كعادتهم احتل الأتراك أوائل الشعوب التي أعربت عن استيائها وقلقها من سياسات أمريكا في العالم. ففي الاستطلاع الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية الـ BBC في ٢۱ دولة وشارك فيه ٢٢ ألف إنسان،اعتبر ٨٢ في المائة من الأتراك أن إعادة انتخاب جورج بوش تشكل تهديدا للأمن الدولي. وجاء الأتراك هنا في المرتبة الأولى تلاهم الأرجنتينيون (٧٩ في المائة) والبرازيليون (٧٨ في المائة) فالألمان (٧٧ في المائة).
ولم يغادر الأتراك مواقعهم المتقدمة،فحول التأثير الأمريكي في العالم وما إذا كان سلبيا أم إيجابيا،أجاب ٦٢ في المائة من الأتراك أنه سلبي محتلين المرتبة الثالثة بعد ألمانيا (٦٤ في المائة) وروسيا (٦٣ في المائة)،وتلتهم كندا(!) وفرنسا وانجلترا.
ويرى المعلق التركي في صحيفة «ميلييت» طه أقبول أنه كما تركيا قدمت دعما كثيرا للولايات المتحدة،فهي أيضا قد حصلت على دعم في كثير من القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية ومحاربة الإرهاب،من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
مع ذلك يطرح المراقبون تساؤلات عن سبب الكراهية التركية لواشنطن وسياساتها ولاسيما في هذه المرحلة. ولا يحتاج المرء لكثير عناء ليعثر على جواب حاسم وهو افتراق السياسات الأمريكية والتركية في العراق،من الأكراد وحزب العمال الكردستاني وصيغة البلاد المستقبلة ودور التركمان وما إلى ذلك.
وينقل جنكيز تشاندار في صحيفة «ترجمان»،عن ديبلوماسي أمريكي عدم تفاجؤه بالنتيجة. ففي الآونة الأخيرة ولاسيما بعد معركة الفلوجة شاع مناخ من العداء لأمريكا بحيث أن أحد نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم،وصف موقعة الفلوجة وقتل الأمريكيين المئات من سكانها بأنها «إبادة» وأنها أسوأ من المحارق التي ارتكبها الألمان بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية.
وهذا العداء لأمريكا داخل تركيا،استدعى نائب وزير الخارجية الأمريكية ريتشارد أرميتاج،أثناء زيارته لأنقرة قبل أسبوعين،لينقل قلق إدارته من المناخ المعادي لها الذي لا تقتصر تأثيراته على الداخل التركي. وكرر الجنرال جون أبي زيد هذا القلق أيضا أثناء لقاءاته مع المسؤولين الأتراك.
ويعدد الأتراك أسبابا عدة لتنامي وتراكم الكراهية لأمريكا داخل تركيا بدءا من حادثة السليمانية في يونيو ٢۰۰٣ حيث ألبس الأمريكيون أكياسا في رؤوس جنود أتراك ثم الهجوم العنيف على مدينة تلعفر التركمانية (الشيعية)،فمحاولات الأكراد تغيير الهوية الديموغرافية لكركوك وحماية أمريكا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني الموجودين في شمال العراق،ثم معركة الفلوجة الشهيرة.
ومع أن وزير الخارجية التركي عبدالله غول حاول التخفيف من المناخ السلبي تجاه أمريكا بقوله: «إن علاقاتنا مع أمريكا على ما يرام في كل شيء» فإنه هو نفسه قال بعد أحداث تلعفر إن أنقرة قد تنهي علاقاتها مع أمريكا.
ولاشك أن الانتخابات العراقية التي ستجري في الثلاثين من يناير الجاري،قد ترتفع بالتوتر في العلاقات بين أنقرة وواشنطن إلى مستويات قياسية لأكثر من سبب:
۱ - إن الانتخابات تجري في ظل مقاطعة سُنية. وهو ما يعني أن الفوز سيكون مؤكدا للشيعة والأكراد على حساب السنّة. وسيحدد الرابحون مستقبل العراق والدستور الجديد ما يعني قيام معادلة جديدة في العراق نقيض ما كانت عليه طوال عقود من هيمنة العرب السنّة على حساب الشيعة والأكراد. ورغم علمانية النظام التركي إلا أن نخبه،علمانية أم إسلامية،ترى في المعادلة الجديدة تقويضا لأحد أعمدة «النظام الإقليمي السنّي». وتحمل أنقرة واشنطن،بغزوها العراق،مسؤولية هذا التحول.
٢ - رغم وعود واشنطن لأنقرة خلال زيارة ريتشارد ارميتاج،فإن كركوك،مع السماح لمائة ألف كردي مهجر منها بالتصويت في الانتخابات،ستكون أمام احتمال قوي بتغيير هويتها الديموغرافية،وسيجد أكراد العراق مبررا قانونيا للمطالبة بضمها إلى الفيدرالية الكردية.
٣ - تشكك أنقرة في نوايا أمريكا تجاه حزب العمال الكردستاني،وحمايتها له. أكثر من ذلك لا تفهم أنقرة أسباب السماح لحزبين كرديين عراقيين مواليين لحزب العمال الكردستاني،بالمشاركة في الانتخابات وتعتبره ابتزازا لها ووسيلة لمزيد من الضغوط بشأن أكراد الداخل التركي.
وصف بوش علاقة أمريكا بأوروبا بأنها زواج من دون حب»،وهكذا علاقة واشنطن بأنقرة. فمهما تصاعد التوتر بينهما فلا يمكن أن يستغنى أحدهما عن الآخر.