكردية العاملة في ركاب الاحتلال تجري تغييرات جغرافية في الشمال. وذلك باقتطاع اراضي من محافظات: الموصل وكركوك وديالي وضمها الي محافظات: اربيل ودهوك والسليمانية. وكان البرلمان الكردي قد اصدر قرارا بمصادرة ممتلكات العرب القاطنين في شمالي العراق منذ سنة ١٩٥٧. فضلا عن الدعاية الكردية النشطة في المحافل الدولية، وبالذات الاوروبية والامريكية، تحت شعار وقف اضطهاد الشعب الكردي ولتمكينه من نيل حقوقه القومية. ناهيك عن استغلال الواقع العربي المأزوم لانتزاع أكبر قدر مستطاع من المكاسب وصنع امر واقع كردي جديد.
وعلي الرغم من محادثات الزعيم الكردي العراقي في انقرة، التي وصفت بالايجابية، ومحاولته تطمين مضيفيه الاتراك بشأن مصالحهم وحاضر ومستقبل المواطنين العراقيين ذوي الاصول التركمانية، إلا أن تصريحه الصحفي قبيل مغادرته استفز مشاعر القلق في الاوساط السياسية والعسكرية التركية التي بادرت لعقد سلسلة من الاجتماعات القيادية، استهلت باجتماع الرئيس سيزار بكل من رئيس اركان الجيش الجنرال اوزكوك ورئيس الوزراء أردوغان. وتلاه عدة اجتماعات شارك فيها رئيسا الوزراء والاركان ووزيرا الخارجية والدفاع ورئيس المخابرات العامة وأركان المؤسسة العسكرية. وهي المؤسسة الاشد تأثير في صناعة القرار الرسمي التركي.
وذكرت صحيفة جمهوريت التركية انه جرت في تلك الاجتماعات دراسة الوضع في العراق، والمشاهد السيناريوهات المحتملة. فيما اشارت بعض المصادر الي أنه تم الاتفاق علي توسيع شبكة المخابرات التركية في شمالي العراق. ولقد صدر في ختام تلك الاجتماعات بيان رسمي تضمن ما نصه: إن الاجتماع الذي عقد علي مستوي رفيع هدف الي تقييم الاوضاع في العراق، والمرحلة الانتقالية التي يمر بها، والاوضاع الامنية السائدة فيه، وانعكاساتها علي المواطنين الاتراك العاملين هناك. الي جانب الاجراءات التي يمكن لتركيا اتخاذها ومساهمتها في مساعدة العراق لتجاوز هذه المرحلة في اطار المحافظة علي وحدته الوطنية وتماسكه. ومع أن ايا من العواصم العربية التي زارها السيد مسعود البرزاني وسواه من القادة الاكراد لم تشهد بعض الذي شهدته انقرة من اجتماعات، ولم يصدر عنها بعض الذي صدر عن العاصمة التركية من تحذيرات، إلا أن مخاطر ما يجري في العراق هي باليقين اشد اضرارا بالواقع العربي فضلا عن مساسها الخطر بالعلاقات العربية ـ الكردية حاضرا ومستقبلا. ذلك لأن عملية التكريد الدموي الجارية في شمالي العراق إنما تطال مواطنيه العرب بالدرجة الاولي، فضلا عن انها تجري علي ارض قطر مؤسس لجامعة الدول العربية، ومن اشدها تأثيرا في حاضر الامة العربية ومستقبلها، وأي مساس في أمنه واستقراره ووحدة ترابه الوطني ونسيجه الاجتماعي له تداعياته الخطرة علي مدي الساحة القومية العربية، وبخاصة علي الصراع التاريخي الممتد مع التحالف الامبريالي ـ الصهيوني وسعيه لتوظيف قضايا اقليات الوطن العربي في المضي بالواقع العربي من التجزئة الي التفتيت.
وليس من شك أن السيد مسعود البرزاني والقادة الاكراد رفاق دربه ما كانوا ليسمحوا لقوات البشمركة المؤتمرة باوامرهم ان تفعل الذي تفعله في شمالي العراق لولا يقينهم أنهم مهما غلوا في ممارساتهم العنصرية شديدة العداء للعرب والعروبة انما يحظون بمباركة ودعم قوات الاحتلال بقيادتها الامريكية. فضلا عن يقينهم بأن العرب في العراق وخارجه يعيشون ولمدي زمني غير منظور حالة غير مسبوقة من افتقاد المنعة خاصة علي المستوي الرسمي. وبالتالي شعور البرزاني ورفاقه بان الابواب باتت مشرعة لتحقيق الطموحات والاحلام التي طالما راودت خيالهم، لا سيما والمناخ الدولي بات مساعدا للغاية.
والسؤال المحوري والحال كذلك: هل إن هذا الذي يجري في شمالي العراق يخدم المصالح الحقيقية لاكراد العراق وفيه التلبية الحقة لحقوقهم الوطنية المشروعة باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني العراقي؟ أم أنه في التحليل الاخير يدمر تفاعلاتهم التاريخية مع مواطنيهم العرب وينذر بعواقب وخيمة علي مستقبلهم السياسي والاجتماعي، فضلا عن تدميره علاقتهم المستقبلية مع الامة التي كانت لهم في تاريخها ادوار مشهودة ولهم في ثقافتها اسهام مذكور؟ واليس فيما يجري دلالة، أن القيادات الكردية لا تتعلم من تجاربها المرة مع القوي الخارجية التي طالما وظفت حراك هذه القيادات في خدمة مصالحها حينا من الدهر ثم تخلت عنها بعد أن حققت غرضها من تحريكها وتركتها تدفع ثمنا غاليا لعدم وعيها أنها وعرب العراق شركاء مسيرة ومصير، وأن لها بينهم انسباء واصهارا ومصالح دائمة.
وفي تقديري ان امكانية اقامة نظام فيدرالي في العراق هي الاحتمال الارجح في ضوء معطيات الواقع الراهن. واغلب الظن ان يتواصل تمتع اقليم كردستان بواقع هو أكبر من حكم ذاتي واقل من دولة. بل ومن غير المستبعد أن يعطي الاقليم الكردي دورا مؤثرا في صناعة القرار العراقي بأكثر مما تؤهله له امكانياته المادية وقدراته البشرية. ولكن ما هو الثمن الذي سيدفعه الشعب الكردي لذلك، وما هو مردوده العملي علي قدرات العراق ودوره الاقليمي ومكانته العالمية؟
أليس في ذلك مساس خطير بالوحدة الوطنية العراقية، والنسيج الاجتماعي الوطني العراقي الذي يشكل الاكراد جزءا حيويا فيه؟ وإذا كان مستحيلا ـ كما قلت في مقال سابق ـ أن يلعب أكراد العراق دور الصهاينة، أو أن تقوم في شمالي العراق اسرائيل ثانية، إلا أنه في حكم المؤكد أن علاقات نخب الاكراد وجمهورهم بمحيطهم العربي ذات السمة الايجابية الغالية عبر التاريخ لن تبقي علي حالها، وعلي الاغلب ان يعتريها الفتور إن لم تتحول للعداء بسبب مجمل مواقف وممارسات القيادات الكردية في العراق المحتل. فهل هذا في مصلحة الاخوة الاكراد علي المدي الطويل؟
ثم هل في مصلحة اكراد العراق اضعاف المجتمع العراقي قدراته وافتقاده المنعة تجاه المداخلات والضغوط الخارجية، نتيجة فرض نظام فيدرالي علي اسس فئوية. نظام لا يعدو كونه تعميقا للتجزئة الاجتماعية القائمة في العراق وإن احتفظ بوحدة ترابه الوطني، وابقي علي حكومة مركزية تمارس صلاحيات فيدرالية. حيث أنها سوف تكون مجرد سلطة محدودة القدرات والفعالية بحكم محدودية مواردها المالية وقدراتها البشرية وافتقادها السيادة الفعلية علي كامل ارض العراق. ويقينا ان اضعاف العراق نظاما ومجتمعا علي هذا النحو ليس في صالح أي من الجماعات الاجتماعية العراقية خلافا لما يحلم به صقور بعض هذه الجماعات. وأي أجدر بالقتال لاجله وحدة العراق الوطن والشعب والنسيج الاجتماعي، أم طموح فئوي ـ وإن كان مشروعا ـ يؤدي الي تعميق التجزئة الاجتماعية واضعاف المنعة الوطنية وفتح الابواب علي مصاريعها للمداخلات والضغوط الخارجية؟
سؤال لا أحسب أن لدي السيد مسعود البرزاني جوابا عنه، ولكنني واثق أن الاجابة عنه معروفة عند اولئك الاخوة الاكراد الحريصين علي تنامي التفاعلات التاريخية مع الامة العربية، والذين لهم وجودهم المؤكد في عراق المقاومة والصمود ووضع النهاية الحاسمة للطموحات الامبراطورية وأحلام إقامة الشرق الاوسط الكبير المكون من كنتونات عرقية وطائفية تديرها اسرائيل في الفلك الامريكي بعد تصفية القومية العربية التي يهدد بمحاربة رموزها في العراق المحتل السيد مسعود البرزاني.