...تسعين التركمانية تبكي للحسين(ع) ولشهدائها يوم عاشوراء
عاصف سرت توركمان
مع حلول اليوم العاشر من شهر محرم وذكرى استشهاد سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه أفضل الصلاة والسلام، ومع حلول اليوم الذي انتصر فيه الحق يوم استشهاده واستشهاد أهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين، ومع حلول اليوم الذي أبكى من كان في المهد، رجعت بي الذاكرة إلى طفولتي والى مدينتي تسعين التي خلدت في ذاكرة التاريخ، والى ذ كرياتنا في ليالي محرم. ومع حلول شهر محرم بما فيه من قدسية وتضحية وتاريخ كنا نتوجه أطفالا مع النساء والشيوخ إلى الحسينيات التي كانت تعد المدارس العلمية التي تدرس فيها كافة العلوم الدينية والدنيوية، وتعلم الناس منهاج حياتهم لمجابهة الصعوبات التي سيواجهونها في المستقبل. تسعين بحد ذاتها كانت مدرسة علمت الأدب والأخلاق الفاضلة وتخرجت منها خيرة شباب التركمان الذين ضحوا في سبيل عقيدتهم ووطنهم. تسعين كانت قلب موكب الحسين (ع) يتوافد إليها الناس من كل مكان، وحتى في ليلة العاشوراء كان الجنود الشيعة يقتحمون المعسك رات التي تمنعهم من المشاركة في الموكب ويأتون أفواجا مرددين اللطميات وكأنهم جاءوا لنجدة الحسين (ع) ونجدة أهل تسعين يوم عاشوراء. وفي يوم من الأيام عندما كنا نلعب في مزارع تسعين هبت عاصفة هوجاء غطت السماء غمامة سوداء وعصفت بنا الرياح منذرة بقدوم السنين العجاف وجلبت هذه العاصفة نظام البعث إلى العراق وضربت كركوك في القلب.
كنا وقوفا ذات يوم أمام حسينية مريم رؤوف وإذا بسيارة محملة بغربان النظام وقفت أمام الحسينية وبدأت أياديهم تؤشر نحونا وتهتف بهتافات (تسعين قلعة للبعث موتوا يا رجعية). . . وبدأ كل واحد منا ينظر إلى الآخر ويتساءل، يا ترى من وما المقصود؟ ولماذا يهتف هؤلاء؟ وإذا بأحد كبار السن يتوجه إلينا وينصحنا بعدم الرد وبعدم الانفعال. كانت هذه بداية قصة الظلم الطويلة التي شهدتها مدينة تسعين الآمنة التي أصبحت في ذاكرة التاريخ بعد أن دمرها النظام وشتت أهلها، فالحملة الفعلية الأولى ضد هذه المدينة بدأت في بداية السبعينات عندما شوهدت الشاحنات المكشوفة تقل العوائل التركمانية إلى المصير المجهول. وكانت هذه الشاحنات متمركزة أمام مركز شرطة تسعين في يوم قارص من أيام شهر شباط، واقتربنا منها لننظر عن كثب ولنتعرف على هوية ركابها وإذا بالأطفال والنساء والشيوخ من منطقتنا والكل يرجف من الخوف والبرد وزخات المطر قد بللت أ جسامهم، واٍذا بأمهات أصدقائنا يبكين ولم نستطع معرفة السبب إلا من الشرطي الواقف أمام مركز الشرطة والذي لا حول له ولا قوة حيث أجابنا وبكل شدة بأن هؤلاء ليسوا بعراقيين وأنهم من أصول ايرانية. واستغربنا كثيرا من جواب الشرطي لان هؤلاء ألاشخاص نعرفهم حق المعرفة لان آبائهم وأجدادهم قد ولدوا في هذا الوطن وفي تسعين بالذات. وما هذه الادعاءات الباطلة؟ وعلمنا حقيقة الأمر فيما بعد حيث أن قوات الأمن والاستخبارات العراقية كانت ق د دخلت هذه البيوت ليلا وجمعت العوائل التركمانية وهددتهم بالقتل إذا حاولوا الصياح والاستغاثة واشعار أهل المنطقة بما يجري. ومن يجرأ على اٍنقاذهم من بين مخالب الذئاب؟
وبدأت أصوات النساء والأطفال تعلوا مع بدء السير البطيء للشاحنات وبدأنا نركض معهم وأيادي أصدقائنا تلوح لنا وتودعنا وفي وجوههم نظرات أمل الرجوع وتقول انتظرونا، سنرجع يوما ما إنشاء الله. . . وسنرجع إلى الأرض التي ولدنا فيها والى كركوك التركمانية ديار آبائنا وأجدادنا. . . سنرجع يوما غانمين ظافرين وحاملين معنا الراية الزرقاء وراية الحسين (ع) ومشاعل النصر المضيئة ولا تنسوا زيارة قبور موتانا ولا تنسوننا من دعواتكم.
وسارت قوافل المرحلين التي تقل التركمان من تسعين وبشير وتازة خورماتو وداقوق وإمام زينل العابدين وطوز خورماتو بحجة التبعية ولم تسلم المناطق التركمانية الاخرى مثل كفري وخانقين ومندلي من هذه العمليات، وسيق بآلاف التركمان الى الحدود العراقية - الإيرانية وتركوا في العراء بعد أن تعرضوا للشتم والضرب وأهينت كرامتهم، وقيل لهم اذهبوا إلى إيران والى وطنكم. . . ولكن عن أي وطن يتكلمون؟ ان العراق هو وطنهم ووطن آبائهم وأجدادهم سكنوها قبل آلاف السنين، العراق هو وطنهم وقد ضحوا من أجله وقدموا أنفس ما يملكون، ولكن من يسمع ومن يعقل، لقد (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشا وة ولهم عذاب عظيم).
كانت هذه بداية سياسة ترحيل التركمان من كركوك وقراها وضواحيها تبعتها سياسة هدم القرى والأرياف التركمانية في كركوك حيث هدمت عشرات من القرى وتفرق أهلها واجبروا على الرحيل. وبقيت ذاكرة العوائل المرحلة من تسعين في قلوب الجميع ولكن العواصف لم تهدأ فاذا برجال الأمن قد توغلوا في تسعين من جديد وقوائم الأسماء في أيديهم لتغتال خيرة شبابها حيث قدمت تسعين أكثر من ٥٠٠ شهيد وأجبرت عوائلها على الرحيل. وهدمت مئات البيوت بحجة توسيع الشوارع ولحقها مشروع إنشاء محطة القطار الجديدة في تسعين حيث أخليت مئات أخرى من البيوت التركمانية وبعدها أعلن عن عدم صلاحية الشريط الواقع بين المشروعين للسكن وبحجة الخوف على سلامة المواطنين، ولكن عن أي سلامة يتحدثون؟ وهل السلامة تتحقق بقتل أولادها؟ وبهذا تمكن النظام من القضاء على مدينة تسعين وتشتيت أهلها بعد أن تم تدميرها بالكامل. لقد سقطت البيوت التي كانت فيها تاريخ المنطقة وسقطت المنارات وقبب الحسينيات التي كانت مدرسة العلوم.
وعلى الرغم من عملية ترحيل التركمان القسرية من كركوك العراقية فأنها لم تفقد خصوصيتها التركمانية فهناك مئات آلاف من التركمان ينتظرون الرجوع إلى مدينتهم حيث يقدر أعداد التركمان المرحلين من كركوك والقرى والضواحي التابعة لها بأكثر من ٥٠٠ ألف تركماني تم تثبيت أسمائهم وحسب إحصاءات سنة ١٩٥٧م المعت رفة بها من قبل الجمهورية العراقية.
نعم سيرجع أهل تسعين إلى تسعين ليبنوها من جديد ولكن بإيمان وعزيمة أقوى وسيرجع التركمان الى ديارهم وسترتفع أصوات المآذن من جديد وسيعود موكب شهداء تسعين ليشاركوا في عاشوراء الحسين(ع) وأهل بيت رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.