إن التناول الموضوعي لأي أمر هو الإثبات الأمثل لصحة النظرية التي ينادي بها الكاتب، وللأسف فأن هناك من يحتقر ذكاء القراء فيحاول أن يمرر معلومات خاطئة يوحي بأنها مستقاة من مصادر تاريخية وعلمية موثوقة على أمل قبول القراء بها كأمر واقع.
وقد أخطأ السيد تيلي أمين(محام من العراق) في تناوله لموضوع كركوك باعتبارها مدينة التعايش السلمي في مقال نشر في جريدة "الزمان"، فقد اعتبر في عنوان مقاله أن حل أزمتها واضح، والواضح في هذا أن القاريء يجب أن يقبل بمقولته وإلا فأنه يكون غير موضوعيا، شأن الكاتب المصري السيد صبري طرابية الذي تناول السيد أمين طروحه الخاصة بمدينة كركوك مصادرا حقه في استقراء الموضوع وتثبيته.
والسيد أمين يعترض على تناول الكاتب طرابية للموضوع متسائلا عن الطرف الذي يريد الاستئثار بكركوك، إلا أنه يستطرد فيقول بأن الرؤية الكردية تتلخص في أن كركوك مدينة وأرض كردستانية عراقية ويجب أن تلحق بإقليم كردستان مقررا بأن هذا أمر لا يقبل المساومة. وأترك لفطنة القاريء أن يحلل هذا المنطق بما يعقبه من أن الكرد لا يعتزمون ولا يخططون للاستئثار بها منفردا!
والكاتب هنا يتعمق فيقول بأن السيد طرابية يدرك تماما حقيقة كركوك وأحقية الكرد وشرعية اعتزامهم ضمها إلى إقليم كردستان العراق، أي أنه يقول فيما معناه أن السيد طرابية لا يعلم ما كتب عنه وأثبته بواقع المصادر والوثائق وأن السيد أمين هو أعلم بما يجب أن يخطه يمين السيد طرابية!
ويعترض الكاتب في جملة ما يعترض عليه على ما أورده السيد صبري طرابية حول تقدير نفوس التركمان بمليوني نسمة على الأقل وأن أغلبهم يعيش في كركوك فيقول بأننا لا نستطيع إقرار أية نسبة أو عدد للتركمان أو للكرد أو للعرب إلا بعد إجراء التعداد السكاني العام، إلا أنه لا يمنع \نفسه من الاستطراد بأن الواضح أن كركوك كانت ذات أغلبية كردية كبيرة على امتداد تاريخها في مسخ واضح لما يقرره هو بالذات.
وكنت أتمنى أن لا يقع السيد أمين في خطأ الإتيان بمعلومات محرفة فهو يذكر أن الإحصائية التركية لعام ١۹١۹ تذكر عدد الأكراد في كركوك باعتباره خمسة وسبعين ألفا والترك بخمسة وثلاثين ألف والعرب بعشرة آلاف. ولو كان يملك فعلا الوثائق التي ذكر أنها تتحدث عن العدد لرأى أنها الأرقام التي قدمت في مفاوضات مسألة الموصل واستنادا على تسجيلات رسمية يفترض فيها الموضوعية لأنها كانت الأساس في إثبات حق الملكية والضرائب والأحوال الشخصية.وتفيد هذه الأرقام والتي قدمت للطرف البريطاني بأن الأكراد في مجمل لواء كركوك بمركزها أقضيتها ونواحيها وليس في مدينة كركوك هم بواقع سبعة وتسعين ألفا والترك تسعة وسبعين ألفا والعرب ثمانية آلاف، وان مجمل سكان ولاية الموصل من الأكراد هم ٢٦٣,۸٣٠ نسمة والتركمان ١٤٦,٩٦۰ والعرب ٤٣,٢١۰ واليزيديون ١٨,٠٠٠ وغير المسلمين ٣١,٠٠٠ من مجموع سكان الولاية البالغ عددهم ٥٠٣,٠٠٠ نسمة.ويمكنه الرجوع إلى ملفات الحكومة البريطانية والمنشورة في أكثر من مصدر للتحقق من هذه المعلومة.
كما يقول السيد أمين أن الإحصاء الذي أجرته الحكومة العراقية عام ۱٩٢٢ قد أثبت أن الأكراد في ولاية الموصل هم٤٩٤,٠۰۷ والتركمان٣۸,٦٥٣ نسمة وفي هذه المعلومة اثنتان من الأخطاء فالحكومة العراقية لم تقم بمثل هذا الإحصاء والدولة في العراق تأسست عام ۱٩٢٣ والأرقام التي يشير إليها هي أرقام الجانب البريطاني حول مفاوضات الموصل فقد أورد الجانب البريطاني بأن منتسبو الجيش البريطاني قد أجروا إحصاء دقيقا بزيارة كل مدينة وقرية ومنطقة. وبالرغم من عدم صحة هذا الادعاء وبالرغم من استماتة الجانب البريطاني في تقليل عدد التركمان فأن اللورد كورزون كبير المفاوضين البريطانيين كان أكثر إنصافا من السيد أمين فقد ذكر أن التركمان في ولاية الموصل هم ٦٦,٠٠٠ نسمة وليس ٣٥,٠٠٠ كما قرر السيد أمين أن يكونوا!
يقول السيد أمين بأن قانون إدارة الدولة العراقية قد رسم الطريق الصحيح لحل مسألة كركوك والمناطق المتنازع عليها والاحتكام إلى رغبة سكان كركوك لاختيار الإقليم الذي يرغبون العيش فيه، فلماذا يطبق ذلك على كركوك فقط ولا يطبق مثلا على أربيل ذات الوجود التركماني ودهوك ذات الوجود الآشوري والسيد أمين نفسه يقول بأن من غير الممكن تقدير أغلبية أية مدينة دون وجود إحصاء دقيق ودون الاحتكام إلى رغبة سكان المدينة.
وللحقيقة فأن السيد أمين لم يكن موفقا في قوله بأن الكرد قد اختاروا إعادة كردستان المستقلة منذ أكثر من عشرة سنوات بحكم الواقع إلى كيان الدولة العراقية رغم أن تكوين الدول والاستقلال وفقا لحق الشعوب في تقرير مصيرها ليس محرما في الشرع الدولي. فمنطقة الشمال العراقي لم تكن مستقلة بل محمية بقرار دولي لمنع النظام الصدامي من الاعتداء على سكانها ولم تكن هناك حكومة بل كانت ولا زالت حكومتان محليتان، وحق تقرير المصير ليس كما يفهمه السيد أمين بل أن تفتيت الدول المستقلة والموحدة بدعوى تقرير المصير محرم دوليا بموجب إعلان فينا لعام ١۹٩٣، ويمكن للسيد أمين أن يرجع إلى مقررات المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان ليرى طبيعة هذا القرار.
إن هوية كركوك التركمانية موثقة في الكثير من الوثائق والمصادر العالمية ولا أريد الخوض فيها إطلاقا فالغرض من ذك هو إثبات عراقية كركوك وهذا أمر لا غبار عليه ولا ينفيه السيد أمين ولكنني أرجو منه أن يتمعن في الإجابة عن سؤال واحد تغنيه عن كل هذا الجدل. فإذا كانت حقيقة كركوك وواقعها كردية منذ الأزل كما أحب السيد أمين أن يكون فلماذا أورد تعهد الحكومة العراقية المصادق عليه في اجتماع مشترك لمجلسي النواب والأعيان والذي اعتبر تعهدا يسبق كل القوانين والتعهدات المحلية النافذة أن كركوك وكفري ذات طابع تركماني طاغ. هل كان ذلك خطأ مطبعيا في التعهد الذي قدم لعصبة الأمم تمهيدا للاعتراف بسيادة العراق واستقلاله؟