في نهاية العام ١۹٧٧، دخلنا الاراضي العراقية من أعلي نقطة في المثلث التركي ـ الايراني، أنا والدكتور محمود عثمان، ورسول مامند، والدكتور خالد، وشمس الدين المفتي، لأستلم موقعي كعضو في القيادة الميدانية الثلاثية للثورة العراقية المسلحة ضد النظام في العراق، والتي ضمت كذلك كلا من جلال الطالباني وعلي العسكري. وبعد وصولنا مباشرة اكتشفت ان جلال قد أرسل علي العسكري الي بغداد للتفاوض مع الرئيس صدام حسين، وجراء اعتراضي علي هذه الخطوة وتهديدي بالانسحاب من القيادة الميدانية جري عقد اجتماع صاخب بحضور بعض الشخصيات البارزة ومن بينهم انو شيروان مصطفي، الشخص الثاني بعد جلال الطالباني في حزبه، ونتج عنه اتفاق سمي باتفاق جلال ـ عوني، وكانت النقطة الأهم فيه هي الاخيرة التي تقضي بالامتناع عن العودة للتفاوض مع النظام العراقي مقابل تعهدي بالاستمرار في موقعي في قيادة الثورة العراقية المسلحة، الا ان جلال وأركان قيادته نقضوا الاتفاق بعد أيام من توقيعه وعادوا الي التفاوض، وعلي اثر ذلك تركت عائداً الي سورية.
ما يهمني من رواية هذه الحادثة هو ان جلال الطالباني وانو شيروان مصطفي، اللذين هما الآن أشد الدعاة للانفصال عن العراق، وشتم العرب ووصفهم بالمغتصبين والمستوطنين، والدعوة الي طردهم بالقوة من المناطق الشمالية، بررا حينذاك، خطوة التفاوض مع النظام بالقول بان ليس من مصلحتنا أن نقاتل العرب، فهم كانوا أكثر الدول كرماً مع الكرد، ومنحونا من الحقوق ما لم تمنحه تركيا وايران وسورية. . . وكان جلال قبلها يتغني بشعار علي صخرة الاتحاد العربي ـ الكردي تتحطم مؤامرات الاستعمار، وهو من أشاع مصطلح تعريق الثورة الكردية، أي ان الثورة الكردية من دون التلاحم مع عموم الحركة الوطنية العراقية في جانبها العربي لن يكتب لها النجاح، وهو من رَوّجَ بين الكرد مفاهيم الأخوة العربية الكردية والتلاحم الكردي ـ العربي باعتبارها الطريق الوحيد لنيل حقوق الشعب الكردي، حيث ذكر في مقدمة كتابه ألكرد وكردستان، الصادر عن دار الطليعة ـ بيروت ان وقوف الشعب الكردي في جبهة النضال الثوري ضد الد اعدائه من الامبرياليين والصهيونيين والسنتويين والرجعيين متحالفاً مع الشعب العربي الثائر هو السبيل المؤدي الي تحريره ونيل مطاليبه وتحقيقه حقوقه. . . ناهيك عن ان جلال الطالباني قاتل مع العديد من الحكومات العراقية ضد الملا مصطفي البرزاني باعتباره يسعي الي الانفصال عن العراق، حتي لَقّبَهُ البرزانيون هو وقواته بالجحوش، أما اعلان حبه للعرب أمام حافظ الأسد، ومعمر القذافي، وقيادات المقاومة الفلسيطينية، فكانت تجارته الرابحة التي كسب من ورائها الملايين من الدولارات.
اذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلا، من ان العرب شاركوا الأكراد في الوطن والمصير، تري ما الذي حدث ليصبح العرب الآن، وفي هذه الفترة بالذات، هم أسوأ الأقوام، ويجب طردهم من شمال العراق ليصبح أعداء الأمس الالداء من الامبرياليين والسنتويين والصهاينة والرجعيين حلفاء الشعب الكردي؟
قليل من يعرف أن تلك الادعاءات جميعها، ومن ضمنها حب جلال الطالباني للعرب، تدخل ضمن اطار سياسته الانتهازية، نعم الانتهازية، التي تهدف الي تحقيق أهداف ذاتية وأمجاد شخصية وثروة مادية وحياة مرفهة. . . لكن جلال لا يعوزه الذكاء والخبرة السياسية الطويلة واللعب علي الحبال والقدرة علي الخداع، كي يخفي حقيقته ويوهم الكرد بأن العرب سبب نكباتهم، وانه قد آن الأوان لتطهير منطقة كردستان منهم، وكأن المدن الشمالية ليست جزءاً من العراق، ومن حق أي عراقي أن يسكن في أي مكان من أرض العراق، سواء كان عربيا أو كردياً أو تركمانياً أو من سائر الاقليات الأخري، بدليل ان هناك أكثر من مليون كردي يسكنون في بغداد ومحيطها معززين مكرمين. ومما يلفت الانتباه ان جلال وبعض القادة الاكراد أخذوا يُحَمّلُون العرب، لأول مرة، مواقف الحكومات العراقية التي اضطهد بعضها الأكراد، متناسين ان العرب والتركمان قد نالوا نصيبهم من الاضطهاد علي يد تلك الحكومات وربما أكثر. . . بالمقابل لم ينس جلال، لتهييج مشاعر العداء ضد العرب، عزف اسطوانة حلبجة والانفال، متناسيا مرة أخري انه كان مسؤولاً أكثر من غيره لما حل بالشعب الكردي في تلك الواقعتين. . .
والمصيبة ان جلال يعرف تماماً بأن النظام العراقي لا علاقة له بهذه الحادثة، وان من قصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية هم الايرانيون، حيث ثبت بالدليل القاطع ان ايران وليس العراق من كان يملك تلك الغازات. . . ومع ذلك فان جلال ذاته كان السبب الرئيسي لتعرض هذه المنطقة للدمار بعد أن زجها في الحرب الي جانب ايران. . . ففي أحد الأيام، التي سبقت حادثة حلبجة، اجتمعنا بناء علي طلب من الدكتور محمود عثمان وعدنان المفتي، لاطلاعنا علي الرسالة العاجلة التي تسلمها الاثنان لزيارة ايران علي وجه السرعة حيث كان جلال الطالباني ومسعود البرزاني هناك، واستفسر كلاهما ان كانت لدينا أية معلومة أو استنتاج يكمن وراء هذه الدعوة الغريبة، لكننا لم نتمكن من اجابتهما لاننا فعلا لم نكن نعلم من الامر شيئاً، فشد الاثنان الرحال الي ايران وعادا ليخبرانا بان الايرانيين قرروا الهجوم علي العراق من جهة الشمال هذه المرة ومن ثلاثة محاور، الاول من بنجوين، وسيكون الحزب الديمقراطي الكردستاني دليلهم، والثاني من بيارة وطويلة، وتكون الحركة الاشتراكية الكردستانية دليلهم، والثالث من حلبجة، ودليلهم جلال الطالباني وحزبه. . . وتم الهجوم فعلاً، وهنا وقعت حادثة حلبجة.
أما الأنفال فأمرها وأسبابها معروفة، حيث كانت هي الأخري ضربة في ظهر الجيش العراقي والعراق الذي خرج لتوه من حربه مع قوات التحالف عام ١۹۹١ خاسراً، وقد أدرك جلال ومسعود وكل القيادات الكردية أخطاءهم، وذهبوا جميعهم الي بغداد ليصافحوا الرئيس صدام حسين ويقبلوه أمام الملأ بعد أن أدركوا أن الأمريكان ورطوهم في اعلان التمرد في شمال العراق مثلما ورطوا الآخرين في الجنوب. وحسب رواية محمود عثمان لي شخصيا، وهو حي يرزق، بان النظام رد التحية بمثلها وتوصل الطرفان من خلال مفاوضات دامت أربعين يوماً الي اتفاق كامل، وقد وقع الاتفاق كل من مسعود البرزاني وجلال الطالباني في أيلول (سبتمبر) ١۹۹١، وبعدها حضر الاثنان الي مبني وزارة الاعلام وعقدا مؤتمراً صحفياً حول الموضوع، الا انه، بعد عدة أيام، تَمَلّص جلال من الاتفاق بعد أن اتصل به ادوارد جيرجيان، نائب وزير الخارجية الامريكي انذاك، وأبلغه ان الادارة الأمريكية لا توافق علي الاتفاق لأنه يقوي الحكومة العراقية، ثم تبعه مسعود برفض الاتفاق.
في السنوات الأخيرة قبل الاحتلال، رغم خروج الأكراد عن سيطرة السلطة المركزية في العراق، وتحوّل منطقة شمال العراق الي محمية أمريكية، ظلت الصلة قائمة بين جلال ومسعود من جهة والنظام من جهة أخري حتي ساعة بدء الغزو الأمريكي في ١۹آذار (مارس) ۲٠٠۳، وكانت الحكومة طيلة هذه الفترة تضخ مليون برميل من النفط مجاناً للشعب الكردي، الا ان جلال ومسعود كانا يبيعان نصف هذا النفط الي الأتراك لحسابهم الشخصي. وفي مقابلة اجرتها الفضائية اللبنانية ال بي سي في نهاية عام ۲٠٠۲ بيني (عوني القلمجي) وبين جلال الطالباني وهوشيار زيباري ومعن بشور، ولمدة ساعتين، لم ينكر هوشيار زيباري هذه العلاقة رداً علي سؤالي حول هذا الموضوع.
ومع ذلك، فان جلال وغيره من القيادات والقواعد الكردية لا يحق لهم أن يُحَمّلُوا العرب ما حدث للكرد علي يد بعض الحكومات العراقية، فمثل هذه الحسبة لا تعود علي جلال وأمثاله الا بالخسارة، فالعرب في هذه الحالة لهم الحق أن يُحَمّلوا الشعب الكردي ما أصاب العراق من ويلات وكوارث كان آخرها الاحتلال وما نتج عنه من خراب ودمار جراء تحالفات قيادته مع أعداء العراق والعراقيين. . . فجلال ومسعود والقوي الكردية الاخري كانت قد تحالفت مع الأجنبي، مرة مع ايران، ومرة مع الأمريكان في عدوان ١۹۹١، والثالثة مشاركة قوات الغزو الأمريكية باحتلال العراق وتدميره وقتل ابنائه، وهؤلاء جميعهم دون استثناء اعداء العراق. . . لقد كانت الأحزاب الكردية علي الدوام طرفاً ضد العراق في حروبه المصيرية والطاحنة، أليست هذه حقيقة عنيدة وناصعة البياض؟
أذن ما هي أسباب الموقف الطالباني الجديد؟
ان دعوات جلال الانفصالية وهجومه وتعاليه علي العرب لم تأت بالصدفة أو جراء ايمان بقضية الكرد أو حتي كرهاً بالعرب، وانما جاءت تلبية لمطالب أمريكية للخروج من المأزق الذي تمر به قواتها في العراق جراء هزائمها المتكررة علي يد المقاومة العراقية. . . فهم يتوقعون ان التهديد بتقسيم العراق والتلويح بحروب أهلية وطائفية تروج لها وسائل اعلامهم قد تقنع العراقيين بضرورة بقاء قواتهم في العراق. وتلبية جلال لمثل هذه المطالب الأمريكية ليست غريبة عليه، فلقد سبق وقدّم هذا الرجل مثل هذه الخدمات سواء للأمريكيين أو غيرهم طيلة حياته السياسية أكثر مما قدّمه للقضية الكردية، بل ان القضية الكردية نفسها بالنسبة الي جلال ليست سوي بضاعة للبيع جني منها اموالا طائلة جعلته في عداد كبار الأغنياء. . .
والآن يا تري، الي أي طريق ستؤدي هذه السياسات التي ينتهجها جلال الطالباني باسم الأكراد، ولمصلحة مَن يصب تعالي جلال وازدرائه للعرب؟ وهل يظن ان تطاوله علي العرب وعلي العراق وتهديد وحدته الوطنية سيمران مرور الكرام؟. . . لقد تجاوز جلال كل الحدود، فها هو يسعي الي تقسيم العراق واشعال الفتنة بين الكرد واخوانهم العرب الذين ناصروا القضية الكردية وسيظلون يناصرونها ليس في العراق وحده وانما في سائر اجزاء كردستان.
بالمقابل علي الأكراد أن يتفهموا بان حقوقهم القومية لا تتحقق بالتحالف مع القوي الأجنبية، وتجربتهم مع ايران وأمريكا واسرائيل خير دليل علي ذلك، وانما تتحقق في ظل عراق حر ومستقل وموحد وديمقراطي، ومن دون ذلك تبقي القضية الكردية ورقة تستخدمها هذه الجهة أو تلك لتحقيق مصالحها، ومتي انتهت منها ستتخلي عن هذه الورقة دون مقدمات، وهذا ما سيحدث بعد أن تُهْزَم أمريكا في العراق عاجلاً أم آجلاً.