يشير الواقع الفكري والسياسي في البلدان العربية إلى
وجود الكثير من الحالات المرضية والإشكالات التي قادت
وتقود إلى خلق وضع مأساوي تلفه التراجعات والإنتكاسات
على جميع الأصعدة. ويمكن الإستدلال على ذلك من خلال
الرجوع إلى تقريري الأمم المتحدة للعامين ٢٠٠٢-٢٠٠۳
الخاصين بالتنمية الإجتماعية / الإقتصادية في البلدان
العربية واللذين تم اعدادهما من قبل أكاديميين وأخصائيين
عرب، وانه لمن الطبيعي أن يتطلب هكذا وضع بائس ضرورة
طرح البدائل الناجعة لمعالجته بشكل جدي. وهكذا فرضت
فكرة الإصلاح نفسها على الواقع المعاش. ومع اتفاق
الجميع على أن الإصلاح يجب أن يبدأ بإصلاح البنى
السياسية الرسمية، إلا أن رد الفعل الصادر عن النخب
السياسية الرسمية المتربعة على العروش مخيب للآمال.
وأزاء ذلك يتحمل المثقفون العرب مسؤولية كبيرة في رفع
وعي المواطن العادي إلى المستوى المطلوب من أجل تفجير
طاقاته وتثوير امكاناته، على أن الشيء الذي يثير الأسى
والأسف هو غياب، أو هشاشة، دور المثقف العربي في تحمل
مسؤولياته التاريخية وعدم قدرته على استيعاب تعقيدات
الوضع ليتم، من ثم، استشراف آفاق المستقبل الواعد. ان
الواقع يظهر تطابقا أو تقاربا في المواقف ما بين المثقف
العربي ورجل الشارع الإعتيادي ازاء التحديات والتطورات
التي تحدث في المنطقة، وهو أمر يثير الشجن. ويمكن القول
بان أكبر محك لإختبار واقع الوعي في العالم العربي في
الوقت الراهن هي الحالة العراقية، فلا يخفى على أحد أن
غالبية الشارع العربي والمثقفين العرب تقف ضد الوضع
القائم في العراق، لهذا السبب أو ذاك. وحسبما تعكسه
وسائل الإعلام فإن المثقفين المصريين، من أمثال مصطفى
بكري وعبد الحليم قنديل ومحمد رميح، يتميزون بتماديهم
في معاداة الوضع في العراق. ولاشك ان هناك أسبابا تقف
وراء اندفاع المثقفين المصريين في الإتجاه المشار اليه
أعلاه. وتأتي في مقدمة الأسباب قضية التلبس باللبوس
القومي لحد الإختناق.
ان التلبس القومي في مصر قابل للنقاش، فالفكر القومي
العربي لدى المصريين تطور في أواخر الثلاثينات وأوائل
الأربعينات من القرن العشرين، وخاصة بعد تاسيس الجامعة
العربية وادراك المصريين ان امتدادهم النهضوي هو في
المدى العربي، وكان الفكر القومي العربي قد ترسخ في مصر
على يد جمال عبد الناصر نتيجة سيرته العسكرية واشتراكه
في حرب ١۹٤٨، حيث طمح عبد الناصر إلى أن تكون مصر،
بقيادته، زعيمة العالم العربي.
انه لمن المعروف تاريخيا بأن الفكر القومي العربي نشأ في
الشام قبل مصر لأن سوريا لم تواجه النير الإستعماري
المباشرللدول الأوروبية. فكان توجهها ينحصر في التحرر
من سيطرة الدولة العثمانية على أساس قومي عربي، كما أن
محاولة الدول الإستعمارية تفتيت فكرة سوريا الكبرى قد
زادت من الشعور القومي. أما مصر فعملت على تدعيم الدولة
العثمانية من أجل مواجهة الإستعمار البريطاني. اضافة
إلى ذلك، فإن مفكري مصر لم يتبنوا الوجهة القومية،
فالأفغاني دعا إلى الوحدة الإسلامية، ومحمد عبدة
والطهطاوي دعيا إلى الإصلاح الديني ولطفي السيد وحزب
الوفد دعيا إلى خلق فكر وطني مصري.
لقد ظلت مصر متأرجحة بين الشعور الوطني المصري والشعور
القومي العربي حتى منتصف الأربعينات من القرن العشرين،
خاصة في زمن النحاس باشا، حيث لعب المثقفون والطبقة
الحاكمة دورا ملحوظا من أجل قيام زعامة للحركة القومية
العربية تكون القاهرة عاصمة لها ويكون لمصر التأثير
الأكبر عليها. ان الصراع بين مصر والعراق على زعامة
العالم العربي ليس جديدا ولكن زاد من حدته عبد الناصر،
فبعد الحرب العالمية الثانية، وبانتهاء الإنتداب
البريطاني، انتقل مركز القومية العربية إلى بغداد،
فالعراق كان في وضع جيد مقارنة بالأقطار العربية الأخرى
. فسوريا ولبنان كانتا قد تخلصتا من الإستعمار الفرنسي
منذ وقت قصير، ومصر كانت في خلاف مع بريطانيا حول
المعاهدة بين الطرفين، اضافة إلى الخلاف حول السودان.
في ١۹٤۳ طرح نوري السعيد خطته للوحدة العربية وكانت أكثر
عصرية وواقعية من خطة الملك عبد الله (الأردن) والأمير
عبد الإله(العراق) المبنية على أساس عائلي هاشمي، فخطة
نوري السعيد قضت بأن يختار سكان سوريا ولبنان والأردن
وفلسطين شكل حكومتهم، مع اعطاء حماية خاصة للمسيحيين في
لبنان ولليهود في فلسطين، في مقابل الخطط العراقية وفي
اجتماع عقد في القاهرة سنة ١۹٤٤ وبحضور النحاس تم تغليب
الخيار المصري الذي حبذ شكل الجامعة العربية على الخطط
الوحدوية الأخرى. أما الوفد العراقي فكان لديه مشروعا
آخر أحدث وأقوى ويكون أساسا لإتحاد مستقبلي.
أبان حملة نابليون على مصر (١٧۹٨ / ١٨٠١) انشطر المجتمع
المصري إلى شطرين، الشطر السلفي والشطر الليبرالي، ومع
ذلك كان لتلك الحملة أكبر الأثر على مصر، حيث انطلقت
النهضة العربية الحديثة من مصر واصبحت مصر متفوقة على
بقية أجزاء العالم العربي في امكاناتها العلمية والفكرية
والثقافية. وكان المثقفون والمتعلمون العرب ينظرون بعين
الإحترام إلى المثقفين والمفكرين المصريين ونتاجاتهم.
واليوم أيضا يتطلع كل المخلصين في العلم العربي إلى أن
ياخذ المثقفون المصريون مكانهم الطبيعي في الحياة
الفكرية والسياسية العربية وأن يشمروا كل امكاناتهم
الكبيرة لخدمة قضية الإصلاح في العالم العربي من أجل
الخروج من المآزق التي تلف المجتمعات العربية.